كان شابا في مقتبل العمر ، لا أحد يعرف اسمه الحقيقي. كانوا ينادونه نوارْ ؛ لأنه كان يحافظ على كل ما تنبته الأرض من نباتات وأعشاب وأزهار برية، تلك التي تنمو كما يحلو لها وبكل حرية في الطبيعة، بين أحضان قرية دافئة بناسها ، من ظهر منهم ومن خفي. من يرى هيأته يفكر بأنه فقير ومعوز، بالرغم من نظافته التي لم يكن يشبهه فيها أحد في القرية مهما اعتنى بنفسه ومهما اجتهد. هناك من كان يراه مختلا أو متأخرا عقليا، لقلة كلامه وتمعنه وتدقيقه في وجوه الناس حد الإحراج بين الحين والآخر، وكأنه يحاول حفظ ملامحهم ورسم تفاصيلها. لا أحد يعرف سر عشقه للون الأبيض، الذي حتى عندما يحول أو يميل إلى الصفرة بفعل القدم، صيفا وشتاء لا قذارة ولا تراب ولا وحل يمسه. كان له سبعة حمير وكلما رزقه الله بحمار شكره وحمده. يبيع من تعب وتقدم في السن ويحتفظ دائما بسبعة. سر العدد سبعة لا أحد يعرفه. ينظف حميره أسبوعيا في احتفالية هو وحده يحسها ويلمس تفاصيلها. يهيئ ويشتري لها كل الاحتياجات، بشكل دقيق وأنيق يخيط ويطرز البرادع والشواري ويتحفها، كمن يعتني بعمق بمستلزمات الأحصنة الأصيلة لتهيئتها لسباق أو حفلة فروسية أو زفة عروس. حميره لم تجُع يوما، حتى ولو حدث وجاع هو. له معها لغة خاصة تفاجئ الجميع وكأنه يكلم مجموعة من البشر أو الجان ، يعطيها الأخبار والتعليمات كأنها فيلق عسكري. حميره لها ساعات خاصة من الرياضة والتدريبات ولا تتنقل نهارا إلا لتلبية الحاجيات الخفيفة التي تحتاجها أمه بالخصوص أو جارهم المقعد الذي جُند لحربين عالميتين وعاد معدما بنياشين وميداليات بدأ يأكلها الصدأ. حميره «حراس القرية « كما كان يسميها البعض لا يرهقها ولا ينهرها ، حتى كلمة «ارّى» لا ينطقها. تحركاته لا تنبئ لا عن جهل ولا عن غباوة. ما كان يستغربه الناس هو الطاقيات الملونة التي كان يثبتها بحكمة على رؤوس الحمير. كانت عساكر المستعمر تحاول الاستفسار من المحيط عن وضعه النفسي، لأنه جعلها في حيرة كبيرة من أمره مع ارتباك شديد في كيفية التعامل معه، خاصة لما تجده يمسد على رؤوس الحمير واحدا واحدا، وكأن لا أحد في الوجود إلا حميره ، و هو يغني كحادي العيس. يجلس في عتبة الدار بين شجرتي الدفلى والزيتون يحمل حجرته المعتادة وكأنها منحوتة فنية لجمجمة بين يديه ويصدح: «يا راس المِحنة هذا برّك ولا جيت براني يا راس المِحنة لله كلمني» يدور يدور على نفسه وصوته يتردد صداه: « -آ كيلي جولي لا حُمّاير لا بودوري ، شوفوا رابحة كي مربوحة فوڤ الطابلة كي مشبوحة داروا دمها فالكيسان داروا لحمها فالميزان كان نوار يعيش وحيدا مع أمه التي غادرت موطنها في ظروف غامضة قبل سنوات، امرأة صامتة وهادئة لا تنطق إلا عند الضرورة، متأهبة في كل لحظة وكأن طارئا ما سيحدث. ملامح الخوف والتوجس تكسو وجهها على الدوام. لا تتوقف عن مراقبة حركات ابنها الذي يفهمها بالإشارة والتلميح. من شدة اهتمامه بحميره، علمها حتى التوقف عن النهيق ليلا، إذ يكفيه مساء أن يصفق سبع مرات متتالية، لتحني الحمير رؤوسها كمن يؤدي التحية العسكرية احتراما وإجلالا، ثم تغمض عيونها وتنام. تلك عادة نوار في دعوة حميره للاستراحة قبل تهيئها للرحلة الليلية الصعبة حيث يحملها بالأسلحة وبالمال والرسائل المخبأة بين طيات البرادع. يخترق برفقتها سواد الليل نحو الجبال الوعرة والوديان الخطيرة التي لا أحد يعرف فجواتها وأسرار معابرها غيره. بعد أن داهموا بيته مرات ومرات في الأوقات التي يشتهونها ليلا ونهارا، ولَم يجدوا إلا الحيطان المغطاة برموز ورسومات ما خلق الله من أشكال الحمير وأنواعها، وما تخيط يداه مع أمه من شواري وبرادع وقبعات، مكدسة في كل مكان. أقنعوا أنفسهم حينها بأن الرجل مخبول وممسوس؛ فجعلوا منه وسيلة للتهكم وخلق النكت البذيئة لتمضية وقتهم في لحظات الملل؛ لأنهم لم يتمكنوا من اكتشاف أي شيء مريب في تلك القرية. وحده كان يعرف مسبقا أن الحمير مثله في حاجة إلى حنان، وأن صبرها مستمد من صبره. كان لا ينام حتى يوشوش في أذنها: حماري يا حماري يا سيد الرجال يا كاتم سري بين الهوايش والغوال..