في الوقت الذي صنعت فيه مشاهد جموع المشيعين لجثمان الراحل أحمد قايد صالح عبر ربوع الوطن إلى مثواه الأخير, الحدث وعكست مكانة الرجل في قلوب جميع الجزائريين سواء منهم من وافقه الموقف أو من خالفوه, في هذا الوقت تستمر الحملة العدائية ضد الجزائر ورموزها ومكتسباتها السياسية في الضفة المقابلة لنا من البحر الأبيض المتوسط , وهي حملات عادة ما تكشر عن أنيابها بفرنسا بوجه خاص عندما تكون جبهتها الداخلية هي نفسها على صفيح ساخن جراء الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ انتخاب الرئيس الحالي في 2017 و الذي لم يصوت له في الدور الأول سوى 23,7 % من الناخبين, مما يعني أن كل من صوت له في الدور الثاني ,فعل ذلك مضطرا لا اختيارا, لغلق الطريق أمام مرشحة اليمين المتطرف ؟ وللمقارنة, فإن الرئيس الجزائري المنتخب حصد من الدور الأول للرئاسيات 58.13% من الأصوات المعبر عنها, غير أن هذه النسبة لم تملأ عين السلطة في فرنسا, والإعلام الناطق باسمها, الذي يبدو أنه فقد كل مقاييس المقارنات الموضوعية ,التي تضع الحسابات السياساوية جانبا, ومنها أن الانتخابات الرئاسية في الجزائر التي جرت سنة 2014, لم تزد فيها نسبة المشاركة عن 51,7% مقابل 39,93 % في الاستحقاق الأخير ليوم 12/12, وبالتالي فإن الذي يريد تقدير نسبة المقاطعين بموضوعية, يمكنه فعل ذلك بعملية طرح بسيطة للنسبة الثانية من الأولى, وليس من مجموع الهيئة الناخبية بحكم أن العزوف عن الانتخاب ظاهرة عالمية وليست حكرا على الجزائر, وبهذا تكون نسبة المقاطعين أقل من 12% و حتى هذه النسبة تبقى مضخمة بحكم أن بعض الناخبين أجبروا على عدم التصويت, ومنعوا من التوجه إلى مراكز ومكاتب التصويت في بعض المناطق بالقوة وبغلق وتخريب صناديق الاقتراع . وجاء رحيل قائد الأركان 11 يوما بعد الانتخابات و4 أيام بعد استلام الرئيس المنتخب لمهامه, وما استقطبه الحدثان من اهتمام ومتابعة جموع المواطنين من كافة ربوع الوطن , لتكشف زيف تحاليل الإعلام الغربي عموما والفرنسي بشكل خاص حول حقيقة الوضع السياسي في الجزائر, وتبين للجميع مدى مصداقية تصريحات المرحوم أحمد قايد صالح , كونها نابعة من معرفته لعمق العلاقة بين الشعب وجيشه, وهي الصلة التي ركز عليها المرحوم في خطاباته الأربعين التي ألقاها خلال العشرة أشهر من عمر الحراك, وتمكن من إقناع الحشود بمزايا الحل الدستوري وبالتمسك بقوانين الجمهورية , وظنا من الإعلاميين الغربيين أن صورة الجيش الجزائري لا تختلف عن الصورة النمطية التي يرسمونها عادة لجيوش دول العالم الثالث, راحوا يتفنون في تقديمه للرأي العام الجزائري بهذا الشكل المشوه , لينقلب السحر على الساحر , فيزداد الشعب تمسكا بجيشه وبقيادته , لأن التجارب علمته أن الأعداء لا يستهدفون سوى مواطن القوة لدى الشعوب التي يريدون إخضاعها لنفوذهم , و قد حرص المرحوم على تفنيد ادعاءات الإعلام الغربي بخصوص الوضع في الجزائر , وفي نفس الوقت يوجه توصياته للشباب الجزائري للتصدي لحملات التشويه والتضليل والشيطنة التي استهدفت كل أركان الحكم وليس رموز النظام السابق المغضوب عليه شعبيا. وعلى هذا الأساس سهر المرحوم على التجاوب مع كل مطالب الشعب التي لا تهدد كيان الدولة, ولأن خطاباته كانت في الصميم , فقد حاول مناوئوه إسكاته, بالإلحاح على مطلب «رحيل الباءات» والتركيز على باء «حكومة تسيير الأعمال», التي كان المرحوم يشغل فيها منصب «نائب وزير الدفاع «, لأن رحيلها يحرمه من ذريعة التدخل في الشأن السياسي والتفرغ لمهامه العسكرية, إلا أن الراحل قايد صالح أصر على بقاء الحكومة إلى حين تعيين حكومة بديلة, وظل وحده يرافع أسبوعيا, دفاعا عن البلاد وعن إرث شهدائها في كل العصور, في وقت تراجعت مساهمة بقية المؤسسات الدستورية في هذه المهمة المصيرية ,بل كانت شبه غائبة جراء موقف الشارع منها . وهكذا استطاع المرحوم أن يواجه خصومه على كل الجبهات السياسية والإعلامية والقضائية والانتخابية ويلحق بهم الهزيمة بل الهزائم التي ظل يجرعهم مرارتها حتى بعد وفاته ومراسم تشييع جنازته, التي كشفت للرأي العام حقيقة الشعبية التي نالها عن جدارة واستحقاق في ظرف وجيز لكن بمشوار نضالي ثري وطويل مليء بالعبر والدروس لمن يريد الاقتداء.