سؤال ما قبل العرض: من هذا المهندس المتخصص الذي صمم قاعة المسرح الجهوي بمستغانم التي تحمل اسم" جيلالي عبد الحليم"؟ ومن أشرف على هذا الإنجاز؟ ومن استلم هذه التحفة الواقعة في مكان إستراتيجي قريا من البحر والمدينة؟ دون أن ينتبه إلى الخلل الكبير الذي يجعلك لا تستطيع أن تشاهد خشبة العرض من الشرفتين الأولى والثانية، مهما حاولت؟ أم أنهما وجدتا لمجرد تزيين القاعة الفخمة، دون أن تكون لهما أية وظيفة أصلا؟ يحدث هذا في وقتنا الراهن، ويحدث أكثر من ذلك عندما تغيب الاحترافية. هامش على العتبة المفتاحية للعرض: لهذا العنوان الدارج لمسرحية "خاطيني"، إخراج أحمد رزاق بمساعدة بشير بوجمعة، إدارة محمدي نبيلة وإشراف فني لبلقاسم مفلاح، دلالتان اثنتان بالعربية المعيارية: إمّا أنه يعني إنّ هذا الأمر لا يهمني إطلاقا، وليس من اهتماماتي الحياتية، أو أنه يعني شيئا آخر أكثر مراوغة: إني بريء من هذا الذي يقال على الخشبة لأني لم أقله البتة ولم أفكر فيه حتى لا تتمّ إدانتي. أمّا الأقرب فهو الثاني بالنظر إلى مضمون العرض الذي يرغب المخرج في التنصل منه، بشكل ساخر جدا، وذكي في آن واحد، بالعودة إلى ما يطرحه من موضوعات جريئة، ومثيرة. تجري الأحداث إذن في بلد ما من بلدان هذا العالم الواسع الذي يشبه العالم الثالث إلى حد كبير، لأن الوقائع عبارة عن تدليل مباشر على نمط أحواله السياسية المتدنية، كأجواء " غابريال غارسيا ماركيز" في بعض رواياته ومنظوراته التي تعرّي المسخ والاستبداد المتأصلين في الأنظمة الشّمولية المصرة على التّخلف الفاحش الذي يميزها عن باقي الأنظمة العاقلة إلى حد ما، قد يقع هذا البلد الخرافي، إن نحن تمعنّا جيدا في أحداثة وتفاصيله العجيبة، في قارة أفريقيا، أو في أمريكا الجنوبية، أو في آسيا، وهو شبيه، إلى حد كبير، بعدة أنظمة عربية استمدت قوتها من تكريس الوهم والخديعة والدّجل والمرجعيات النمطية، على حساب مستقبل الأمم التي أنهكها الفشل والأيديولوجيات الأحادية . هناك في العرض سخرية سوداء وواعية عن شيوخ عاجزين عن الأداء الجيد بحكم السن المتقدمة ، إنهم يبدون من كون آخر وزمن آخر، أو من مجرّة أخرى.. إننا في الأجواء المرعبة للكاتب التركي عزيز نسين، أو في عوالم " فرانز كافكا" وقراءاته السوداوية لمسارات تاريخية لا يمكن القبض عليها بالعلامات السردية والتمثيلية المتاحة لأنها أقوى من اللغة والإيماءة، من الحرف ومجموع الإشارات التي نتكئ عليها في محاولة القبض على المحيط الخارجي المتدني، وعلى أشخاص يتعذر وصفهم خارج السخرية اللاذعة التي يمكن أن تصل إلى تحليل أعماقهم، مع بذل جهد مضاعف في الكتابة بناء على هذا الخيار المعقد، على قلته في عالم الكتابة السردية والمسرحية على حد سواء. ثمّة سياقات يجد فيها المخرج نفسه، كما الكتابة الإخراجية، ملزما بشحذ مجموع الأدوات الفنية والتعبيرية والأدائية للإمساك بالموضوعة التي قد تتمرد على وسائله التواصلية برمتها، وذاك ما حصل في هذا العرض الذي مسح، بدقة كبيرة، وبنباهة، حقبة تاريخية عرفت مآلات متوقعة، لأن النتائج لم تكن سوى امتداد منطقي لمقدمات كانت تنذر بالزلزال الكبير الذي سيضرب البلد الذي تجري فيه الأحداث، كلّ العلامات النصية كانت تقول ذلك بطريقتها الخاصة، سواء بشكل مباشر، أي عن طريق الملفوظات اللغوية، أو بواسطة الإيحاءات الكثيرة التي أثثت المسرحية، سواء كانت لسانية، أو غير لسانية، كالاتكاء على الحركات والإشارات وعناصر الإضحاك المختلفة، وهي كثيرة، ومنها الديكور، هيئة الشّخصيات، اللباس، العلامات الجسدية،.. ورد في ملخص العرض ما يلي: " في بلد ما من البلدان المعاصرة، آل بها الزمن إلى حتمية العيش في مجتمع عجوز يلتهم الوهن أركانه، نتج عنه، مع مرور الوقت، خلل وتلف في عمليات النظام، فلا الشيخ يورث منصبه ولا الشاب يطيق رؤية الشيخ في مكانه، سبب وأسباب أخرى جعلت من هجرة كل الشباب قدرا محتوما، ولكل واحد منهم آلياته، وفي خضم حركة الهجرة الواسعة يتبين أنه بقي شاب واحد فقط، وكأقرانه أيضا يحضر الشاب للهجرة، ويتأهب كل المجتمع لمنعه من المغادرة بكل الطرق، بحجة أن شرف الوطن مرهون ببقاء الشاب، فبين إصراره على المغادرة وحبه لبلده تقع أحداث ترسم تطورات هذه المسرحية..." بين الهجرة والحب تتمّ التعرية الشاملة للمنظومة، قبل أن تأتي النهاية لتقلب كل شيء. عودة إلى الديكور المتميز : أسس ديكور العرض في مسرحية "خاطيني" على نوع من التقشف الدال على التحكم في الزاد المعرفي المستغل بنباهة وجب التنويه بقيمتها الاعتبارية، في العلاقة القائمة بين الدوال والمدلولات، بين الخشبة، كمكوّن من جزئيات غير لغوية، وظيفية بالضرورة، وبين الحوارات والتعليقات المكملة لها، أو العكس. ثمة في المسرحية انسجام كبير بين هذه الخطابات اللسانية وغير اللسانية، كما لو أنّ هناك شلالا حقيقيا من العلامات المتراصة بغرابة، رغم اختلاف طبيعتها، إلا أنّ كلا منها يكمّل الآخر بشكل لافت يثير انتباه محلل الخطاب. ما يدلّ على نباهة استثنائية في تقريب هذا من ذاك، أو في خلق مجاورات وتماسات مدروسة بإتقان، وبوعي لا يمكن عدم الانتباه إليه لأنه يفرض نفسه على المشاهد المنبه الذي لا يركز على مسار الحكاية، أو الحكايات والمرويات فحسب، إنما عليها وعلى طرائق تمفصلاتها المنتجة للمعنى، في كليته، أو في مجموع بناها المتكاملة التي تشكل النص والإخراج المتناغمين كوحدة متماسكة، غير قابلة للتفكيك من حيث إنها متقنة. كان هناك في عنصر الديكور شيء آخر يشدّك إليه لأنه حالة شاذة في هذا العرض اللافت، وغاية في القوة: القدرة الكبيرة على الاستبدالات الانسيابية من مشهد إلى آخر. كان الديكور يتغير كلية، و بسرعة مذهلة لا تستغرق سوى بعض الثواني المعدودة، أو في لمح البصر، وتلك سمة طاغية على المسرحية، من بدايتها إلى نهايتها، وخصلة حميدة جعلت الخشبة حية باستمرار، دون أن تعرف فترات من الخفوت أثناء الانتقال من متغير إلى آخر، كما لو أنّ الديكور كان يغير نفسه بنفسه، شأنه شأن اللباس المتحول، وفي عجالة نادرا ما تعرفها العروض المسرحية، دون التقليل من قيمتها كأعمال اختارت لنفسها طريقا آخر يتفق ومقاصدها السياقية والتركيبية، وذاك شأنها ومنطقها في كيفية التعامل مع العلامات. لن يلاحظ المتلقي أثناء إسدال الستار، أو لحظة إطفاء الأضواء لتغيير ديكور بعض المشاهد، أيّ تبطئة في طريقة استبدال زاد الخشبة ككل، وبتقشف واضح استبعد الزحام الممكن الذي قد يؤثر على الدلالات المتماسكة، أو يجعل الغلوّ في التأثيث حشوا لا يقدم خدمة للمسرحية لأنها لا تحتاج إلا إلى ما تحتاج إليه من مكوّنات قاعدية، ما عدا الجانب التنميقي الفائض عن الحاجة، كما يحصل في بعض المسرح الذي يراكم الأثاث بلا فائدة واضحة من شأنها تقديم إضافة فعلية، أو الإسهام في تقوية الخطاب اللغوي بالخطاب غير اللغوي المكمل له. لقد تفادى العرض، من منظورنا، عنصر الإطناب بمنح الديكور دلالات غاية في التركيز لأنها ضرورية للمسرحية، أي أنه جاء مدروسا بإتقان، وبتميز بيّن يتعذر إنكاره لقيمته الكبرى، بانتظار ما قد يطرأ عليه بعد العرض التجريبي الأول، أي بعد احتمال إعادة قراءته من زوايا أخرى قد تؤدي إلى بعض الحذف والإضافة، مع أنه موفق إلى حدّ كبير، ومحترف على عدة أصعدة. غير أنّ ذلك لا يعني أنه مثالي، أو غير قابل لأي تعديل ممكن، ولو كان جزئيا. هناك قراءات أخرى قد ترى شيئا آخر وجب النظر في قيمته الفعلية في المتن المسرحي ككل، ومن ثمّ إمكانية تجاوز عناصر لا تدخل في باب الحتمية، وتلك مجرد فرضية استباقية قد لا تتحين إطلاقا لأنها مرتبطة بالمنطق الداخلي للعرض، وبمجموع الأبنية والأشكال التي تضبط حدوده.