لعل الإشكال الأكبر الذي اعترض الوزير الأول في مشاوراته السياسية من أجل تشكيل الحكومة , هو نفسه الذي اعترض سلفه و اضطره إلى الاستنجاد بإلإطارات الإدارية لمختلف الوزارات و خاصة منهم الأمناء العامون. إذ حال عزوف الشخصيات السياسية بمختلف انتماءاتها عن قبول تقلد المناصب الوزارية لفترة وجيزة وفي حكومة مرفوضة شعبيا , من تشكيل الحكومة المأمولة آنذاك , بمشاركة الأحزاب السياسية , فتم تشكيلها بإطارات الدولة , و اعتبرت هي كذلك حكومة كفاءات أو تكنوقراط , و تحمّل أعضاؤها عبء تسيير مؤسسات الدولة في ظرف صعب بدون سند شعبي و لا حزبي أو سياسي , بل بمضايقات و احتجاجات صاحب تنقلاتهم و قراراتهم على مدى الأشهر التي قضوها في مناصبهم . و رغم اختلاف الظروف "نسبيا" بالنسبة للحكومة الجديدة التي شكلها الوزير الأول عبد العزيز جراد, إلا أنه اضطر إلى الاستعانة بالطاقم الحكومي السابق لهيكلة تشكيلته بمنح أعضائه الحقائب السيادية , و تطعيمها بأعضاء آخرين و بوزراء في حكومات سابقة , بحيث شكلت العناصر القديمة في الحكومة الحالية قرابة الثلث , أي 13 عضوا (12 وزيرا و كاتب دولة) , بينما تم اختيار بقية الأعضاء من محيط الوزير الأول سواء الأكاديمي منه(المحيط الجامعي) أو من وعاء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات, أو من ضيوف مختلف بلاطوهات الفضائيات من خبراء و محللين للتعليق على الأوضاع السياسية و الاقتصادية السائدة في البلاد , و مآلات الحراك الشعبي.و بذلك ظل مجال الاختيار لدى الوزير الأول محدودا و محصورا في "التكنوقراط" أو"حكومة الكفاءات" , التي لم يمنح لنا التاريخ السياسي المعاصر , أنموذجا واحدا منها استطاع تجاوز انجازات "الحكومات السياسية العادية", و لقد اوردنا سابقا رأيا حول هذا النوع من الحكومات لا بأس من التذكير به هنا وهو أن التكنوقراط أصبحوا ", أشبه بالإطفائيين الذين تلجأ إليهم الحكومات في اوقات الأزمات , لإخماد الحرائق التي أشعلها السياسيون في قطاعاتهم الوزارية , و الناجمة في معظم الأحيان عن غياب الخبرة اللازمة و الكفاءة في الاختصاص , تماشيا مع البدعة السياسية التي تحاول إقناع المجتمع , بأن المنصب السياسي لا يتطلب التخصص في مجال المهام المسندة إلى شاغله ؟ و هكذا تميعت المناصب السياسية و أصبحت في متناول "كل من شب ودب " في بعض الأحزاب الشعبوية التي يصفها جيراننا عندهم "بالدكاكين السياسية" لأنها أصبحت أشبه بسجلات تجارية , "تبيع" المناصب السياسية بجميع العملات "المادية و غير المادية",بغض النظر عن مؤهلات "الزبون". و عندنا, الوضع قد يختلف قليلا عن هذا التوصيف , لأن معظم سياسيينا الذين شغلوا مناصب سياسية في أجهزة الدولة في مختلف مستويات المسؤولية , هم خريجو مدرسة تأسست لتكوين إداريين , يكلفون بعد التخرج بمهام تسيير قطاعات , قد يعجز عن تسييرها من تخصص في تسيير شؤونها, و لذا أصبحت مؤسسات اقتصادية و مالية و تربوية و صحية رياضية ووو تُسَيّر كما تسير أية هيئة إدارية؟ المسألة كما نراها هي قضية تنظيمية بالدرجة الأولى للنشاط السياسي , إذ يكفي أن يقتصر كل سياسي على العمل الذي يتقنه , و سنكشف أن المجال السياسي قد تحول إلى منجم لفرص العمل لكل الكفاءات و في مختلف التخصصات و التقنيات التي حرمت منها لعقود مختلف الدوائر الوزارية. و من أجل ذلك يكفي أن تضاف فقرة في النصوص القانونية المتعلقة بتشكيل الحكومة , تطالب الأحزاب باقتراح مترشحين للاستوزار يتوفرون على المؤهلات الضرورية لتسيير و إدارة الحقيبة الوزارية المطلوبة. و مثل هذه الفقرة كفيلة بدفع الأحزاب الراغبة في الفوز بحقائب وزارية , إلى استقطاب الكفاءات أو " التكنوقراط" الضروريين لذلك , بل و حتى تمويل تكوين مختص لهم لضمان المنصب عن جدارة و استحقاق , فضلا عن أن الأحزاب أيضا في حاجة إلى خبرة و كفاءة التكنوقراط لترشيد تسييرها و إدارة شؤونها و إثراء قاعدتها النضالية بنخبة تمثلها في جميع المجالات المتخصصة". و إذا كان الوزراء "السياسيون" الذين يحظون بسند شعبي و حزبي و في المجالس المنتخبة , يفشلون في إرضاء المواطنين و اكتساب تعاونهم و ثقتهم , فكيف يكون الأمر مع وزراء بلا أي سند , بل و لا يعرف عنهم عامة الناس (من غير محيطهم القريب) سوى الاسم و اللقب و الحقيبة الوزارية المسندة إليه ؟