استمتعتأيما استمتاع بقراءة هذه التحفة السير ذاتية للأستاذ الرحالة محمد حسين طلبي. "في دبي، مهندس زاده الخيال"، كتاب صدر عن ندوة الثقافة والعلوم بالإمارات حيث يقيم من سنة 1992، وهو امتداد لعنوان سابق كتبه عن دراسته في الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى كتابه "جبانة اليهود، أقوى من الدمع، ذاكرة لزهر الطفولة والثورة"، وهو مؤلف يرصد فيه صباه أثناء التواجد الاستعماري في الجزائر، إلى جانب كتب عديدة نشرها هنا وهناك كمهندس مسكون بالأدب، ومنها: رسائل إلى جيزيل، بلون الأوراس، دنيابنت عرب، يسألني بوعلام عن حال البد، الجاحظية بيتنا، الشيء الذي لا يحدث في هذه جمهوريات الموز التي تعتبر العلوم الانسانية والاجتماعية ضربا من الدروشةوالترف الذهني العابث، في الوقت الذي تؤسس عليها الدول الغربية لمعرفة واقعها وتاريخها من أجل إنسان محصن. التقيت عدة مرات في الشارقة ودبي بهذا المهندس والإعلامي، كأحسن سفير لثقافتنا في الخليج العربي، وكمرجع مؤكد يمكن الاحتكام إليه، وقد طرح عليّ مرارا هذا السؤال الذي ظل يؤرّقه بالنظر إلى أخلاقه العالية: ألا يعتبر بعض القراء هذا الكتاب تزلّفا، وكان يعرف بعض الخلفيات المريضة لبشر لا شغل لهم سوى المغالاة في التأويل. لكنيكنت أحاول باستمرار إقناعه بعد الالتفات إلى السفاسف،وبضرورة نشره لأهميته السردية، ولرمزيته، ولأنه يثري أدب الرحلة والسيرة الذاتية ويقدم صورة دقيقة عن مدينة آتية من المستقبل، ثمّ إنه من باب العرفان أن يذكر فضائل الآخر لأنه أقام في سوريا، ثم في الكويت، قبل أنيقضي 27 سنة في الإمارات كمفكر وكاتب ومهندس معماري يرى بعيونه ما قد لا يراه الإماراتي نفسه، كما يحدث أحيانا في أدب الرحلات. الشيء الذي قام به أحمد راشد ثاني في كتابه الماتع: "جزائر حبيبتي". الإنسان الكبير لا يبخس حقّ الناس، وأمّا القراءات والألسنة فلا يمكن الاحتكام إليها دائما لأنها قد تأتي مضللة، ومحدودة من حيث المنطلقات والمقاصد في سياقات تاريخية تشهد تموقعات لا تقدم شيئا للعقل والجمال، بقدر ما تخدم أشخاصا لا نحتاج إلى مواقفهم الهشة. سعدت كثيرا لمّا بلغني خبر نشره، وكنت أعرف بعض التفاصيل التي حالفني الحظ في الاطلاع عليها وأنا في الإمارات رفقة المهندس الفاخر، بما في ذلك تلك التي حذفها صاحبها من مؤلّفه لأسباب عينية، أو تلك التي اعتقدتُ أنها ستظل مجرد وقائع شفاهيةللتفكّه، كحكاية: مركز الغرير لا يعرف بوتفليقة، أو قصة: الشاعر بوزيد يقترب من ربّ العالمين بعد أن أطلعني المهندس في دبي على مكان وقوعها، وضحكت آنذاك. لقد أعجبت بفكرة تحيينها ورقيا لأنها إضافة نوعية، وذاك ما ينقصنا في كتاباتنا التي لا تؤرخ لهذه الجزئيات الحياتية، ولأسفارنا التي تمرّ كغيمة الصيف، رغم قيمتها الكبرى في تأثيث المعرفة بعينات تمثيلية تسهم في تقويتها، أو في أسطرتها إن كانت تستطيع القيام بذلك لفائدة أدبية أو علمية أو اجتماعية أو فنية. سيجد القارئ في هذه التحفةالسردية ما يبحث عنه في رحلةقائمة على المشاهد الحيادية التي انبثقت كالشلالات من الداخل لأنها أسست على العين والقدرة على شحذ البصيرة، وعلى المعايشة القريبة لأن الكاتب أسهم في كثير من مشاريع دبي، الهندسية منها والثقافية، كما ظل حاضرا في الشارقة كصحفي ومثقف ومحاضر، وكان يرى العمارات والمشاريع تكبر مبتسمة، كما النخل في صحرائها التي لم تعد صحراء. لقد ظلت دبي، كما رأيتها شخصيا، تستقبل زوارها بالضوء والمعارف، وبالعشب والورد، وبهذه العلامات السخية التي لا توجد إلا هناك، لأن دبي تحلم مستيقظة، ولا وقت لها للهذيان، أو للنوم مبكرا هربا من الملل المدمر الذي يسكننا في مدن الإسمنت والخوف، "فدبي مثل مغارة علي بابا، كلما اقتربنا من نهاية نفقها نكتشف أننا ما زلنا في بدايته. إنها مدينة تختلف عن أية مدينة في العالم، لا يحلو لها أبدا أن تشعر، أو تشعرك بالثبات، فهي وحدها في العالم من يطبق القاعدة الذهبية التي تؤكد أن الثبات قاتل، أو على الأقل يصيب بالموات، ودبي لا تريد هذا أو ذاك". ذاك ما ورد في المقدمة، كجزء من الحنين إلى البدايات التي جعلت المهندس يلتقي بإرث إنساني جميل تجسده مختلف المعالم القائمة على إحالات تاريخية مركبة، ما جعل الصحفي حمدي قنديل يقول بكثير العرفانوالإعجاب:"نرجوكم أن لا تقدموا لنا أموالا في المستقبل، بل نطلب منكم يا أهل دبي أن تدلّونا فقط على كلمة السرّ التي جعلت مدينتكم وبلدكم يتفوقان كلّ هذا التفوق". هذا ما رغب الأستاذ محمد حسين طلبي في الوصول إليه لمعرفة أسباب تحوّل الرمل والقيظ إلى كنوز عمرانية وحضارية ومراكز تسوّق تحاور الشرق والغرب بثقة استثنائية في تاريخ المدن التي تعرف طريقها إلى الحياة، إلى نفسها وطموحاتها، وإلى السماء لتتفرج على المسوخ الكثيرة، تلك التي لا مرجعية لها ولا ذاكرة تخلد ما يشبه الأمجاد الوهمية. دبي إذن، بالعودة إلى هذا الكتاب الجامع، الدقيق، الشاهد على الحقائق، هي قيمة الصحراء، الطيران، الحدائق، الأبراج، التقنيات، المختبرات، فنون العمارة، الذكاء الأخضر، التراث، الشخصيات، هي المراكز الإبداعيةوالثقافة والفن والموسيقى "والشعر والقصة والرواية وعطر الحوار الذي يوحّد الحضارات ويجمع جهودها حتى تعيد إلى حياتنا ذلك التعاون والتآلف والتبادل الذي طالما انتظرناه."، وهي، فوق هذا وذاك، سعة النظر إلى القادم الذي عادة ما تنطلق منه لتتجاوزه بأعوام، كما لو أنها تنافس نفسها باستمرار، غير آبهة بما قدمته من جهود، رافضة البقاء متفرجة على تُحفها السابقة التي تشعرك بأن هناك إنسانا لا يتوقف عن التفكير والإبداع. " إن ما تقدمه دبي من إنجازات لذاتها وللأخرين هو مجموعة تحف متناغمة، دائمة الاحتفال، لذلك لا يجب أن نتساءل أبدا كيف حجزت هذه المدينة لها مكانة استثنائية في هذا الكون." لقد قام الكاتب في هذا المؤلف السخي بمعاينات متخصصة، سواء باستنطاق الحيز، أو بنقل الذكريات التي عاشها هناك مع المكان والناس، تلك التي قد لا ننتبه إليها كزوار، أو ككتاب ومدوّنين يبصرون المدينة من الخارج، دون معرفة الجزئيات التي تجعلها أجمل مما هي عليه في الواقع، أو بعيون اكتفت بالظاهر، دون الاطلاع على الجواهر من أجل الاقتراب من دبي الفاتنة، المدينة التي تجعلك تستعير آلاف الأعين لرؤية جمالها الآسر الذي يشتت بصرك، كما لو أنها لؤلؤة كبيرة تؤلف البهجة تحت شمس الربّ، كذلك نظرت إليها في مناسبات قليلة، لكني لم أشاهدها جيدا عن قرب، لقد كانت فوق قدرات البصر، وفوق العلامات الكافية للحديث عن مدينة أسرفت في البهاء. كتاب "في دبي، مهندس زادُه الخيال" (جائزة عويس للإبداع)، تحفة حقيقية تضاف إلى منجز الأستاذ محمد حسين طلبي الذي اشتهر، في السنين الأخيرة، بتسجيل رحلاته وتجربته، بداية من طفولته في الجزائر، إلى إقامته في المشرق والخليج. أمّا ما يمكن ملاحظته فيكمن في هذه القدرة الكبيرة على النبش في مكوّنات الأشياء من حيث إنها جوهر، في حين تأتي الانطباعات في مقام ثان لأنها تعليقات تؤسس على معرفة بهذه المنطلقات، ومن هنا تتجلى موضوعية الطرح والاستنتاج. ما يعني أن هناك جانبا رياضيا يتحكم في الكتابة، وقد يكون ذا علاقة مباشرة بتكوينه ومهنته كمهندس مهتم بالأدب، وتلك مزية أخرى تقدم خدمة جليلة لهذه المشاهدات المبنية على المعاينة والأسئلة. إضافة إلى ذلك، هناك أسلوبه القصصي والروائي والشعري، والمسرحي أحيانا. ثمة في جمله ما يأسرك من حيث التفصيل النبيه، ومن جانب الطاقة على التصوير بشكل راق يجعلك تقف أمام أجزاء من قصائدنثرية تسرد بلغة ممتلئة بما يمكن أن يكون بهجة حقيقية، وحفلا للروح. أشبّه هذا الكتاب الموسوعي ببرج خليفة لأنه يطل عليك من الأعلى ببلاغته السامقة وأخيلته التي بنت على جهد مضاعف، ونادر جدا. إنه نظير "ثلاث سنوات ف شمال غربي أفريقيا" للرحالة الألماني هاينريتش فون مالتسان، أو شيء من ذكائه وقدرته على الوصف المركز، وعلى رؤية ما لا نراه، رغم أنه قريب. ثمّ هذا التنويع في المقاربات التي اهتمت بعدة موضوعات تتعلق بالثقافة والعمران والمتاحف والمجالس والبيئة والصناعة في مدينة تصبح فيها مواطنا عالميا مندمجا، كما ورد في الغلاف: "همست إليه دبي يوم دخلها أول مرة وهي تحييه على وقع موجها الآسر بأنه لن يكون مجرد عابر على أماكنها الجميلة، وبين ناسها الطيبين...ومن يومها وهو الجوال الذي لا وقت يضيع لديه، يردّ التحية نزفا وعزفا بين ضفتي الخور، سيد أمكنتها وشريانها الذي غدا، مع السنين، قيثارة لقصائده وأحلامه في كل مكان، فشكرا لسحرها الذي أصبح يعيشه وكأنه الحبّ في أول أوانه:" هنيئا لك دبي بهذا الاعتراف الذي جاء على لسان جزائري من الطراز الرفيع لأنك تستحقين هذه الشهادة، وهنيئا للمكتبة العربية هذا الإنجاز الذي جمع ما بين الهندسة والأدب والرحلة والسيرة الذاتية بطرائق جذابة تجعلنا لا نتوقف عن قراءته لأنه عمل متقن، وصادق جدا. بقي أن تلتفت الجزائر للأستاذ محمد حسين طلبي لأنه مغيّب في مشهدنا، مع أنه مؤهل لتكريمات في مقامه العالي بالنظر إلى ما قدمه لنا، وللثقافة الجزائرية من خلال كتبه، أو من خلال المقالات الكثيرة التي نشرها في المجلات والصحف الخليجية للتعريف بالبلد... ليكون أفضل سفير فوق العادة.