لعل ما يعاب على الدبلوماسية الأوروبية عموما, هو تبعيتها لمواقف الإدارة الأمريكية من مختلف القضايا العالمية, حيث تخلت القارة العجوز عن استقلالية قراراتها في هذا الشأن, وفضلت الانحياز لمواقف الولاياتالمتحدةالأمريكية, وخاصة بشأن الملفات المتعلقة بالدول الأقل نموا في بقية قارات العالم , وهو ما أفقد أوروبا مصداقيتها في المحافل الدولية, لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تبنت في عهد دونالد ترامب شعار "أمريكا أولا", مازالت قوة عظمى, لكنها في نفس الوقت عاجزة عن حل مشاكل العالم , التي تسببت هي في ظهورها , مما يجعل الانحياز لها يقلص من فرص إيجاد الحلول, والأمثلة عن ذلك كثيرة منها أزمات أوكرانية, وفنزويلا و إيران, وكوريا الشمالية وسوريا , اليمن , الصومال وليبيا وغيرها كثير, وهي أزمات تفقد دول الاتحاد الأوروبي , الأهداف و الرؤى الواضحة في التعامل معها, ولو من خلال لعب دور الوساطة للإصلاح بين الأطراف المتنازعة , وهو دور يفرض إبقاء التواصل مع جميع الأطراف لضمان تحقيق النتائج المرجوة. وبالعودة إلى نتائج مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية, نلاحظ أنه باستثناء الجزائر فإن بقية الدول المشاركة فيه,- ومعها أخرى لم تشارك في المؤتمر- هي التي دمرت ليبيا في 2011 , إما مباشرة باستعمال كل أنواع الأسلحة المدمرة , أو بالتواطؤ و التمويل و تعبئة المرتزقة الأجانب, كما أن تحرك كل هذه الأطراف في هذا الظرف , لم يكن تحركا بريئا لمصلحة الشعب الليبي, وإنما هو تحرك لمواصلة جني نتائج "تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة", باقتسام غنائم البترول و الغاز وملايير إعادة الإعمار بعيدا عن الآثار الجانبية, المتمثلة في تحول سواحل ليبيا منطلقا لموجات الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا ... وبالتالي فإن الحراك السياسي و الدبلوماسي الذي شهدته و تشهده الجزائر هذه الأيام , هو انعكاس منطقي لمواقف الجزائر من مختلف القضايا الدولية و الأزمات التي تهدد الأمن و السلم الدوليين السالفة الذكر, إذ تقف الجزائر على مسافة واحدة من جميع الفرقاء المتنازعين , مما يؤهلها للعب دور الوساطة لتقريب و جهات النظر وتشجيع الحلول السياسية و الدبلوماسية و المصالحات الوطنية لتجنب ويلات وتعقيدات النزاعات المسلحة. ففي عالم انساقت معظم أنظمته بما فيها القوى العظمى , إلى دبلوماسية التدخل في الشؤون الداخلية للدول, ومحاولة معالجة الأزمات خارج أطر الشرعية الدولية وبما يخدم مصالحهم السياسية و الاقتصادية, وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية والدينية , وتوظيف الإرهاب لأغراض سياسية , والعودة إلى موضة التحالفات الظرفية لمنح شبه شرعية للتدخل في دول ذات سيادة , في ظل هذه الانحرافات التي أخلت بمصداقية المجتمع الدولي في مواجهة مختلف النزاعات الإقليمية وإفرازاتها, تمسكت الجزائر بمبادئها الثابتة , الداعمة لتحكيم الشرعية الدولية في حل المشاكل واحترام سيادة الدول وفض النزاعات بالطرق السلمية , ومحاربة كل أشكال الإرهاب و التطرف , وتشجيع التعاون الدولي الثنائي و المتعدد الأطراف لتكريس تنمية مستدامة تنتفع بها كل شعوب العالم . و هي ذات المبادئ التي تستضيء بها الدبلوماسية الجزائرية , وتتيح للبلاد التحدث إلى الجميع بدون عقدة لأنها في جميع المواقف, فإن موقفها من أي قضية إما أن يتوافق مع موقف الطرف الآخر وذلك هو المطلوب , أو أن يتخالف و في هذه الحالة فإن الطرف الآخر هو الذي عليه الشعور بالحرج كونه يتبنى موقفا يتنافى والمواثيق الدولية. لقد جاء مؤتمر برلين , لتمكين الدبلوماسية من تدشين عودتها إلى الساحة الدولية, بعد غياب طويل جراء الظروف التي سادت العهدة الرئاسية الرابعة للنظام السابق, بتأكيد الرئيس المنتخب على استعداد الجزائر لاحتضان حوار بين أطراف الأزمة الليبية, وهي الخطوة التي تتطلب التنسيق مع الدول المشاركة في لقاء برلين ,إلى جانب الفرقاء الليبيين, الأمر يفسح المجال لمزيد من المساهمات للدبلوماسية الجزائرية في بلورة الحلول لمشاكل منطقة المغرب العربي و دول الساحل ضمن إطار تشاوري و سلمي يخدم شعوب المنطقة و المجتمع الدولي.