هذا عنوان مونودراما من تأدية الممثل جمال الدين لابري، كتابة وإخراج يوسف تعوينت، جمعية حركة المسرح لمدينة القليعة، النص عبارة عن لوحات ومشاهد تشبه شظايا كثيرة من الحكايات التي تمّ ربطها بخيط جامع يتمثل في السقطة العامة التي وقع فيها مجتمع مقلوب لا مرجعية له ولا أفق لأنه يزداد غرقا في السديم، مع أنّ خطابه الرسمي ينمّ عن وضع مضاد، كما يحصل في السياسات التي يتناقض فيها الظاهر مع الكمون، أو النظرية مع التحيين، وكما يبدو من فعل المحاكاة التي تخللت العرض، بنوع من الأبّهة الراقية التي جاءت في شكل إدانة ساخرة للخطاب الرسمي، لقد كانت محاكاة ناجحة، شكلا وممضمونا. والد عنيف، بخيل، استعلائي، مستبد، عنيد، ووالدة مستعبدة وفقيرة، وولد منكوب ورث عن أبيه العنف والفوضى في سياق تاريخي غامض يتعذر فهمه، وفي مدينة سريالية أصبحت تتنافس من أجل الحصول على جائزة أوسخ حيّ على الإطلاق. لقد قامت الحكاية الإطار على ربط هذه الحكايات المكثفة، المضمّنة منها والموازية لتحقيق مقصدها القاعدي : الكشف عن تدني الواقع، مقارنة بمدن العالم التي أصبحت تؤدي، في المتن، وظيفة التقوية المعنوية من حيث إسهامها في إضاءة مدينة بوعلام التي تحاصرها القمامات والمشاكل التي تجاوزها الإنسان البدائي: الماء، الكهرباء، المستشفيات العمومية، عبث الأطباء، الحافلات الأثرية المزدحمة، تحول سيارات الإسعاف إلى شاحنات لنقل الآجر والإسمنت، التسيب المطلق للمسؤولين، إلخ. وإذا كان المرء يولد هناك، بالعودة إلى العرض، تحت وقع السيمفونيات التي تستقبل مجيئه إلى الكون، فإنه ينبت هنا مجللا بالمتاعب والإهمال والعياط، قريبا من الشوارع والتسكع والبؤس والضياع، وبعيدا جدا عن دفء الحضارة التي تبدو كقوس قزح، قريبة ونائية، لكنها حاضرة في ذهنه كمقوّم افتراضي للوضع التراجيدي. ذاك ما يمكن استنتاجه من المسرحية التي أسست، في أغلبها، على تقنيتي التوازي والمقارنة، بنوع من التركيب الذي سعى إلى توحيد الحكايات المتشظية، تأسيسا على وحدة المعنى، مع أن الحكايات تبدو، في ظاهرها، متنافرة، ولا رابط يربطها من الناحية البنيوية المحضة لأن هناك انتقالا متواصلا من موضوع إلى آخر، دون مقدمات، أو دون علاقات سببية تجعل الحكاية شلالا من الحالات والتحولات المتناغمة. سيلاحظ المشاهد لجوء العرض إلى المغالاة في السخرية كطريقة لتأثيث المنظور ليغدو أكثر إقناعا، وقد يكون هذا الغرض جزء أساسيا من مقصد الكاتب، أي تقنية قاعدية لنقد الواقع بشكل تهكمي يجعل المتلقي أكثر ارتباطا بالعرض وكيفياته. ذلك أن عنصر الإضحاك،بمستوياته المتباينة، تواتر بشكل لافت على لسان الممثل الوحيد على الخشبة، ومن ذلك قوله: "هناك ثلاثة أماكن مخيفة، نهر الشياطين في روسيا، قصر دراكولا في ألمانيا، ومستشفيات الجزائر". يبدو الشطر الأخير من المقطوعة التحتية، كما هو واضح، عنصرا لافتا، ومنزاحا، ومن ثمّ إمكانية تأثيره في المشاهد الذي لن يجد علاقة كبيرة بينه وبين ما سبقه، في هذه النقطة تحديدا تقع الإثارة، وينتقل المتلقي من حالة هادئة إلى حالة تخرجه من انضباطه، إلى حالة من الضحك على الواقع، وعلى نفسه. أمّا المشهد الأكثر اكتمالا فيكمن في مشهد الممهلات التي غدت ظاهرة عامة، وقد تمّ تقديمه بطريقة ساخرة جدا، وميالة إلى المغالاة إلى حدها الأقصى لأنه يستغرق زمنا طويلا، دون أن تتخلله تضمينات أخرى، كما يحصل في أغلب اللوحات والمشاهد المتناثرة. يحتل هذا المشهد لوحده مساحة معتبرة من العرض المسرحي، إذ يتمّ التبئير على الممهلات كموضوع مركزي بعد المستشفى كقيمة موضوعاتية أخرى لها قيمتها، دون أن يحدث أي اختلال في تنظيم الوحدات النصية التي جاءت مرتبة بإحكام، وذات وحدات متتابعة يحكمها زمان أحادي تنتظم وفقه الأحداث التي جاءت مفصلة، ومرتبة ترتيبا منطقيا تسهّل فعل الإدراك بدعم المؤثرات البصرية البسيطة. هذا المشهد الجميل من أكثر المشاهد مغالاة في السخرية اللاذعة من طرائق تفكير بعض المسؤولين ، ستكون قصة الممهلات التي تمّ التركيز عليها قصة تراجي كوميدية، موغلة في الخيال الدال على الجهد الذي بذله الكاتب لتقوية المعنى، ومن ثمّ تضخيم الأحداث حتى تفي بالغرض. سيشيّد بوعلام، احتذاء بقومه وناسه، ممهلا عاليا لا مثيل له في المدينة التي تتنافس على صناعة الممهلات الغريبة، وإذ يشكوه سكان الحيّ الذين سيعيشون معاناة بسببه، يقرر، بدل التخلص منه نهائيا بالبحث عن حلّ جذري، أن يحفر فيه نفقا طويلا ويبني محلات تجارية ومقهى ومطعما وملهى إرضاء للجيران، وسيصبح الملهى، كتيمة مهمة، موضع جدال بسبب الرافضين له، وبين والداعين إليه في ظل الاختلافات الأيديولوجية السائدة، هكذا يكشف النص عن التناقضات الاجتماعية، دون أن يستعمل كلمات تشير إلى ذلك. كانت المواقف لوحدها كافية لتصنيف الطبقات تأسيسا على خطابها ومطالبها، وبذلك يقدم العرض تحليلا ذكيا لمحيط خارجي مليء بالتناقضات. من الناحية التقنية فقد بدا الممثل متفاعلا مع الجمهور بعدم التزامه بالنص الحرفي في بعض السياقات. وقد كان يردد، في مقامات عينية، ما تمليه عليه القاعة من ملفوظات ذات علاقة بالحكاية، كتكرار بعض الجمل، أو بعض اللوازم التي تواترت لغرض دلالي ذي علاقة بعنصر الإضحاك. لقد كان الأداء مقنعا من الناحية التداولية، كما أسهمت بعض الحركات والايماءات، التي قام بها الممثل، في تعويض الشق اللساني، ومن ثمّ حصول اقتصاد وظيفي له مسوّغاته. حدث ذلك بنجاح بالنظر إلى تفاعل القاعة مع العرض الذي اعتمد على ديكور بسيط عبارة عن كرسي، وقنينة ماء في الجانب الأيسر من مقدمة الخشبة. لقد كانا، إضافة إلى الإضاءة المرافقة للمناجاة، علامتين بارزتين، رغم عدم استغلالهما كثيرا، مع ذلك فقد أبرزا القدرة على اختزال ما لا يحتاج إليه الركح في مونوداراما، لأن ازدحام الأثاث لا يعني بالضرورة إسهامه في ترقية الخطاب اللغوي، بقدر ما يكون حشوا، وتركيما لأدوات ليست ذات معنى، أي ليست مفيدة للمسرحية أصلا، كما يحصل في بعض العروض التي تتخذ الديكور موضوعا، مع أنه قد يصبح خللا، وشيئا يقلل من شأن العرض، كخطاب بالدرجة الأولى. بخصوص اللغة: من المهم أن نطرح أسئلة جوهرية تخص لغة العرض بشكل عام: لمن نتوجه بمنجزنا المسرحي؟ وهل هو متعلق بالظرف؟ وهل نرغب أن يستمرّ عملنا في المستقبل؟ إننا نعيش إشكالية تواصلية فعلية وجب أن تناقش على مستوى عارف بشأن الخطاب واللغة الثالثة كخيار يمكن أن تكون له تأثيرات تتعلق بالتلقي والانتشار، أو بالظرفية من حيث إنها فرع، وليست جوهرا يضمن ديمومة العمل وقدرته على الانتشار خارج الحدود الجغرافية التي تنتجه. لقد تمّت كتابة نص بوعلام تي آن تي بالعربية الفصحى المتداخلة مع الفرنسية المعيارية، إضافة إلى العامية الجزائرية، ما قد يؤدي، بشكل من الأشكال، إلى انحساره لاحقا، أو فقدان قيمته كمنجز جاء لسدّ فجوة مهمة، لكنه فعل ذلك بطريقة جعلته أقرب إلى المحلية بسبب الجانب اللساني الذي قد يدرك في جهة، دون الجهات الأخرى التي ستجد صعوبة في فهم ما يقال.