علينا أن نتفق، دون خلفيات موجّهة للموقف، أن المنجز البشري نسبي في أغلبه، سواء تعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، أو بالعلوم الدقيقة، بالفيلم أو بالرواية والمسرحية واللوحة الزيتية والقصيدة والمنحوتة، أو بالطب وعلم الفلك والهندسة المعمارية وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنتروبولوجيا. كلّ اكتشافاتنا ومقارباتنا قابلة لتجاوز نفسها ومداركها بحثا عن النموذج الأمثل الذي سرعان ما تكتشف أنه قيمة مرحلية وجب إعادة النظر في طبيعتها. لذلك لم تتوقف البحوث، عبر التاريخ، عن تطوير نفسها بالتنقيب في اجتهاداتها. أمّا إن أدركت الحقائق المطلقة فمعناها أنها غدت قوالب غير قابلة للنقد. للعلم فإن كثيرا من العلوم الدقيقة تحمل بعض الخرافات والأساطير، أو الأخطاء التي تسعى لترقيعها كنوع من النقد الذاتي، أو من تصحيح المقاربات السابقة. الأنظمة الشمولية حساسة للنقد، وهي عادة ما تعيش بالدعاية والتضليل خوفا من الكشف عن جوهرها الفعلي. إنها تغطي عن فقرها بادعاء كلية الحضور والمعرفة، وذلك باستعمال مختلف القنوات وأجهزة الإعلام والآليات الردعية التي تسعى إلى إخفاء الوهم الكبير الذي يحيق بها من كل جهة. لذلك تكون الثورات شكلا آخر من أشكال النقد من أجل تغيير الواقع بأشكال جديدة تتجاوز القول إلى الفعل، إلى تحيين المنظورات الرافضة لما هو قائم.كل الثورات والحركات التصحيحية عبارة عن نقد بصيغ أخرى قابلة للنقد أيضا. تكمن مشكلة بعض الأدب ، والفن بشكل عام، في تقاطعه النسبي مع الأنظمة الشمولية، في الإيمان بالكمال كمرحلة نهائية من التفكير في طبيعة الأشياء وسيرورتها، مع أنه يدرك سلفا، أنّ كثيرا ممّا كتب عبر التاريخ، حمل في داخله جزء من بذور فنائه المؤكد، أو المحتمل بالنظر إلى نموّ المعارف والثقافات والأيديولوجيات والمدارس الأدبية وسياقات الإنتاجوالاستقبال. من المهمّ التشديد على العلاقة بين تاريخ الكتابة وتاريخ القراءة لمعرفة مستويات الأذواق التي تتعامل مع ما نؤلفه في أوقات مخصوصة يتعذر أن تتشابه مع مختلف المسارات، مهما كانت عبقريتها، مع ذلك فقد تبقى بعض الأعمال حاضرة لأنها راهنت على المستقبل، وليس على الحاضر الظرفي، مع ما لهذا الحاضر من قيمة كبيرة في إبداعاتنا. إننا لا نقرأ اليوم المقامة كما قرئت في القرن الرابع الهجري، ونقرأ طه حسين والعقاد والبحتري من تموقع آخر له مرجعياته التي تشكلت عبر الوقت، كما لا نقرأ لمحمد حسين هيكل وأحمد شوقي وبالزاك وتولستوي كما تمّ التعامل معهم في زمان مختلف من حيث المعرفة والاهتمام والذائقة. مع ذلك قد نجد ظواهر فنية استثنائية. لقد كان القاص الروسي « أنطوان تشيكوف « يتساءل مندهشا عن أسباب إعجاب القراء بكتاباته، رغم المجاورة التامة بينه وبين المتلقي.لا بد أنّ المسألة تتعلق بقوة التأثير، وبالقدرة على الاستمرار في التاريخ بالاستثمار في الموضوعات الإنسانية الخالدة، وبطرائق فنية لها كفاءة عالية، وقدرة على الإقناع، دون أن تفقد ألقها القديم. وبالمقابل، قد يتحوّل الكاتب والشاعر، كما المسرحي والسينمائي والنحات والموسيقار، إلى كائن ذي نزعة استبدادية عندما يبلغ مرحلة متقدمة من النزوع النرجسي وتعظيم الذات، معتقدا، بشكل ما، أنه جسّد الحقيقة الفنية و الرؤيوية التي لن يدركها أحد بعده، كما لم يدركها أحد من قبله. هكذا يغدو مرجعا لا نهائيا، أو شموليا، ولذلك يسعى، قدر الاستطاعة، إلى محو غيره، دون مسوّغات موضوعية تؤهله لأن يكون فوق الجميع، فوق الجماليات، فوق القارئ المنبه، وفوق النقد المتخصص أيضا. هذا النوع من الكتّاب والفنانين، وهم كثر، يحارب طوال تجربته مجموع الأصنام المناوئة لحريته المحتملة، ثمّ يقيم، مع الوقت، أصناما بديلة عنها، أي أنه يتحوّل بدوره إلى صنم جديد وضاغط، شبيه إلى حدّ كبير بما تكرّسه الأنظمة الشمولية التي يحاربها في أغلب الأوقات، دون أن يدري أنه جزء منها من حيث إنه يتكئ، في إبداعه ومواقفه، على الممارسات ذاتها ، وذلك بتحوّله التدريجي إلى كائن كلي الحضور والمعرفة، كائن خطير مناوئ لحرية الآخرين ، لذا يحاول اللجوء إلى تقنين الأذواق منطلقا من رؤيته الخاصة التي لا تتقاطع، بالضرورة، مع حرية القراء والنقاد الذين ينظرون إلى المادة المنجزة بعيونهم، وليس بعيون الكاتب أو الفنان، علما أنّ الواقع، كما قال الفيلسوف جان بول سارتر، هو العين التي تراه. السقطة ذاتها يمكن أن يقع فيها النقد الصنمي عندما يقرأ الإبداعات انطلاقا من قوالب نموذجية تمّ حفظها بطريقة إملائية، أو بآليات نمطية غير مؤهلة للتمييز والمفاضلة ما بين منجز وآخر، أو عندما يؤسس على إسقاطات ذاتية، أو على أدلجة المقاربات التي قد تسيء إلى الإبداع، أكثر مما تخدمه، وقد حصل ذلك تاريخيا، مع الواقعية الاشتراكية في روسيا، وفي الوطن العربي أيضا. هذا النوع من النقد ليس ضروريا للإبداع لأنه يحدّ من قدراته التخييلية والفكرية، وهي قدرات قاعدية في أيّ نشاط سردي أو شعري أو فني، سواء كان تقليديا، أو حداثيا، أو مبنيا على التجريب كخطوة واعية تهدف إلى تحقيق الذات، بعيدا عن الأشكال التلقينية التي قد نعثر عليها في عدة مشاريع كتابية. عادة ما يمتلك النقد الراقي آليات متقدمة تجعله متمّما للفعل الابداعي، وموجها له لأنه قد يستوعب ما لا يستوعبه الكاتب نفسه، وما لا يعرفه، ذلك لآنه يقرأ الشفرات، يفكك ويقيّم ويقترح بروية العارف بالقضايا الفنية والأسلوبية واللغوية والمعجمية بفعل التخصص وقوة البصيرة، وبفعل المتابعة كذلك. إنه يرى ما لا يراه القارئ الهاوي الذي يركز على مسار الحكاية وحدها، أو على مآل الشخصيات الواقعية والمتخيلة و الإحالية، تلك التي يتفاعل، أو يتعاطف معها لاعتبارات نفسية واجتماعية وأيديولوجية في أغلب الأحيان. كما يمكن لهذا النوع من النقد العارف أن يقول للكاتب ما لم يقله له أحد لغايات عينية عادة ما تحددها مسائل غير أدبية. ما عدا إن كان هذا الأخير معجزة، أو ظاهرة فنية تُلجم النقد التابع، كما هو الشأن لأعمال خالدة، ومنها رواية « أليكسي زوربا « لنيكوسكازانتزاكيس، أو رواية « الحرب والسلام « لليون لتولستوي، أو قصص الكاتب التركي عزيز نسين، إلى آخره. مع ذلك فإن هذا النقد المؤهل قد يتحرك في عدة جهات ويقبض على الفجوات الممكنة، على قلتها، على ما لا يتفق مع البناء مثلا، على الوصف الزائد، على الصورة الباهتة، على الموضوعات الخافتة، على المعجم التبسيطي، أو على المحرف اللغوي الفقير، بتعبير الكاتب الروسي دوستويفسكي، وتلك مهمته. يفترض، من منظورنا، أن ينسحب الكاتب من هذا السجال الخالد بمجرد نشر عمله الفني، كيفما كان، قويا أو هشّا، هكذا يمكنه أن يترك هامشا للقراءة والنقد، دون أن يسعى إلى توجيه هذا أو ذاك. أمّا الدفاع عنه، بشكل غير مقنع، فلن يجعله عملا مهمّا في نظر المتلقي الذي يكون قد صنفه في خانة ما لاعتبارات كثيرة يضيئها النقد المحترف الذي لا يتعامل سوى مع الورق، بصرف النظر عن المؤلف الذي قد يرد اسمه على الغلاف بخط بارز، أو الاسم مرفقا بالصورة. النقد وحده كفيل بالتقييم والتقويم لأنّ له مفاتيح كافية للنفاد إلى كلّ مكوّنات العمل الفني، وهي مركبة، وغاية في التعقيد، ما يستدعي الإحاطة بعناصر مفتاحية قبل ولوج العمل الفني. لاأجد سببا واحدا يجعل الفنانين يهابون النقد إلى هذه الدرجة المرضية، ما عدا إن كانوا لا يؤمنون بالنسبية كقاعدة في أية تجربة، أو إن كانوا يرغبون في أن يلعبوا دور المرسل والمتلقي في آن واحد، كما يحدث مع بعض المخرجين والمؤلفين الذين يحتكرون العمل والموقف النقدي من العمل ذاته.إنّ من مهام النقد الحالي محاولة الخروج تدريجيا من الدراسات اللسانية، أو محاولة استغلالها بطرق أخرى: السيمياء، علم السرد، الشكلانية، التداولية، إلى غير ذلك من المناهج الواصفة التي هيئت، بشكل ما، إلى انتشار أعمال ليست ذات قيمة أدبية أو فنية. لقد كان هذا الانسحاب من مواجهة المنجز بحقيقته فرصة ثمينة لظهور هذه الهشاشة الضاغطة على المشهد، كما أسهم في تبوأ أسماء قابلة لأن نعيد قراءتها قراءة مختلفة، موضوعية ومتخصصة، قبل أن تصبح أصناما يتعذر الاقتراب منها عندما تصبح نموذجية، أو قوالب تمثل المجرى والمرسى.