لقد عاش الأمير عبد القادر 77 سنة أي 77 شهر رمضان ، و بحكم انتسابه إلى عائلة صوفية متدينة ، كان من الطبيعي أن يبدأ تدربه على الصيام باكرا ، لتضاف هذه العبادة السامية إلى عبادة الصلاة التي كانت "شبه إجبارية" على البالغين 7 سنوات فما فوق ، بل كانوا يضربون عليها إن أهملوها في سن العاشرة، في تنفيذ صارم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، و بالتالي لا يمكن أن نتصور أن الأمير ابن محي الدين شيخ الطريقة القادرية ، سيشذ عن الانصياع لهذا الأمر الديني ، بل و يحرص على الشروع في أداء "فريضة" الصيام مبكرا و هو يجتهد طيلة سنوات طفولته في حفظ القرآن الكريم بزاوية والده بقرية القيطنة القريبة من مدينة معسكر. و هكذا صاحبته مدرسة الصيام في طفولته إلى حين بلوغه السن التكليف الشرعي ، كما كان حريصا على التفوق في الدراسة و طلب العلم و في فنون الفروسية ، كان حريصا على التقيد بتعاليم دينه ، و ما أن فاجأته ظروف البلاد و ما تعرضت له من احتلال بغيض ، حتى كان في أوج الاستعداد لتحمل قيادة الجهاد ضد الأعداء الغاصبين و هو لم يصم بعد رمضانه الرابع و العشرين , الذي تقلد خلاله مسؤولية الإمارة "مرغما و بطلا" ، إذ بعد البيعة الأولى له التي تمت تحت شجرة الدردارة بسهل غريس في 27 نوفمبر 1832 الموافق للخامس رجب 1248 ه ، جرت مبايعة ثانية عامة له بمسجد "سيدي حسان" بمدينة معسكر" في الرابع فبراير 1933 الموافق ليوم 15 رمضان 1248ه.(المؤرخ الراحل أبو القاسم سعد الله يؤرخ للحدث في كتابه تاريخ الجزائر الحديث بنفس التاريخ الميلادي الموافق حسبه ليوم 13 رمضان 1248ه),و أيا كان التاريخ الهجري الذي تمت فيه هذه البيعة الثانية , فإننا نعيش رمضان هذا العام, الذكرى ال 193 لهذه البيعة التي باشر بعدها الأمير عبد القادر مهامه كقائد للجهاد ضد المحتلين , إذ مباشرة بعد مراسيم المبابعة العامة هذه ,خطب الأمير صاحب ال24 رمضانا في الجموع حاثا إياهم على الانضباط و الالتزام بتعاليم الشرع و داعيا إلى الجهاد لطرد المحتل الفرنسي في حضور جمهور غفير من عامة الناس يتقدمهم الأعيان و الأشراف و زعماء القبائل و العشائر. والتصوف وكتابة الشعر و النثر هذه السيرة الجهادية "السيفية"صام خلالها الأمير 13 رمضانا ، و رمضان في هذه الفترة كان الأمير يقضي نهاره في "الرياضة و قراءة القرآن الكريم الذي حفظه و هو دون سن العاشرة، و يقضي الليل في صلاة التراويح والتصوف و كتابة الشعر و النثر ،و كان رمضان بالنسبة إليه شهر عمل و عبادة و إبداع." حسبما أورده المؤرخ و الكاتب البريطاني تشرشل، لكن هذه الأعمال كان يمارسها الأمير عندما لا يكون على صهوة فرسه يقارع فلول جيش الاحتلال الفرنسي , كون هذه الفترة من حياة الأمير خاض خلالها "الجيش المحمدي" بقيادته أكثر من 40 معركة و غزوة , بعضها دارت رحاها خلال شهر رمضان ، مثل معركة سيدي ابراهيم الشهيرة التي جرت بين22و 25 رمضان من سنة 1261 ه. و حتى عندما اختار الأمير وقف القتال و الهجرة إلى بلاد الإسلام , واصل جهاده و هو في الأسر يكابد مرارة نكث الأعداء لعهودهم, بثبات و اصطبار طيلة 5 رمضانات من عمره ، "فما وهن ولا استكان وتشهد على ذلك صفحات جهاده فقد ظل في كل مراحل جهاده –حتى وهو أسير- يلقن من كانوا خصومه بالأمس دروسا في القيم الأخلاقية السامية وكان يقيم عليهم الحجة في انه لن ينكث عهدا ولن يغير من رأي، وهذه السيرة العطرة التي أعجب بها الخاص والعام وكل من بلغه خبر الأمير عبد القادر واقترب منه من عامة الناس وقاداتهم ورؤسائهم، فكانت نورانية كلماته المشرقة تسري إلى قلبوهم وعقولهم، لقد تفتحت عليه الجمعيات والمنظمات وكبار رجالات المجتمع الغربي في فرنسا وفي انجلترا وأصبح هؤلاء هم من يدافع على شهامة ورجولة وشجاعة هذا البطل الذي لولا استناده إلى الرصيد الروحي الكبير الذي اكتسبه وورثه لكان من أولئك الذين يسهل شراء ضمائرهم" . كما وصفه الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى بتونس الأستاد محمد صلاح الدين المستاوي في إحدى مقالاته عن سيرة الأمير عبد القادر الجزائري , الذي وصفه برونو إتيان ب"البطل الذي يُشَرِّف ضفتي المتوسط" في إهداء لكتابه حول سيرة الأمير عبد القادر. بقية "الرمضانات" من حياة الأمير قضاها في دمشق في قصره الذي أصبح مقصدا لمن رافقه من الجزائريين في هجرته و في سجنه بفرنسا , و كذلك لكل طالب علم أو باحث عن الحقيقة التي خصها الأمير بكثير من تأملاته التي قيدها في مؤلفاته و منها بالخصوص كتاب "المواقف" الذي نهج فيه نهج شيخه محي الدين بن عربي.و هي الفترة التي تصدى خلالها الأمير للعبادة و للتأليف و خاصة في شهر رمضان , شهر "الفتوحات الربانية". و كل رمضان و عباد الرحمان في أمان بإذنه تعالى .