كتب الناقد فرنسوا تريفو، وهو مخرج ومنتج وممثل وكاتب سيناريو، وناقد سينمائي فرنسي من الموجة الجديدة( 1932 1984) ، مجموعة من الهالات النقدية التي قلّ ما نعثر عليها في الكتابات المتخصصة في السينما والمسرح، ثم جمع هذه الملاحظات في كتاب ضخم عنونه: أفلام حياتي، وقد قمت بترجمته إلى العربية ونشرته هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة عام 2011. يحتوي هذا الكتاب النادر على 422 صفحة من الذكاء والفطنة، 422 صفحة من المعلومات والدقة والاحترافية المتناهية في طرائق معالجة قضايا متخصصة، وهناك، إضافة إلى النباهة، الجرأة التي عرف بها تريفو خلال مساره المهني كصحفي أولا، ثم كناقد سينمائي ومخرج متمرّد على المجاملات التي أساءت للسينما والمسرح. يتضمن «أفلام حياتي» نقدا سينمائيا شحذته الممارسة، نقدا صادرا عن ملكة جمالية ومعرفية راقية، وعن رجل له زاد معرفي وبصيرة نافذة جعلته ملمّا بما ينتج من مسرحيات وأفلام على المستوى الدولي، ولو أنه ركز في كتاباته النقدية على أمريكا وفرنسا وإيطاليا لمبرّرات لم يصرح بها، مع أن القارئ المنبّه لا تغيب عنه هذه الأسباب، والحال أن هذه المقالات التي كتبت في فترات متفاوتة، ومتشظية، توحي بأنه أسس على المجاورات بين هذه الأفلام، الأمر الذي دفعه إلى القيام بموازنات للكشف عن مستوياتها الفعلية في سوق الفن الأوربي والأمريكي. في هذا الكتاب الذي يقدّم دروسا غير مباشرة للهواة والمتضلعين، شيء من الانطباعية العارفة، وشيء من سيميولوجيا الصورة واللباس والإضاءة، وكثير من الإلمام بالفن السينمائي وتمفصلاته: الفكرة، النص، السينوغرافيا، الإخراج، الديكور، التمثيل، الاقتباس، التركيب، الحوار، الإيماءة، الصورة، التصميم، البناء، التأطير، العلامة، اللون، الاقتصاد، الحركة، الإضاءة، التصويت، إلى غير ذلك من الجزئيات التي قد لا نعثر عليها في التطبيقات، مع أنها متواترة نظريا في كثير من الكتب النظرية. كانت لفرانسوا تريفو آلاف الأعين في قراءة المنجز. ثمة ما يمكن أن يشبه شيئا من كلية الحضور والمعرفة، ليس لأنه ناقد أو مخرج فحسب، بل لأنه شاهد كلّ الأفلام، وشاهدها عدة مرات من تموقعات متحولة، بعيون المشاهد البسيط والناقد والمخرج وعيون الآخرين كذلك. من هنا كانت أهمية موقفه النقدي الذي لا يستند إلى أية معيارية أحادية في إطلاق الأحكام المؤسسة نظريا ومعرفيا، وهذه إحدى ميزات فرانسوا تريفو: التنويع في إطار التكامل والتناغم دفاعا عن حاضر الفن السينمائي ومستقبله، بصرف النظر عن التقويمات النظرية أو المؤدلجة التي لا تسهم في تقوية جوهره. يتعامل تريفو مع الفيلم المغلق أحيانا، ومع الفيلم في علاقته بالعالم الخارجي أحيانا أخر، مع سياق الإنتاج وسياق التلقي وما سيتبقى منه لاحقا بعد مضي أعوام من إنتاجه وعرضه في قاعات السينما للجمهور العريض الذي قد لا يرى جيدا ما وجب رؤيته من تفاصيل. @ يصدر في الحالة الأولى عن فنية الفيلم، قدراته وفجواته البنائية، الأداء، طبيعة الصورة، قضية الألوان، الإضاءة، التركيب، اللباس، الحركة، الخلفية، وعادة ما يتناول الجزئيات الوظيفية وغير الوظيفية بدقة متناهية، وبمهارة، والأهم من ذلك أنه لا يتحامل ولا يجامل المخرجين رغم انهم أصدقاء ومقربون. كل المخرجين سواسية بالنسبة إليه، أما المفاضلة فتقوم انطلاقا من الأثر الفني في حدّ ذاته. إنه المادة الوحيدة التي تحدّد قيمة هذا أو ذاك في ظل تهافت الأفلام. @ الدقة النقدية أمر لافت للانتباه بالعودة إلى أدوات مقاربة المنجز. يلاحظ تريفو جزئيات نووية مثيرة تنمّ عن إدراك متقدم لخصوصية الفيلم وطبيعته ومكوّناته، وإذ يركز على نقطة ما، على حوار أو جملة أو صورة أو تنميق أو جزء من اللباس في علاقته بالممثل، يقوم بتفكيك الموضوعات بمهارة الرّائي، ثم يعرض الحشو والفجوات والتناقضات والنقص ويقدم البدائل التي يراها مناسبة. يفعل ذلك بناء على ثقافة متقدمة، وهذا أمر مهم في النقد السينمائي الذي اتسم، في بعض السياقات، بالقفز على الصدوع الكثيرة التي ميزت بعض الأفلام. @ يؤسس في الحالة الثانية على أثر السينما، على علاقتها بالواقع والتاريخ، إن كان يجب أن تكون تابعة أو متبوعة، صادقة وواقعية، أم زائفة أم توفيقية، منطلقا، في كل ذلك، من نماذج محددة، من شواهد ومرجعيات نظرية وتطبيقية لسينمائيين مكرسين عالميا: فرانك كابرا، ألفريد هيتشكوك، جاك بيكر، فيديريكو فيليني، أرسن ويلز، جاك ريفات، روبيرتو روسيليني, شارلي شابلين، لوبيتش، هوارد هاوكس، جوزيف فان ستيرنبرج، إنجمار برجمان، نيكولا راي، ومن أفلام ذات صيت كبير: ليل وضباب، الشيخ والطفل، الأصابع في الرأس، قفازات الشيطان البيضاء، لا تقربوا المال، العصافير، هيجان...الخ، ودون أن يغفل الهواة والعامة و«الأفلام الكبيرة» و«الأفلام الصغيرة». @ أمّا الموضوعات فكانت تمثل، بالنسبة إليه، إحدى الأنوية القاعدية للفيلم، وليست كلّ الفيلم. يعرف هذا المخرج التمييز جيدا، يقسم الموضوع إلى أجزاء والأجزاء إلى نثار، ثم يحلّل ويقارن مستمدا تقييمه من صفاء المعرفة المؤثثة بإحالات على عيّنات تمثيلية دقيقة، أو تكاد تكون نموذجية، ولو أنه لا يؤمن كثيرا بالمعايير الجمالية الصنمية، كل شيء متحرك: الأبنية والموضوعات والقضايا الفنية قاطبة. لذا جاءت أحكامه عارفة، وإذ لا يريد أحيانا تقديم وجهة نظر عن الفيلم في شموليته، فلأنه يركز، في حالات، على الجزء ويهمل الباقي. كأنه يريد أن يقول إن لي ملاحظات كثيرة حول هذا الباقي، لكني سأرجئ ذلك إلى مناسبات أخر. وذاك فعلا ما كان يخفيه في إضمارات يفرضها سياق الإنتاج وسياق التلقي وظروف المخرج والممثل وكاتب السيناريو في آن واحد. كان تريفو المخرج حذرا جدا، مختلفا كثيرا عن تريفو الناقد، المغامر، مدمن المسرح والسينما والجدل والعصيان، المتهوّر قليلا، ذاك الذي لا يختلف كثيرا عن المخرج ألفريد هتشكوك وتعليقاته المثيرة للجدل. لقد اكتسب، عبر الوقت، وخاصة بعد تجربته الطويلة، خبرة النظر إلى الفيلم ككتلة وكتفاصيل، قبل أن يركب صورة أو يكتب جملة، وإذ يكتبها تجيء صافية ومضيئة وجميلة وممتلئة بالعيون التي ترى ما لا يراه كبار المخرجين. بيد أنه ظل متواضعا، ملتزما حدود ما تمليه الأخلاق الفنية، حتى عندما كان يبدي ملاحظاته «الحادة» التي لا يمكن إنكار قيمتها المعرفية. يكتب تريفو مقالات نقدية راقية، ويخرج الأفلام بنباهة لأنه يعرف الخطاب السينمائي وكيفيات صناعة الفيلم وأسرار الكتابة والتركيب والصورة والإضاءة وفلسفة الإخراج، لأنّ الحكاية، مهما كانت قيمتها التأثيرية، ليست إلا جزء من مكوّنات الفيلم، لكنّ نقلها إلى الجمهور يستدعي نباهة وحيلا قد لا نحدسها نحن المشاهدين، لا ندرك قيمة الكتابة الاخراجية في تقوية الخطاب بتقنيات أخرى، لأن الإخراج، في نهاية الأمر، هو خطاب آخر على خطاب أوّلي، إن كان حاذقا، ومتمكنا من أدواته الفنية. @ قفلة: أفلام حياتي هو إحدى التحف النادرة في تاريخ السينما العالمية، ولأن الكتاب هالة من الهالات النقدية فلأن صاحبه كان ذا شأن في الحقل المسرحي والسينمائي، ولو حدث أن شاهد بعض أفلامنا ومسرحياتنا لقال شيئا آخر، وقد يكون ذلك الشيء خطيرا ومؤلما، وربّما قال ما قاله هنري ميللر عن بعض الكتب التي لا تعجبه، لقد قال إني أقرأها في دورة المياه، وعندما أنتهي من قراءها أجذب طرادة المياه لأتخلص منها نهائيا لأنها تافهة. @ مع كل التقدير لكثير من الجهود السينمائية التي تعي وضعها وحقيقتها وما تعنيه السينما ووظيفتها في ترقية الذوق، بعيدا عن الصخب والعويل والاستعلاء والأخطاء التي مردّها احتكار الفيلم وهيمنة النزعة التجارية وتغييب المتخصصين في مختلف الحقول، أي في ظلّ منطق: الفيلم هو أنا وأنا هو الفيلم. لقد دمر المنطق الحالي الفيلم والمسرحية معا، ولم يترك للنقد الواعي منفذا لقراءة ما ينتج. هناك في تعاملنا مع المتلقي، كثير من الاستعلاء لأن هؤلاء يعتبرون المشاهد أميا، قاصرا على الادراك، وغير مؤهل لإبداء الملاحظة، ومن ثمّ يصبح المخرجون آلهة، والمشاهدون عبارة عن عبيد يصدقون كلّ شيء.