تكمن بعض مشكلات الفنّ في الوطن العربي في الاستعلاء على الموقف النقدي المؤثث معرفيا ومنهجيا، ومن ثم انحساره إلى درجات دنيا لا حضور لها ولا تأثير على المنجز، بقضه وقضيضه. يحدث هذا التنازل في كافة المجالات الابداعية، في المسرح والسينما والاشهار والرواية والقصيدة، وفي كل القطاعات التي انتقلت إلى مرحلة الألوهية بمحو المتلقي كطرف ضروري في توجيه فعل التواصل وتحويله عند الضرورة، وكمعني بالمنجر بالدرجة الأولى. لا يوجد فنّ لذاته، أو بمعزل عن الجمهور، كقارئ للنص أو كمشاهد للعرض ومتفاعل معه، ومن دون هذا الطرف يصبح الانجاز الفني موجها لقوى غيبية لا تتفاعل مع ما يقدم لها. لقد أدى تحييد النقد العارف إلى ظهور سفاسف فنية تفتقر إلى المعرفة الكافية للارتقاء بالعمل الفني الذي غدا سوقيا، وفظا من المنظور الأسلوبي، وليس من الجانب الأخلاقي. إنّ عينات تمثيلية قليلة كافية للكشف عن هذه السفسفة التي غدت قاعدة عامة تميز المسلسلات والاشهار والأفلام العربية الموجهة للاستهلاك، شأنها شأن أفلام رعاة البقر. لقد اشتهرت الأفلام العالمية الناجحة بالتحكم في اقتصاد الصورة وتقنياتها، ومن ثمّ التقليل من المشاهد التي تكتشف بالبديهة لأنها مشتركة، دون تصويرها من حيث إن إضمارها يدخل في باب الايجاز الوظيفي الذي يتفادى التكديس كحشو، أو كدلالات مكررة، كما ورد في كتاب فلسفة الجمال لهيغل، يمكننا مشاهدة أفلام باولو بازوليني وفيديريكو فيليني وبرناردو برتولوتشي، وغيرهم من المخرجين المتمرسين لملاحظة كيف تشتغل اللقطات والصور والكلمات والمشاهد المركزة. عندما تنقل أفلام ألفريد هتشكوك جريمة قتل فإننا نستمتع بمهارة طرائق الكشف عن القاتل وملاحقة علاماته المميزة. هناك في أحد الأفلام لقطة مكبرةلمطفأة كعلامة متقدمة توجه المتلقي نحو الجاني، ثم تنتقل الكاميرا، بعد عدة لقطات، لتصور جانبية ظل باهت يحمل سيجارة: جانبية الظل، وليس الممثل كاملا. يستطيع المشاهد، في هذه المرحلة، أن يربط المطفأة بسيجارة الظل التي ستصبح علامة موجهة، ومن ثم معرفة جزء من الفاعل بالنظر إلى طرائق التعليق التي يؤسس عليها المخرج في العرض. هذه البطاقات الدلالية، على قلتها، تنبني تدريجيا، بالإيحاء والتلميح، وليس عن طريق العرض الكلي للفاعل، وذاك ما يمكن أن نلاحظه في الأفلام البوليسية لكولومبو، إلى أن نصل إلى الحقيقة التي عادة ما تقوم على الأجزاء المنبهة. المثال الآخر هو الآتي: في مكالمة هاتفية تجري في العاشرة صباحا، يقول الممثل للممثلة في جملة موجزة : " نلتقي في الثالثة بمقهى شارع الحرية لأمر مهمّ" ما بين العاشرة والثالثة خمس ساعات تشهد تحولات كثيرة للشخصيتين ، خاصة على مستوى المظهر الخارجي، أو الهيئة والملبس ، ما يحدث في الأفلام الأمريكية والإيطالية والأوروبية الناجحة يتمثل في إضمار هذه الفترة الطويلة التي يصعب ملئها برثاث عبارة عن أورام تصويرية، ومن ثم القفز مباشرة إلى اللقاء، وسيشاهد القارئ، دون أيّ عناء، أهمّ التحولات التي حصلت على مستوى الهيئة لحظة لقاء الشخصيتين في الموعد، دون أن يكون الفيلم بحاجة إلى نقل الجزئيات التي سيتكفل المشاهد باستنتاجها من خلال المقارنة بين القبل والبعد. المسلسلات والأفلام العربية لا تعتني بهذه المهارات البنائية لأنها اعتادت على تبذير الوقت والصور بإقحام التفصيل الساذج، لذلك نشاهد الممثلة في مجموعة من الأفعال التحتية التي لا تعني المتلقي المنبه: وضع السماعة بعد المكالمة، الذهاب إلى غرفة النوم ببطء شديد، تجريب الملابس، الدخول إلى الحمام، استعمال أدوات الزينة، غسل الأسنان، تأمل الوجه في المرآة، ضبط تسريحة الشعر، الخروج من الشقة، غلق الباب، التأكد من ذلك، فتح المرأب، ركوب السيارة، السير في شوارع المدينة، الانتظار في الزحمة، الوصول بعد مشقة، ركن العربة، التوجه إلى مكان الموعد، تفادي المشاة، إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا تقدم معلومة استثنائية. سيظهر التبذير أكثر جلاء عندما تأتي المشاهد مفرغة من الحوارات الداخلية المصاحبة التي عادة ما تبرر وجود الصورة كحتمية ضاغطة، أو كقيمة مضافة هدفها تقوية اللقطة السينمائية لإضاءة بياضات الخطاب، إن لم يسهم هذا الخيار في تعريته، بلا فائدة. لقد قال مكسيم غوركي قبل أزيد من قرن: " العمل الإبداعي كالجبل الجليدي، ثلثه يطفو على السطح، ويظل الثلثان تحت الماء". هذان الثلثان المضمران هما اللذان يفتحان أفقا للتأويل والأسئلة، بعيدا عن التفصيل المملّ الذي لا يترك للمتلقي أي مجال للاجتهاد. مثال آخر : يذكر الناقد المسرحي والسينمائي، المخرج فرنسوا تريفو في كتابه أفلام حياتي، أنّ المخرج الأمريكي ألفريد هتشكوك أنجز فيلما في فرنسا، ثم كلف مساعده بإتمام بعض اللواحق غير المؤثرة على النسق العام، وعندما أرسل له الفيلم مكتملا إلى هوليوود لاحظ هتشكوك خللا عارضا في موقع الكاميرا لحظة تصوير تقاطع حافلة وسيارة في المنعرج. تستغرق اللقطة قرابة ثانيتين، ومع ذلك أصرّ على إعادة تصويرها بتغيير مكان الكاميرا، وذلك تكريسا للانسجام، ولروح الفن كحرفة لا تقبل القفز على الضوابط الأساسية في العمل السينماتوغرافي. كانت الثانيتان عيبا في الفيلم بسبب التموقع السيء لآلة التصوير، وليس للصورة. الشيء ذاته ينسحب على الاشهار كفنّ من فنون النشاطات الاتصالية، وكحرفة لها ضوابطها الفنية، بمنأى عن الفهم الساذج للقنوات التلفزيونية التي تتهافت على تقديم المادة الاشهارية من أجل الثراء، دون جهد، ودون التمييز بين الاشهار التدعيمي والاشهار الصناعي والاشهار الانتقائي والاشهار الدفاعي، أو تلك التي لا تولي أهمية للسيمياء والقراءات البصرية، ولا لكيفية الصورة والكلمة في التعامل مع المضامين التي يراد تسويقها لتوجيه الزبون نحو سلعة ما. للإشهار أصول لجذب المتلقي، وهي مستويات تخضع للدراسة من قبل متخصصين في الخطاب، وكلما تمّ التقليل من الصور والتهريج قلت التكلفة المادية وترسخت الصورة في الذهن، خاصة إن كانت متقنة، وممتلئة ثقافيا ودلاليا. لاحظت، كمثال بسيط، في أحد الكتب التي ترجمتها رفقة فريق بحث في السيمياء بجامعة وهران ما يلي: لقاء مقتضب بين فاعلين في يوم بارد، يسأل الأول الثاني الذي بدا مرتجفا: هل تجمدت؟ ويضيف دون أن ينتظر إجابته وهو يشير بإصبعه إلىالعلامة التجارية الموجودة في أعلى معطفه : أمّا أنا فلا. ها هنا ينتهي الإشهار الانتقائي المكثف، دون جعجعة لفظية أو وسائل إقناع أخرى تسهم في تبذير الوقت والأشرطة. كان توجيه الأصبع، كخطاب غير لغوي، نحو العلامة التجارية كافيا للتدليل على قيمتها كمنتوج ضروري، ومن ثمّ الضغط على الزبون بحمله على اختيار الوجهة التي يريدها المنتج: لقد قال له: عليك أن تشتري هذا النوع إن كنت ترغب في تفاديبرد الشتاء، وقال له أيضا: هذه العلامة جيدة وعليك بشراء معطف كهذا، وقال له: هذا هو الحل الأنسب لك، لكنه لم يقل شيئا في الواقع لأن المتلقي هو الذي سيملأ البياض وفق حاجته. كانت إشارة الإصبع كافية لتقديم ما يشبه النص المتقشف الذي قلل من الصوروالعلامات اللغوية، لكنه قام بتعريف السلعة للمستهلك بفعالية، وهي طريقة ذكية لكسب العملاء. الوصلات الإشهارية ليست مخصصة لتقديم المشاركين أو المشاركات بأزيائهن الاحتفالية ومجوهراتهن وثيابهن وقصورهن الفاخرة التي تشتت السمعوالبصر وترسخ التفاوت، بدل تقديم المادة الهدف المراد تسويقها بتصويرها في مكان ملائم احتراما للمستويات الاجتماعية والطبقية للمشاهدين. هذه الأنواع، المبالغة في الحجم، تشكل عقدة للمتلقي بحكم تركيزه على المكان الباذخ، وليس على السلعة. كما أنّ الاشهارليس آلية من آليات تسويق المادة التجارية بتقعر، دون الاحتكام إلى المقامات والأشكال، قولا وصورة ولغة وأداء وتوقيتا. لزمن البث أهمية، إذ لا يعقل تقديم نوع من اللقطات الاشهارية الطويلة في وقت الغذاء أو العشاء لأنها غير ملائمة، وخاصة عندما تتكرر بشكل مباشر ومنحط. للخيال أهمية اعتبارية في الضغط على المستهلك بواسطة التضليل المتقن، بصرف النظر عن القيمة الفعلية للسلعة المروج لها.لقد أجرت إحدى القنوات التلفزيونية الأجنبية حوارا مثيرامع متخصصة في الشأن، ومن الأسئلة التي طرحت عليها : هل تناولت مرة واحدة هذا النوع من اللبان الذي تقدمينه في التلفزيون بطريقة مؤثرة؟ فأجابت: لم يحدث لي هذا أبدا.المشكلة إذن ليست في السلعة، بل في كيفية الدعاية لها، في فنّ الاتصال كصناعة واعية، أو مادة أولية تعلي من شأن ما لا شأن له.أمّا تبذير الكلمات والصور بطرائق تبسيطية فقد يجعل الشيء القيم أقلّ قيمة، ومن ثم الاسهام في نفور المشاهد. لذا أمكننا اعتبار إشهارنا الحالي من هذه النماذج الدالة على اللغطوقلة الجهد.