رغم مرور 75 سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية لا تزال القوى العظمى مَحْكومة بمركب الخوف من الآخر تشدها إليه عقدة ضرورة التفوق و تسيير باقي الشعوب وفق مصالحها الشخصية ، المبنية على أطماع تاريخية ، فكانت هذه القوى سبّاقة إلى إحاطة نفسها بكل مقوّمات الدفاع من خلال استئثارها بمزايا ذات استراتيجية لافتة في هيئة الأممالمتحدة . لقد كانت هذه العقدة التي تربّت في فكر القوى العظمى جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها في ذات الحرب و التي أتت على أرواح أكثر من 60 مليون نسمة ناهيك عن الخراب المادي - كانت - وراء اللجوء إلى انشاء ما صار يعرف لاحقا بحق الفيتو ، رغم عدم تضمنه في ميثاق هيئة الأممالمتحدة بل ورد في شكل « حق إعتراض « لكن في حقيقة الأمر لا تزال الدول المنتمية إلى مجلس الأمن بصفة دائمة تستعمله كحق «لاجهاض أي قرار « و ليس فقط الاِعتراض عليه . و لجأت الدول المنتصرة في هذه الحرب إلى هذا الاجتهاد من أجل حماية نفسها و النأي بها عن أزمات قد تدخلها حربا ثالثة ، لكن الأمر تحول بعد ذلك إلى أداة لتحقيق المصالح و إجهاض محاولات حل النزاعات في العالم وفقا لأهوائها و ضرب الاستقرارات و النيل من الخصوم و المعارضين . و رغم إشارة الإعلام الأمريكي إلى لجوء موسكو إلى الاستعمال المفرط لحق النقض إلا أن الإحصاءات تشير إلى أن واشنطن هي الأكثر استعمالا خاصة في مدد الرؤساء الجمهوريين . في حين استعملت موسكو حق الفيتو خاصة ما بين 57 و 85 و سنوات الحرب الباردة . و إن كانت روسيا استعملت الفيتو في السنوات الأخيرة أكثر من 17 مرة ضد كل القرارات التي تخص سوريافالولاياتالمتحدة الأمريكة و في نفس الفترة استخدمت هذا الحق من أجل إفشال استصدار أي قرار يدين الكيان الصهيوني أو يلزمه بوقف احتلال الأراضي الفلسطينية أو يدينه باللجوء إلى القوة و الأسلحة المحظورة .و إلى غاية 2017 كانت واشنطن قد لجأت إلى الفيتو رقم 43 ، فقط في النزاع المتعلق بالاحتلال الصهيوني لفلسطين و كان هذا النقض متعلقا بمشروع قرار مصري يرفض إعلان القدس عاصمة للكيان المحتل . مكسب لتحقيق المآرب و تشير إحصاءات هيئة الأممالمتحدة إلى استعمال « حق « النقض أكثر من 269 مرة ففرنسا لجأت إليه إلى غاية 2013 أكثر من 24 مرة أما الفترة الأكثر استعمالا له فكانت خلال الحرب الباردة و المستعملان الأولان هما روسيا و الولاياتالمتحدة المتصارعتان على مناطق النفوذ و اكتساب الأسلحة الفتاكة . و الأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى ، فالرئيس الأمريكي المنتهية ولايته ؛ دونالد ترامب دفع واشنطن إلى استعمال الفيتو في مجلس الأمن العديد من المرات كان أكثرها استهتارا بالفيتو ذاته خرق مسألة أممية النزاع حول القدس باعلانه المدينة عاصمة للكيان المحتل . و رغم إدّعاء هذه القوى العظمى للديمقراطية التي تحاول تلقينها لباقي الشعوب من خلال عديد المنافذ فإنها بعيدة كل البعد عن هذا الأمر من خلال تشبثها بما تدّعي أنه حق و تحرم غيرها منه ، من أجل قضاء مآربها و تحويل استراتيجيات السيطرة و النفوذ عبر العالم. ليس هذا فحسب .. تدفع الأنانية الجيواستراتيجية دولَ مجلس الأمن الدائمة إلى استعمال الفيتو لرفض توسيع التمثيل ، رغم الحديث المستفيض في الكواليس عن ضرورة إيجاد مقعد للقارة الافريقية و الهند و البرازيل و اليابان ، حتى أن التطورات الهائلة التي طرأت على العالم و تغيّر الأولويات و التركيبة الدولية عموما و تبدّل المصالح و موازين القوة سياسيا و اقتصاديا فقد فشل المنادون بالتغيير في إصلاح مجلس الأمن من أجل توسيعه بسبب المماطلة المفضوحة ، و هذا ما يعكس فعلا مافياوية ذات الأعضاء من أجل إلانة قرارات الأممالمتحدة لصالحها و لحلفائها الاستراتيجيين. تاريخ دور مجلس الأمن في إفشال محاولات حل النزاعات و تمكين العالم من الاستقرار الدائم يمتدّ بالنسبة للقضية الفلسطينية من 73 إلى 2017 و بدأ برفض طلب الانسحاب الصهيوني من الأراضي المحتلة و انتهى « مؤقتا « برفض واشنطن التراجع عن إقرار القدس عاصمة للكيان الصهيوني و تخلل هذه الفترات فيتوهات مثل الوقوف في وجه قرار أممي يوفر الحماية للرئيس ياسر عرفات عقب قرار الكنيست بالتخلص منه. و أخفق مجلس الأمن في التعامل مع الأزمة السورية المفتعلة من أجل بسط النفوذ فتحولت إلى بؤرة نزاع دائم تقول واشنطن أن سببها الفيتو الروسي و الصيني العامل على حماية نظام دمشق. أما عن القضية الصحراوية فتتصدر الفيتو بشأنها فرنسا ثم الولاياتُالمتحدة بشكل أقل لتعيق باريس إمكانية الحسم الأممي النهائي بشأن آخر مستعمرة في افريقيا دون مبرر موضوعي ، بل و بشكل مضر بمبادئ الجمهورية الخامسة المنادية بالمساواة رغم الموقف المناهض لسياستها من قبل المجتمع الفرنسي و نخبته. يد ترفع فتنهمر المزيد من الدماء في مجال حقوق الانسان يقف مجلس الأمن بحقه في النقض أمام محاولات أيضا لإرساء العدالة بين البشر عبر العالم ثم يقف متفرجا أمام ما يحصل من مجازر بكل أنواعها ، فلم يعد مجلس الأمن يوفّر أمنا بقدر ما أصبح يشارك في اشعال فتيل الحروب . إلى ذلك فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرارات في أزمة روندا عام 94 و النتيجة مقتل 800 ألف شخص في واحدة من أكبر الإبادات الجماعية ، و التاريخ يسجل فشل المؤسسة الأكثر تأثيرا في الأممالمتحدة في صد استعمال قوات حفظ السلام كدروع بشرية من أجل حصار سراييفو ناهيك عن حرب اليمن و انسحاب أرمينيا من أقاليم في أذربيجان و أوصل السودان إلى التقسيم بعد وقوف واشنطن مع الانفصاليين في الجنوب .و لا تزال الأممالمتحدة تجدّد البعثات الأممية إلى ليبيا بفعل الصراع الدائر في مجلس الأمن بين أعضائه لاسيما بين فرنسا و روسيا... و يكفي مجلس الأمن أن يسجل اصدار الأممالمتحدة ل 990 قرار كان له النصيب الأكبر في الاعتراضات عليها .