قدم الشاعر إلى معهد الأدب العربي بجامعة الجزائر في 1983، كما يأتي الربيع قبل الوقت، متجولا أو متشردا وزاهدا من العصور المنسية، غير آبه بضغط الأمراض والمنفى بعد أن قضى عشرين عاما في العاصمة موسكو التي ذهب إليها في 1961 ، هناك حصل على الماجستير من معهد غوركي، ثم الدكتوراه من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، وكانت لعنة السياسة تطارده كمناوئ، وكهارب من قبضة الشيطان. جاء الأكاديمي والمترجم السوداني الدكتور عبد الرحمن جيلي ( 1931 1990) إلى البلد من اليمن حيث درّس ما بين 1978 و 1983. كان عليلا، وأكبر من نفسه بعدة سنين ، لقد بلغ الثمانين في الخمسين من عمره ، وظل يقاوم بالنكتة واللامبالاة : المنفى والبصر والقلب وضيق التنفس وصعوبة المشي، لقد كان مجموعة من الآلام والمعارف والمعزوفات والنوادر التي لا يحدّها حدّ ، كائنا جمعا أصبح مرجعا ، وقطبا يتحدث كالتوت وكرز الخليقة ، وكان يتخذنا متكأ نحن أصدقائه الكتّاب والأساتذة، كنّا مصابيحه ، وعصاه التي يتوكأ عليها لهشّ التعب والعجز. قبل مجيئه إلى التدريس في الجزائر، كعبة الثوار والتقدميين آنذاك، اشتغل في عدة يوميات ودوريات مكرسة عربيا وعالميا ، خاصة في مصر والاتحاد السوفييتي. هكذا أصبح قيمة أكاديمية وشعرية وترجمية : روز اليوسف ، المساء، الجمهورية، الشعب المصرية، أنباء موسكو، دار التقدم، ونشر عشرات القصائد والترجمات ، لكنه بقيّ في حجم التراب البهيج، متصوفا عارفا ، وقليل الكلام في عصر الادعاء ، لقد كان يحدث نفسه بألم، وبألم عاش، رغم أنه ظل صديقا للنكتة المعبرة، إحدى ميزاته التي تلخص الفلسفة والوجود بسخرية سوداء، وعالمة بالكليات والتفصيل. جيلي من هذه النماذج التي مرّت إلى عوالم الحداثة انطلاقا من مراجعة الموروث كدعامة أولية يتمّ الاحتكام إليها لمعرفة التحولات الفكرية والإبداعية ، كان يعرف المصحف والتفسير والحديث والشعر القديم والفقه والمِلل والنِّحلوقصص الأنباء والبلاغة ، كما الأيديولوجيات والتيارات الفلسفية الجديدة ، لذلك كتب بروية، بعيدا عن التأثيرات الظرفية، كما يمكن أن نستنتج من ديوانه الجواد والسيف المكسور الذي صدرت طبعته الثانية في الجزائر عام 1985، أو من كتاباته وأحاديثه التي اتسمت بالشواهد والاحالات المكثفة، وكان حفاظة، مثل الشاعر العراقي المنفي محمد حسين الأعرجي، صديق الجواهري الذي رافقنا في رحلاتنا وبوهيميتنا. كان جيلي مكتبة في نظرية الأدب، وفي الآداب الأجنبية، المادة التي درّستها معه أعواما، من الآداب اليونانية إلى الآداب الأوروبية والروسية، القديمة والجديدة: تولستوي، ماياكوفسكي، آيتماتوف، غوركي، تشيكوف، بوشكين، سولجنتسين، تورغينيف، باسترناك، ليرمنتوف... قال لي مرّة ساخرا، وكنا نتسكع في شارع ديدوش مراد : هل هذا طه حسين كاتب أجنبي ؟ ، فاجأني السؤال الذي كان يحمل لغما، ثمّ أردف : نحن نركز على الآداب العالمية والمطبق غارق في حديث الكروان وحديث الأربعاء وما كتبه العقاد، نحن في الغرب وهو في الشرق الأوسط، وضحك دون أن ينبّه المعني إلى الخلل، منذ ذلك الوقت وأنا أبتسم، وما زلت، ليس بسبب هفوات الأستاذ ، بل بسبب سرعة البديهة التي دبغته ، كان شرّا رائعا لا ينجو منه أحد، وصنوا لأبي زيد الأنصاري في المقامات، كائنا يخرج من المأتم النكتة تلو الأخرى، ومن الأعماق المتشظية بفعل التعب والبعاد. لقد ظل يشعر بمرارة المنفي، ولمّا زرته في بيته المقفر رفقة بوباكير، أخرج رسالة من الرئيس جعفر النميري يطلب منه العودة إلى السودان لأنه عفا عنه وعن خصومه السياسيين، كانت رسالة فخمة، ومفخخة ، أمّا هو فكان يبتسم ابتسامة اليائس، كانت له قراءات أخرى بحكم التجربة، طوى الوثيقة دون اهتمام وعلق : لو أني عدت لشنقوني ، ذاك ما يبحثون عنه، ولن أمنحهم فرصة. تحدث عن وضعه بألم، ثم نسي الحكاية نهائيا، كان أمامه فصل من ماجستير لطالبة بجامعة الجزائر، وقد كتب في الصفحة الأولى ملاحظة واحدة بالأحمر: « انصبي الفاعل يا عديمة المستقبل «، وابتسم وهو يضع البحث جانبا، دون أي تعليق. لقد قال كلّ شيء عن مستوى البحث في جملة. لا أدري كيف جمع بين السخرية والعقلانية. كان ذلك مدهشا. كانت ابنتاه وزوجته في موسكو، وظللنا قريبين منه ، حتى عندما كان بلا راتب بسبب التأخر عن تسوية ملفه ، كما حصل مع الشاعر والأكاديمي والمترجم العراقي هاتف الجنابي الذي درّس معي في جامعة مولود معمري بتيزي وزو ، هربا من نظام بلده لأنه يساري، وعاش في بيت معزول في قرية الناصرية بولاية بومرداس ، قبل أن يعود بعد سداسي واحد إلى جامعة فرصوفيا ببولونيا، إلى أن تقاعد هناك. أذكر أنه علّق في باب بيته رأسا مشنوقا بربطة عنق حقيقية ألصقها بالغراء. ما زالت تلك الصورة تؤلمني منذ قرابة 35 سنة، وتصورت حجم إحساسه بالغربة. جيلي من هذا النوع الذي قدّم خدمات جليلة للقصيدة والترجمة والجامعة والصحافة والدراسات الأدبية والفكرية ، وكان يتألم ويبدع الطرائف بنباهة الرائي هربا من القهر، كما لو أنه كان يطبق ما قاله جورج برنارد شو : « الطريقة الوحيدة لتجنب التعاسة أن لا يكون لديك وقت فراغ تسأل فيه نفسك إذا كنت سعيدا أم لا « ، لم يكن سعيدا في العمق ، لكنه كان يصنع لنا سعادات صغيرة كحبات الأرز، وظللنا سندا له عندما كانت العاصمة كبيرة، وأصغر منّا، أمّا هو فكان ظاهرة، قال له بوباكير، وكنا جلوسا في مكتب رئيس القسم أحمد الأمين ، الذي كان يقدم حصة إذاعية بعنوان « ألحان وفنون من الشعر الملحون « : «يا جيلي، لقد سخرت من الجميع، ما عدا أنا، فردّ عليه بعفوية : مرحبا بو الشعير، فصحح عبد العزيز: أنا بوباكير، ولست بو الشعير، فعلق جيلي : إنّ البقر تشابه علينا «. عادة ماكان يقضي شهر رمضان في بيت الأستاذ أحمد الأمين بباب الوادي، وكان يرتل عليه القرآن الكريم كلّ مساء قبل الافطار، وعندما وصل مرّة إلى الآية التاسعة من سورة البقرة قرأ:« في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكْذبون «، فقال جيلي : أعد، فأعاد عليه الآية عدة مرات ،عندها ضحك كعادته وعلق مازحا: هذا أنا،مريض بالقلب، وأعور وأعرج، ومصاب بعدة أضرار جسمانية ونفسية. هذه الروح المرحة هي التي جنبته نهاية مأساوية ، لم يكن بمنأى عن ذلك، لكنه كابر وعاش فوق طاقته. قاوم الجسد المتهالك، الغربة والإهمال، بعيدا عن أهله وبلده ، ونشر عدة كتب وترجمات فردية وجماعية : المعونة الأمريكية تهدد استقلال السودان، أشعار مقاتلة ، أغاني الزاحفين، الجواد والسيف المكسور، بوابات المدن الصفراء ، قبل أن يبدأ بالبحث في التراث الاسلامي. لكنّه ساخ في أواخر أيامه وأصبح عبثيا إلى حدّ ما، حالة من اللاجدوى ، وكان يردد باستمرار هذه اللازمة الغريبة دون سياق : « والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة «، كان يغنيها بطريقته الهادئة، المفجعة. لقد كان مرهقا، محبطا ومنهارا، واختفت ابتساماته القديمة. عندما دخل مستشفى مصطفى باشا، حوّل الأصدقاء غرفته إلى حديقة من الأزهار، كان زهرة تتوسط النوار، و لم يعد يقدر على الكلام والأكل ، أذكر أنه قال لي عندما زرته آخر مرة : « سعيد، هل ما زلت تكتب ؟، انظر إلى هذا الركام المعرفي كيف يتهاوى» ، بقيت تلك الجملة ترنّ في ذاكرتي إلى اليوم، وظللت أتساءل ، في لحظات القلق، عن جدوى السرد والنقد والشهادات والترجمة والصحافة والجامعة عندما تعيش تعيسا ، ما قاله جيلي كان سؤالا فلسفيا عادة ما نطرحه دون أن نعثر له على إجابة ، لا بدّ أنه ندم على أشياء كثيرة، كما ندمت أنا لاحقا ، ربما فضل الكتابة على الحياة التي لم يعشها، ثم اكتشف الخطأ متأخرا، كما يحدث لكثير منّا ، تخلص أخيرا من الدنيا بصعوبة ، هناك في مصر عندما كان في رحلة علاج ، ولم تبق سوى كتبه وأخيلته ونوادره وتحفه ودروسه وحكاياته التي حفظناها عن ظهر قلب..رحل الشاعر الطيب وفقدنا غصنا آخر من شجرة المعرفة، ومن الإنسان العظيم الذي كانه.