المسرح ليس حكرا على أحد، كما أنّ الكتّاب والمخرجين ليسوا أنبياء ومعابد مِلكا لطوائف، أو لجماعات تحكم على النصوص والعروض بناء على نزعات تقودها العاطفة والتوجهات التي تشبه "منظمة الجيش السري". الفنون والجماليات ليست ملكا للتكتلات الأيديولوجية التي لا تتعامل مع المنجز بروح أكاديمية عارفة، سواء كان مغلقا، أو في علاقته بالمحيط الخارجي ومسوّغاته. المسرح، مهما كانت عظمته، لا يمثل كتبا منزّلة تستدعي التعامل معها بمنطق العبد الذي يتقبل ولا يتساءل. هذا الفهم يعتبر المتلقي إسفنجة تمتص القطن والخزّ، دون تمييز، والمسرحيون، في أغلبهم، ينظرون إلى المتفرجين كبهاليل لا يدركون قيمة الخشبة والسينوغرافيا واللباس والايماءة والبياض ولحظات الصمت الدالة على مسكوت ما. إنهم يعتقدون أنهم في سماء سابعة لا يقربها إلا المطهرون، وعادة ما يرددون: "عندما يدخل المخرج على الكاتب أن يخرج"، وكان عليهم أن يضيفوا بموضوعية: عندما يدخل بعض المسرحيين على الجمهور أن يخرج حتى لا يصاب بانهيار. هذا اليقين الذي يؤلّه الذات ظاهرة مرضية لأنّ هناك مسرحيات تعدّ سفاسف، والمسرحيون المتفوقون يدركون ذلك، وهم كثر. لقد كنت أرغب، أثناء ترجمتي للمسرحيات الأربع، الإشارة إلى قضايا تتعلق بالمعرفة النصية وبناء الشخصيات، بالأساليب والمستويات اللغوية توضيحا للتقنيات التي اتكأ عليها المؤلف، لكني امتنعت تفاديا لموقف المحسوبين على كاتب ياسين، الإنسان المتواضع الذي خذله محيطه باستغلال تصريحاته وكتاباته لأغراض سياسية ولسانية وعرقية، كما فعل أحدهم عندما صرح من المنصة في الملتقى العربي للمسرح بوهران: " كان عبد القادر علولة يؤسس للدولة الوطنية". هكذا، وببساطة محا التاريخ والأمير عبد القادر. وحين يصل الحدّ بهؤلاء إلى القول بأني ترجمت عملا غير موجود، فمعنى ذلك أننا أمام ظواهر صوتية كسيحة. ما قيل في قاعة المحاضرات في ملتقى "همزة وصل" الدولي كان صادما أخلاقيا ومعرفيا، كما لو أني كتبت "محمد خذ حقيبتك" وترجمتها، مع أنها نشرت في دار سوي بباريس في1999، وهو وقت كاف للاطلاع عليها. هذا النقد ليس نقدا سخيفا فحسب، بل شعوذة مصابين بجنون العظمة لا يبذلون أدنى جهد بالرجوع إلى غوغل، أو بالاتصال هاتفيا بالمؤسسة المهتمة بطبع الأعمال المترجمة. إن كنت تعرضت لنقد يزعم أني ترجمت نصا اختلقته، فكيف سيكون الأمر لو أني أشرت إلى الفجوات؟ كاتب ياسين ليس ملكية خاصة لتسطو عليه النعرات، وليس إلها وجب أن نصلي له بدل قراءته. الرجل الطيب الخجول الصوفي الذي اعتبر في حواراته بأن نجمة امرأة واقعية حوّلناها إلى رمز للوطن كذبا وبهتانا، ومن قال إنّ كتاباته ورشة اعتبرناها مكتملة، وحتى إشارته إلى "مقاطع"، لم ننتبه إليها كمتخصصين يبنون على الواقع، وليس على الأوهام. لقد وردت في المسرحيات عدة قضايا كان يمكن معالجتها، أو الاستفادة منها، انطلاقا من تغيير أدوات القراءة والتقييم لمعرفة كيف كتب ولماذا؟ هناك، على سبيل التمثيل، سلسلة من الاحالات على نصوصه السابقة، إضافة إلى تضمينات شعرية مستوحاة من الأغنية الجزائرية والمغربية وأغنية المهجر، وقد استعان بها في فلسطين المخدوعة ومحمد خذ حقيبتك وملك الغرب، وهناك أناشيد فرنسية تمت تجزئتها لمقاصد، دون التلميح إلى المرجع بوضع مزدوجتين أو عارضتين، أو بتثبيت هامش. الشيء ذاته بالنسبة للحكايات المستمدة من الكتب المدرسية القديمة. لجأ المؤلف إلى التناص لتقوية الدلالة. قام بذلك بأشكال تعتمد على الجانب الحرْفي تارة، وتارة بنوع من التكييف والتحايل على المرجع بوضع مسافة بين النص والإحالة، بصرف النظر عن الوظيفة، وبعيدا عن أي استثمار نقدي لأشكال الاقتباسات الموزعة في المتون المنسجمة حدّ التماهي بحيث يصعب استخراج ما للكاتب وما لغيره، وهو جهد عبقري يتطلب اشتغالا مضاعفا. لكن المترجم سيواجه تركيما لهذه التناصات على مستوى الاقتباس المباشر للشاهد، أو بتعديلات، أو باستثمارها في تركيب حواري عن طريق تقسيمها إلى وحدات خطابية تمّ التأليف بينها بسرد جامع للأجزاء المتشظية. إننا أمام سؤال الأصل والفرع في هذه الأعمال التي لم تنته. لقد فضل الكاتب ترجمة النصوص المستثمرة إلى فرنسية فصيحة، ونقصد الأغاني والأمثال والحكم والمرويات، مع تفاوت في كيفيات الاستثمار. الظاهر أنّه كان يتوجه إلى مشاهد أجنبي. غير أنّ انتقال الأغنية إلى الفرنسية تشكل عقبة أمام المترجم. ذلك أنّ الكاتب يبعد الأغاني عن الأصل ليحلّ محله الفرع الذي يصعب ضبطه لغياب العلامات المحددة لنص الانطلاق، ما عدا استثناءات. لذا لجأنا إلى التنقيب في التراث الغنائي بحثا عن الجذور. كنّا نقابل بين الأغنية المترجمة، وبين ما بقي في الذاكرة من أطراس الأغاني التي توارثناها، وما تمّ العثور عليه في الكتب والأسطوانات، كما أنّ بعض العلامات كانت كافية لمعرفة التضمين، وهذا ليس خللا، بقدر ما هو خيار. للإشارة فإني شاهدت العرض الأولي لفلسطين المخدوعة بحضور كاتب ياسين في المسرح الوطني ومسرح تيزي وزو، ولاحظت الفرق بين العرض والمخطوط الدارج والنص المكتوب بالفرنسية. كما أنّ هناك في هذه المسرحيات، وفي نجمة والجثة المطوقة وغيرهما، مقاطع لا معنى لها، ومن ثم تعذر تفسيرها أو تأويلها لأنها لا تقول شيئا. المشكلة لا تتعلق بالمترجم، بل بالنص الذي تجاوز اللامعقول إلى فضاء عبارة عن جمل متنافرة وتجميع لنتف لا تقبل الجمع، على شاكلة: مربع مستطيل سقط حافيا من كوكب التّمر مرتديا حذاء بسروال من دم أزرق له قميص بحجم المفعول به، وكان يسعل سعالا دائريا يشبه إبريقا من نحاس الكلمة، وكان له نابان من الخبز الحديدي الذي ينهق كطائر ميت منذ خمسة كراريس هجرية. لم أنقل المقاطع حتى أترك المجال مفتوحا للقارئ لاكتشافها، دون الضغط عليه بتوجيهه إلى مواطن الهذيان الذي وظف لمقصد ما. لقد ترجمت ما وجدته حفاظا على الأصل. هناك تنتهي مهمتي وتبدأ مهمة القارئ والمسرحي والكتابة الاخراجية، وليس لي أن أتصرف في النصوص احتراما للأمانة. لقد كنت أتساءل عند ترجمة نجمة عن الكيفية التي أخرجت بها، مع أنها تعاملت مع مقطوعات سديمية، ما عدا إن تمّ القفز عليها أو تحريفها. كما قمت سابقا، لأبعاد تربوية وتعليمية، باستبيان شمل قرابة عشرة آلاف طالب، ولم أجد طالبا واحدا اطلع على الرواية، وبالمقابل، الجزائر كلها تمدح نجمة، أو تنتقدها، وتنتقد الترجمة أحيانا، دون معرفة النص والترجمة معا، أو دون معرفة بعض أجزائها، خاصة بلجوء الكاتب إلى الترف الذهني، وإلى الاستعانة بمقاطع سردية تتجاوز حدود الادراك البشري، ومع أّن كلّ من قرأ الترجمة في البلاد العربية أشاد بها، فإنّ بعض الجزائريين انتقدوا في البلد، وفي دول الخليج، كتابيا، شيئا لم يقرأوه، واعتقدوا أني استعملت العامية. كيف لا يستطيع دكتور أو دكتورة التمييز بين العامية والفصحى؟ قبل أن يصلوا أخيرا إلى التصريح بأني ترجمت مسرحية غير موجودة. أليست هذه لعنة؟ الشيء ذاته ينسحب على أجزاء من هذه المسرحيات التي كان يجب أن تقرأ قراءة متخصصة، وليس تأسيسا على الأحكام الشفهية التي عرفت النصوص بالسماع وتداول التقييمات السريالية، هكذا غدت الابداعات موغلة في التقديس بحيث حرّم الاقتراب منها تجنبا لردود أفعال القارئ الذي لم يقرأ، ولتعليقات "منظمة المسرح السري" التي احتكرت المعرفة دون أن تقرأ، لأنّ الحديث عن قيامي بترجمة نص وهمي، وأمام الإعلام والمتخصصين، دون أن يصحح أحد، يكشف عن الوضع المأساوي الذي وصلنا إليه بتغليب المجهول على المعلوم. التقييمات بحاجة إلى معرفة بدل التظاهر بالكاريزمية لأننا نحكم ونحاكم دون مطالعة وتمثّل. لا يمكن أن تسأل مخرجا عن سبب ارتداء الممثل قبعة حمراء، ويجيبك متعاليا: "هكذا، هذا ليس مهمّا"، ليس مهمّا؟ يقول رولان بارث: "لا يوجد شيء مجاني في النص". أّمّا الأسئلة فكثيرة، لكنها مستعصية حاليا بفعل تبوأ المسرحي الاله والقارئ الذي لم يقرأ ويتهجم، لكني سأطرح بعضها بانتظار توفر السياقات: كم هو عدد الذين قرأوا المسرحيات؟ لماذا جاءت بعض المسرحيات متداخلة؟ لماذا ابتدأت مسرحية ملك الغرب بموضوع ثم انتقلت إلى آخر لا صلة له بالأول؟ هل هناك خلل في جمع المخطوطات وترتيبها، ما تسبب في خلل بنيوي؟ وما وظيفة المقاطع التي لا دلالة لها، بعيدا عن التأويلات الكاثوليكية؟ هل هي منتوج حالة نفسية؟ وكيف يمكن تمثيلها على الركح؟ لماذا ترجم الأغاني إلى الفرنسية ولم يحافظ على الأصل؟ ولماذا تأتي قراءة كاتب ياسين من خارج النص، وليس من الداخل لمعرفة الكيفيات بدل التأسيس على النقل الشفهي؟ وهل فهمناه بقراءته، أم سمعنا عنه فحكمنا عليه بأشكال متضادة؟