إن اللامبالاة الإخبارية للسارد ذات مغزى، والكتاب يطرح مسبقا القوانين السردية للعبة، الأمر هنا لا يتعلق بالبناء المتين لشخصية راسخة في الوهم المرجعي، فالوصف لا يفيد شيئا، وتركيم العلامات لا يضيف سوى فائدة ضئيلة لهذه الكتابة التي يبقى وضعها غامضا. «كيف التقيا ؟ صدفة، كالآخرين. ما اسمها ؟ لا يهم، من أين جاء ؟ من أقرب مكان. إلى أين يذهبان ؟ هل نعرف إلى أين نذهب ؟ ماذا يقولان؟ السيد لا يقول شيئا، أمّا جاك فيقول إنّ عقيده يقول إنّ ما يحدث لنا من خير وشرّ في العالم السفلي مكتوب في السماء. لقد تُركت الكلمة، مبدئيا، للقارئ الفضولي الذي ألف الاعتقاد بأنّ الأخبار العالقة بالجوانب النفسية والجسدية التي تعكسها الأوصاف أو التقاطعات تعدّ وجهات نظر، لكن الصيغة الاستفهامية لجمل الكاتب تجيب برجع على الصيغة الاستفهامية لجمل القارئ. إنّ عالم الشخصية وتكوينها وخصوصياتها هو عالم مخلخل، ولا يصبح حضورها ملموسا إلا بالاسم المعلوم، كما رأينا، أو بواسطة التحديدات التي نسميها الممسرحيات، ما دام توزيع الأدوار مسرحيا. وإذا كان النص، بتعبير أمبيرتو إيكو، "آلة كسولة" تفرض كمالية القراءة، فإن نص ديدرو يترك لنا الخيار كله لتخيل الشخصية. أمّا النقطة الاستراتيجية الأخرى لمؤلف ما فهي خاتمته التي تخبرنا عن الاقتضاء، عن مجرى الشخصية، عن مصيرها: تنسحب الأميرة دوكليف، يموت فيكونت دوفالمون، يعرف مصير جولي وسان برو، وبالمقابل فإنّ اللامبالاة الإعلامية لسارد جاك القدري تعد غريبة كلية، أو بالأحرى وقحة. «وأنا، أتوقف لأني قلت لكم كلّ ما أعرفه عن هاتين الشخصيتين. وغراميات جاك ؟ أكد جاك مائة مرة بأنه مكتوب هناك في السماء بأنه لا ينهي الحكاية، وأظن أنّ جاك محق، أرى أيها القارئ أن ذلك يغضبك، وبعد، خذ القصة حيث توقف وأكملها على هواك. أو قم بزيارة للآنسة آڤاتي، أعرف اسم القرية التي سجن فيها جاك، ألتق بجاك، اسأله: سوف لن يتردد عن تلبية طلبك. هذا الأمر يزيح عنه الضجر. (ص. 708) * كلمة متداولة في المسرح الجديد خاصة، ويقصد بها التوجيهات المختلفة التي يقدمها كاتب المسرحية للمؤلفين. المترجم. ** مصطلح متواتر في الفلسفة الإغريقية، وقد أستعمل للتدليل على صفة النظام الفرضي-الاستنباطي الذي يساعد على البرهنة والدحض. –المترجم- لقد وقع القارئ في فخ نتيجة المفعول الحلقي، لأن القرية التي سجن فيها جاك توجد في الكتاب، وإذا كان القارئ يريد تفاصيل أخرى حول جاك، فعليه التوجه إلى القرية الخيالية للرواية، وبإيجاز فإننا مدعوون لزيارة مكان من دون مسكن حقيقي، مكان غائي الذات، وبرفض إعطاء أيّ معلومة عن شخصه، لا يمكن للقارئ إدراكها، لأنّ الشخصية تنغلق عمدا في البنية الهاربة للمكان الذي يحتويها. لم تعد الآن مشكّلة من الصلة المرجعية أو بالنسبة إليها، وبالمقابل فإن القارئ هو المدعو إلى هجرة الواقعي إن أراد البحث في العالم المتخيل. إن البحث عن الشخصية المتخيلة يحول القارئ إلى شخصية من المتخيل، وهي مفارقة فريدة ترتبط في أغلبها ببنية نص ديدرو، بنية الأفق، الهروب، التلاعبات والتضمين، ومن ثم يغدو تشرد الشخصية مرتبطا بتشرد القصة التي تحيل باستمرار على الصحو الساخط للقارئ الدائم الانتظار، الدائم الخيبة، الذي يصبح المخاطب المفضل الذي تمرّ عليه مساءلة الشخصية، الشخصية القارئ، القارئ الشخصية الذي تكمن وظيفته في إعادة إحياء سؤال الشخصية المسماة. يقول أرتور ولسون بأن (8) النص عبارة عن " علبة متداخلة لأنها تتمثل في وحدات سردية داخل وحدات سردية، وأكبر هذه العلب التي تضم العلب الأخرى هو الحوار بين السارد الفرضي والقارئ الفرضي." «ولكن بالله أيها الكاتب، تقولون لي، إلى أين يذهبون ... أ ولكن بالله أيها القارئ، أجيبكم، هل نعرف إلى أين نذهب ؟ وأنتم، إلى أين أنتم ذاهبون ؟«. (ص. 512) أو أيضا: « إنسان مولع مثلكم، قارئ، إنسان فضولي، مثلكم، قارئ: إنسان مزعج مثلكم، قارئ سائل مثلكم أيها القارئ. ولماذا يسأل ؟ سؤال رائع ! يسأل ليتعلم ويعيد القول مثلكم، أيها القارئ ...". (ص. 513) يخفي توقع لامبالاة السارد بمصير شخصيته أغلبية الحجج الفرعية للنص – الشخصيات، الحبكة، السارد، القارئ- في فخ هائل يكون فيه الحوار وحده المكون الممكن والأخاذ لجاك، من حيث إن الخاصية التوليدية لما يسمى بالحوار تتطلب تقديرات للعالم، مواقف تساعد على ضبط قدر الشخصية، وليس الشخصية ذاتها، وهكذا فإن صفة العنوان، تساعد أكثر من الاسم المعلوم على تمييز الشخصية المحبوسة في متخيل ينفصل عن المرجعي بجرأة. تعدّ شخصية جاك لديدرو من أولى الشخصيات الأدبية، شخصية مركبة تعمل على تدبدب النص الروائي من أسسه، يعلن هروب الشخصية قبلا عن هدم بنية الجنس الذي أوجدها، ولكن، ومهما كان الأمر، فإنّ النص أنذرنا عدة مرات:« هكذا يحدث الأمر في الرواية، قبل قليل بقليل أو بعد قليل بقليل، بهذه الطريقة أو بأخرى، لقد قلت لكم هذا، أظن وأكرر لكم ذلك ثانية." (ص. 505). من المناسب استنباط النتائج، إن جاك ديدرو هو نص يحدد ممكناته السردية، يجربها، يشهرها ويوقفها. وتبقى الشخصية تسبح في هذا العمى النصي رغم كل شيء، شخصية مستحيلة، شخصية غير مكتملة، أو ببساطة، شخصية هائمة تقبل ولو لمرة واحدة عرض المكان الروائي الذي يجعلها ممكنة. الأشباح المنجزة إنّ كتاب الماركيز دوساد هو كتاب ضخم، وإذا أحصينا عدد الجلادين والضحايا وجدنا أن عدد الشخصيات مذهل، إنها، إن صح القول، كريتيدات (9) تتحمل النظام الهائل للملذات والانحرافات والقساوة، وينحدر أغلبها، كما أشرنا، من رأس مشتعل لرجل معزول سجين. يبني الماركيز المنغلق في زاوية ويركب: يبني أجسادا مبتهجة باهتة، وأجسادا مشوهة ومتألمة أيضا، أشباحا ليست لها علاقة بالوهم المرجعي سوى العلاقة التمثالية، ويتعلق الأمر ها هنا بفهم طرق عرضها الهش، وبالوظائف التي تحتلّ في المكان المغلق والمفزع للمشهد السادي. 4-1 الملاسم وهما نوعان كما أشار إلى ذلك رولان بارث (10). يمثل الأول الملاسم الخاصة بالجلادين والرواة والمساعدين، ويستعمل ساد تقنية الملاسم الأولية، كما يفعل روسو تقريبا في هيليوز الجديدة، ولكن لغايات متضادة. لم يعد الأمر متعلقا بتمويه المتعذر تقديمه، المتصل بالتقنية السردية (الرواية الترسلية)، ولكن بالتخلص، مبدئيا، من عدد المستندات العالقة بالشخصيات، من أجل اكتساب القدرة على تشغيل النظام الغزلي، دون إيقافه بالنعوت التي ترد لتحطيم التنسيقات.