السرود جميعها، كما الأوصاف والتشبيهات، لها منطق وظيفي يقوم بضبط مكوّناتها لتكون دالة وضرورية للمتن الحكائي، بحيث لا تلتبس على المتلقي في حال إضمارها، أو تأجيلها عن طريق التعليق لمقاصد تقنية يراها الكاتب استراتيجية، وذلك بناء على تجربته وطريقة مفهمته للسرد. لكنها، مع ذلك، لا تمثل تضخيما لعدد الصفحات على حساب الدلالة المركزة التي تستدعيها الكتابة العارفة بقيمة العلامة وأثرها. بعض النصوص القصصية والروائية، وحتى الشعرية والمسرحية تعمل على رصف نعوت وتشبيهات وتفاصيل لا تحتاج إليها الكتابة التي تكتفي بالتلميح والايجاز خدمة لمسائل بلاغية، أو بالاضمارات التي تعتمد على بياضات دلالية كافية للتدليل على المعنى خارج التجليات اللفظية والجملية، ما عدا إن كانت الكتابة ذات غرض تعليمي أو وعظي، ومن ثمّ إمكانية لجوئها إلى التبيين والشرح من أجل إضاءة قضايا خطابية يستدعي المقام أن تكون كذلك، واضحة وسهلة الإدراك. إنّ قولنا في نص ما: سمعت " نهيق الحمار" أو " نباح الكلب " أو" خرير الماء " أو خوار البقرة أو زئير الأسد، وما شابه ذلك من التحديدات النقلية التي تمّ توارثها، أمر لا يقدم إضافات للمتلقي، بقدر ما يبذر الحبر والوقت والجهد، كما لاحظ الناقد فيليب هامون. هناك، بالنهاية، رثاث لا مسوّغ لوجوده، أو بتعبير هيجل في فلسفة الجمال، "دلالات مكررة" توقف النموّ الحدثي، مجانا لأنها تكتب ما لا يجب أن يكتب، أو ما لا يحتاج إلى ضبط خدمة للفني. يكفي أن نذكر كلمة نقيق لاستنتاج الضفادع بالنظر إلى العلاقة التلازمية بينهما، لأننا لا نستطيع القول: نقيق الذبابة المعروفة بالطنين. الاستثناء هو الدال، وليس المتواتر من القول الذي يدخل في الاستعمال الفظ، بالمفهوم الأسلوبي، وليس الأخلاقي، ومن ثم تغدو جملة من نوع: نهق الرجل، أو نبح الحمار أو عوى فلان، أكثر تميزا لأنها مدعاة إلى تفكير وأسئلة لمعرفة مقاصدها، وإلى قراءات ناتجة عن انفتاح الملفوظ على ممكنات تأويلية مردّها عدم التأسيس على العلاقة السببية التي تربط الفعل بالفاعل أو المضاف بالمضاف إليه، أو على الوحدات المنطقية الجامعة بين الأجزاء النصية. الشيء ذاته بالنسبة للتشبيهات التي لا تخترق المعيار القائم الذي غدا مرجعا ثابتا، كقولنا: فلان مفترس كالذئب، أو متوحش كالليث. هذا التشبيه المعياري لا يسهم في تصعيد الدلالة أو تقويتها لأن المعاودة التعبيرية لا تفاجئ المتلقي، ولا تسهم في ترقية جهده العقلي. الطابع الاستهلاكي للتشبيهات النموذجية تدليل على انحسار الفعل التخييلي إلى درجة دنيا لقيامه على الجاهز، وهو، إضافة إلى ذلك، تقليل من شأن الابداع كتجاوز للنموذج، وللشائع بين القراء الذين لا يحتاجون إلى تأكيد المؤكد. في حين تبدو جملة من نوع: كنت مسكينا ووحيدا كالذئب، للشاعر السوري محمد الماغوط، من حيث التشبيه المفارق، أكثر قوة لأنّ الشاعر خرج عن التشبيه الموروث، وذلك بقلب الدلالة، وبإرباك القناعة الجماعية التي بنت على المحاكاة الاملائية للمستعمل، كما فعل الروائي مالك حداد في الانطباع الأخير عندما كتب: كان طيبا كالسدادة، مع أن السدادة مشبه به لا يملك علاقة منطقية بالمشبه، ومع ذلك فإننا نكتشف العلاقة بتشغيل العقل. ثمّ إن التوظيفات النقلية التي تشبّه الإنسان بالحيوان، من جانب القبح والتوحش والغباء، تمّ تجاوزها فلسفيا وأنثروبولوجيا، ولم تعد تقدم خدمة للدلالة الحية، إن نحن استعملنا هذا المصطلح للتعبير عن الجدة، كنقيض للقدم الذي لم يعد مؤثرا بفعل التكرار، أو عنف الاستعمال. الغراب والبومة والكلب والخنزير أصبحت كائنات ذات قيمة جمالية في بعض الفهم المتقدم لأثاث الطبيعة، وللكائنات المشكلة لها. لم تعد البومة رمزا للشؤم، كما في الفهم القديم، كما فقد القمر، في كثير من النصوص الجديدة، هالته كمشبه به في التشبيهات المادية التي عرفت تشبّعا كبيرا، هكذا حلّ التجريد محلّ الملموس، وذلك بفعل اشتغال الذهن على مستويات تخييلية أقلّ قربا من المدارك المباشرة للأشياء ومختلف العوالم والمحكيات. لقد استعمل هنري ميللر في كتابه الربيع الأسود هذه الجملة المخالفة للقالب المتعارف عليه: الأرض زرقاء كبرتقالة، وهي جملة محفزة إذ اجتمعت فيها ثلاث عناصر لا ترتبط بمنطق عيني، لكنها ليست من باب الترف الدادائي لأنّ لها قيمة اعتبارية في المتن، وفي القراءة النسقية التي تربط السابق باللاحق والمحيط المنتج لها، مع أنها تبدو، من حيث التجلي اللفظي، ليست ذات معنى، أو تشظية للدلالة التي عادة ما تنبني على وحدات معجمية متآلفة، منطقية، وقريبة من الإدراك العام. قد ترمز صفة الزرقة إلى التعفن، أو إلى بداية النضج، إلى الخطوات الأولى للتكوين، وهكذا. لقد ترك الكاتب مجالا واسعا للمتلقي للإسهام في تحديد المعنى، بحسب تموقعه ومرجعياته الثقافية. على عكس ما كتبه هنري ميللر، فإننا نجد في كثير من الكتابات جملا لا فائدة من وجودها في النص لأنها شرح للشرح، وفضح للمعنى الذي يحتاج إلى تعتيم جزئي تفاديا لتعرية الخطاب وتقديم المعنى جاهزا، أو كما قال بيلنسكي في كتابه الممارسة النقدية: "النص الأدبي الجيد هو النص الذي ننتهي من قراءته ولا ننتهي". هذه الجملة، على قصرها، توضح قيمة الإضمار في جعل الفن كتوما، قابلا لتجاوز بعض التصريحات التي لا لزوم لها، إلى إخفاء أجزاء ليست ذات منفعة. لذا قال الكاتب الروسي " مكسيم غوركي" : النص كالجبل الجليدي، ثلثه يطفو على السطح، ويظل الثلثان تحت الماء. هناك إشارة ضمنية إلى الإخفاء كقيمة فنية ضرورية للكاتب والسارد. لم يفلح الشاعر في عصر الانحطاط عندما قال: "كأنهم والماء من حولهم قوم جلوس حولهم ماء"، أو قول الآخر: "عجب عجب بقر يمشي وله ذنب". هذا النوع من التكرار الدلالي المجاني لا قيمة له، لكنه قائم في الممارسات السردية والشعرية، قديمها وحديثها، أو أننا نعثر على ما يشبه ذلك، بطرق متفاوتة، وقد يتسبب في تبديه المعنى، دون مسوّغ لذلك، من حيث إن المعنى قد يأتي في عدة قوالب مستحدثة، وواعية بالأشكال التواصلية كجوهر يستدعي تمريره بطرائق أقلّ تكلفة، وأرقى بيانا. إننا عندما نقرأ جملة من نوع: كان يمشي على قدميه، نتساءل، كقراء منبهين، متابعين للشأن الأدبي، عمّا إذا كان الفعل مشى يدلّ على السير على الرأس أو اليدين أو البطن أو الأصابع. لذا فإن جملة كان يمشي كافية لاختزال الجار والمجرور. يمكننا أيضا استعمال: كان راجلا، وذلك من أجل الاقتصاد السردي الذي لا يخلّ بالمعنى، ومن ثمّ إشراك القارئ، ولو نسبيا، في ملئ البياض المحتمل الذي تتركه الجمل لغايات فنية لا تستدعي التحديدات التي تبدو حشوا، أو إفراطا في الشرح كتكرار. بعض التمطيط غير ملائم، وغير ضروري للقارئ كمشارك في فعل التواصل، ومنتج للدلالات، كما في جملة كان يمشي حافي القدمين، لأنّ كان يمشي حافيا تكفي لتمرير البلاغ، دون اللجوء إلى التخصيص البديهي الذي ينتج تضخمات بسبب الاستغراق في التفصيل الممل، على حساب التلميح، وعلى حساب السرد القصصي المنتج للأحداث، أي بالتضحية بالأساسيات، وبما تحتاج إليهالكتابة فعلا. في قصة " الشهداء يعودون هذا الأسبوع " للطاهر وطار يستعمل الكاتب الجملة الآتية: جاءتك من الخارج يا عمي العابد، دون أي تحديد للفاعل، أي باللجوء إلى الاضمار، وبعد زمن من سير الأحداث نقرأ هذه الجملة التوضيحية، كملء لفراغ سابق: فتح الرسالة وراح يقرأ. هذا البتر مهمّ، إلى حدّ كبير، لأنه أسهم في عدم تكرار كلمة الرسالة مرتين، كما شارك في تعليق المتلقي الذي سينتظر وقتا وهو يتساءل عن طبيعة الفاعل، أي ماذا بعد الفعل جاءت؟ ليدرك متأخرا أن الأمر يتعلق بوصول رسالة إلى الشخصية. لو حدث أننا قرأنا بعض الروايات الضخمة قراءة بلاغية، لقمنا باختزالها إلى عدد محدود من الصفحات لأنها لا تقول شيئا في عدد معتبر من الجمل والأوصاف والتشبيهات الفائضة عن الحاجة. حجم النص لا يعني الجودة أبدا، ولا يدل على طول النفس، بقدر ما يشير إلى الإطناب والمعاودة، إلى التنويعات على الأصل ذاته، بتعبير أدونيس في الثابت والمتحول. هناك في المنجز البشري روايات قصيرة، كذئب البوادي للكاتب الألماني هرمان هيسه، لكنها اعتبرت هالات لقيامها على زاد معرفي وفلسفي، وعلى معرفة السرد والاقتصاد، دون الاهتمام بالتفاصيل، وقد كان لهذه الرواية تأثير كبير، كما استفاد منها فرويد في تحليله النفساني. أمّا النص الذي يعتمد على الإطالة، لاعتقاده أنها قوة تأليفية، فعادة ما يقول سفاسف بشكل لا يقنع القارئ لأنه بحاجة إلى تصفية وتقطير من أجل تطهير نفسه من الجعجعة اللفظية.