- اشكركم جزيل الشكر على قبولكم إجراء هذا الحوار الخاص رغم ارتباطاتكم وقد توجهنا لكم بهذا الحوار لأننا نعرف مدى اهتمامكم بالأمير درسا وبحثا وتدريسا. الجمهورية : تشكل شخصية الأمير عبد القادر ابن محي الدين الجزائري على مستوى تاريخنا الوطني كما على مستوى التاريخ العالمي بتنوعها مشارب عديدة لمقاربات متنوعة منها ما تعلق بالتصوف، والشعر، والسياسة، والحرب وحتى الاقتصاد. ولذا، وأنتم من كرستم جزءا مهما من مشواركم العلمي لدراستها. ولذا أريد أن أتناول معكم هذه المحطات إذا ما قبلتم ذلك الواحدة تلو الأخرى. ولنبدأ إذا سمحتم بمجال التصوف. ماذا يمثل الأمير عبد القادر في مجال التصوف هل هو امتداد لخط شيخ المتصوفة محى الدين ابن عربي أو أنه شكل بعد ذلك طريقة صوفية تأخذ من شيخه محي الدين أصولها ولكنها وضعت تصورها فكان لها أتباعها؟ بومدين بوزيد: أسعد بهذه الحوار الفكري مع زميل وفيلسوف بذل جهداً متميزاً في تنشيط الحياة الفكرية في الجزائر وله حضوره الدولي أيضاً، بالنسبة لسؤالكم عن تصوف الأمير نعلم أنه نشأ في مدرسة جدّه مصطفى بالقيطنة (نواحي حمام بوحنيفة اليوم) وغالب الذين كانوا يؤطرونها من المتصوفة أو من أتباع الطرق الصوفية، كما أنّ جده هو من نشر الطريقة القادرية التي تنسب للشيخ عبدالقادر الجيلاني (ت 561ه) وأعاد إحياءها، كما كانت الاتصالات دائمة بين عائلة الأمير وبغداد (العراق) وكان قبر عبدالقادر الجيلاني مزاراً لبعض الجزائريين بعد أداء مناسك الحج، وقد صحب محي الدين ولده الأمير وهو صغير في حجه إلى بغداد، وهي طريقة صوفية تمتد إلى شعيب أبي مدين الغوث وكان لها التأثير في الجزائر قبل ظهور الطرق الصوفية الأخرى مثل الدرقاوية والطيبية والتيجانية، وللقادرية في الجزائر جذور منذ أن ألّف الشيخ حسن بن باديس القسنطيني أحد مشايخ ابن خلدون منظومة سِينية ضمّنها رحلته إلى بغداد وشرحها أحمد بن الحاج البيدري التلمساني. هي أجواء روحانية عاشها الأمير عبدالقادر لكنه يقول أنه طالع كتب القوم (الصوفية) في تتلمذه (بالقيطنة عاصمة القادرية) ولم يكن منهم في كتابه "المواقف" الذي ألفه أو بالأحرى دروس في دمشق نسخها تلامذته، وهنا نقول أنه اطلع على التصوف وعايش أذكار وحلقات المتصوفة في معسكر أو وهران أو في ارزيو ولكنه لم يكن له المسلك الصوفي أو الذوقي باعتبار أن الوراثة الرّوحية للطّريقة القادرية كانت لأخيه وهو تولّى الجهاد بعد بيعته على ذلك، وهي مبايعة سياسية جهادية أما المبايعة الرّوحية فكانت لأبيه محيي الدين وأخ الأمير. يمكن القول أن بداية الأمير الصوفية كانت اطلاعاً ومعايشة فقط ولم تكن التزاماً وتذوقاً، لكنه اطلع على كتاب الإحياء للإمام أبي حامد الغزالي والقشيري وغيرهما وكان اعتقاله بفرنسا مدرسة ثانية في حياته إذ عكف على العبادة والقراءة والتأمل، فتجربته في الخلوة والذوق كانت في معتقل لامبواز (فرنسا)، والرحلة الكبرى نحو الذوق وعالم القوم كانت في دمشق من خلال شيخه البرزخي محي الدين بن عربي، فهما عاشا تجربة واحدة في الرحلة من الغرب الإسلامين وعاشا تجربة الانتكاسة والتراجع، إنّ دمشق هي مرحلَة الفَناء في التجْربة والنّص الحَاتِمِي في دِمَشْق، فكَانَتْ تأَمُّلاتِه الصُّوفية إعادَة إِنْزَال القُرآن الكَرِيم بِتَأوِيل إِشَاِري اقْتَضتْهُ "مُجَاهَدَة العدوّ" الذِي يَعِيشُ بَيْنَ جنَبات النّفْس الإنْسانِية، أَمَا "العَدُو الفرنسِي الاحتِلالي" الذِي نَازَلَهُ نَزَالاً فَكَانَ يُؤْمِنُ بِزَمَنِ الاسْتِقْلاَل القَادِمْ، في معايشته للفتوحات ذوقاً وتأويلاً أعاد شرح ما ستغلق منها، ووضح بعض خلافه معه، وأضاف في بعض مواقفه ما أغفله محي الدين بن عربي، كما تميّز كتاب "المواقف" بمحاولة الرد على الكلاميين والاشعريين الذي ينتمي إليهم فكراً وتكويناً الأمير. يمكن تمييز التجربة الصوفية للأمير بمروره عبر المراحل الثلاث (مطالعة كتب القوم في النشأ والتكوين، التأمل الفلسفي والصوفي ومعاناة تجربة الأسر (في لامبواز بفرنسا) ثم التماهي مع نصوص بن عربي والحياة الذوقية الصوفية وتجاوز الالتزام بطريقة صوفية ما. الجمهورية: بين السياسية والحرب كان للأمير عبد القادر تصور متميز لطبيعة المجتمع المحلّي بحيث،كما تعرفون ذلك، استحدث مفهوم الزمالة وهو تقسيم يقوم على منطق جديد للحرب يستفيد من البنية الاجتماعية للمجتمع الجزائري ومن تقسيم معقول في التهيئة العمرانية ومن إقتصاد للمؤونة كما أنه يقوم على منطق لمعنى الترحل. هل يمكننا القول اليوم أن الزمالة والرباط هما إبداع أميري إستطاع من خلالهما شحذ طاقات لأجل المقاومة. بومدين بوزيد: من بين النصوص التي شرحت لنا ذلك كتاب قدور بن رويلة الذي كان كاتباً عند الأمير عبدالقادر عنوانه "الوشاح المحمدي" إذ يشرح فيه الرتب العسكرية الأميرية وتنظيم الجيش، كما نعثر على بعض التفاصيل في كتابات بعض الضباط الفرنسيين وفي كتاب " تحفة الزائر"، نظام "الزمالة" عرفه الجزائريون من خلال الحكم التركي، إذ أن هذا الاستعمال اللفظي ظهر في حكم باي وهران، ومع الأمير لم يعد خاصاً بقبيلة أو مجموعة قبائل ترتبط بالخزن مثل نظام "الدواير"، زمالة الأمير عبدالقادر عاصمة عسكرية راحلة لها نظام دائري مثمّن مثل الكعبة، يحدد لكل دائرة أعضائها ومميزاتها، كما هناك قيادات عسكرية تتولى شأن كل دائرة، وترتيب بديع جمالي، وتتوسط ذلك خيمة الأمير التي يصفها بعض الأوربيين قابلوا الأمير أنه كان يجلس وعلى يمينه مكتبته ويساره بعض أسلحته الخاصة، وأمامه صندوق مالي للصرف العاجل، فمكتبته تنتقل معه وهذه ميزة خاصة، للأسف بعض منها ضاع في معركة طاغين وقد قال حينها الأمير لو أردت تتبع جيش الاحتلال الغاصب لأمكنني من خلال الأوراق الممزقة التي كانت ترمى في الطريق أثناء عودتهم إلى العاصمة، وهذه "إبادة حضارية" شبيهة بالجرائم التاريخية في حرق المكتبات. كان تنظيم زمالة الأمير يراعي التوزيع القبلي وأهمية القبيلة وقوة شوكتها في عملية الترتيب الدائري، كما أن نظام توزيع الغذاء والمؤونة كان منظما وهناك من يتولاه. الجمهورية: قام المفهوم الحديث للدولة عندنا تاريخيا وكما يذكر ذلك المؤرخون على تصور الأمير ربما يعود ذلك لعدة عوامل منها ما تعلق بفعل المقاومة نفسه لأنه كان سباق لمقاومة المستعمر الفرنسي الغاشم وامتدت المقاومة لحدود الجزائر العاصمة شرقا ولحدود الأغواط جنوبا لولا ما تعرض له من غدر وخيانة. هذا جانب مهم وأساسي في مقاومة الأمير ولكن ما أردت أن أعود له معكم أمر يتعلق بصك النقود وهو كما تعلمون رمز مهم في بناء أسس الدولة وإعلان الاستقلال على التبعية وبناء الإدارة المحلية. انتبه الأمير كما تعلمون لما لهذه الأمور من أساسيات في بناء الدولة فأعلن الحرب على المستعمر الفرنسي وأعلن الانفصال على سلطان المغرب كما يذكر ذلك في مذكراته وقام ببناء إدارة حديثة. في رأيكم هل هذه المعالم أو غيرها هي التي مكنت الأمير عبد القادر من أن يكون في هذه الفترة من تاريخ الفكر السياسي العالمي نموذجا للدولة الحديثة. بومدين بوزيد: تأسيس دولة الأمير دستوري اذا استعملنا المصطلح الحديث، فقد كانت بيعة أغلب الحاضرين فيها من الأسماء العلمية المعروفة، وتقليد علاقة التأسيس للمدن والدول بالعلم معروف عندنا منذ ما سمي ب "حملة العلم" الذين قدموا من المشرق ومعهم بعض الأمازيغ إلى تيهرت وأسسوا "الدولة الرستمية" في منتصف القرن الثاني الهجري، كما أن تأسيس الدولة المرابطية كان بفضل الرباط الذي أسسه عبدالله بن ياسين في الصحراء، وهو رباط جهادي-علمي، وومن تلامذته يوسف بن تاشفين، ودولة الأمير أو إذ تحدثنا بعبارة ذلك الزمن "إمارة الأمير" كانت ذات تركيبة قبلية اعتمدت شرعيتين: شرعية الجهاد وشرعية العلم، لأن مدرسة القيطنة ومدارس الراشدية بغريس هي التي انجبت قيادات روحية وعلمية وجهادية بايعت الأمير عبدالقادر، كما أنه بعد معركة خنق النطاح مع بداية الاحتلال الفرنسي لوهران والتي قادها والده وأبلى فيها الأمير، جعلت والده يطلق عليه بعد المبايعة لقب "ناصر الدين" وهو لقب سلطاني استعملته الدولة المرابطية لأول مرة بعد معركة الزلاقة التاريخية التي انتصر فيها المسلمون على النصارى، وكان لقباً جديدا انفصالياً رمزياً عن الخلافة في بغداد، رمزية أي دولة كما قلت تبرز في الصكوك التي كانت هناك معامل خاصة عند الأمير ابرز فيها اسمه واسم إمارته، ورمزيته في الألقاب التي كانت يستعملها في رسائله أو يشيرون بها إليه في الخطاب مثل "الأمير" ، "السلطان"، المجاهد، ناصر الدين، حامي الدين، ...إلخ، وهنا أود أن أشير إلى أن لقب "السلطان" كان معروفاً في شمال إفريقيا واستعملته "الدولة العلوية" والعثمانيون ، وبقي اليوم في بعض البلدان مثل سلطنة عمان، واستنكف الأمير عن استعمال هذا اللقب رغبة منه في أن يحمل راية الجهاد مولاي عبدالرحمان ببلد مراكش، لكنه رفض وقال عليّ بخاصة نفسي ودولتي، وتخلى عن ذلك فاضطر الأمير لأن يكون للمغرب الوسيط دولته وسلطانه وهو في ذلك يجد شرعيته في الدولة الأدريسية الشريفية التي ينتمي إلى سنام شرفها مثل بعض الجزائريين الأشراف الحسنيين، كما كان رمزياً يحاول إحياء مجد "دولة بني توجين" التي كانت عاصمتها "تاكدامت" بتيهرت، واتخذها هو عاصمته الحربية والسياسية، ولكن لم تعمّر، هكذا يستثمر في التاريخ الرمزي السياسي (الرستميون، الأدارسة، بني توجين) كما يقتدي بدولة المدينة في البيعة والصلح بين القبائل، واعتماد الزكاة كنظام مالي، أما من حيث الجيش فكان تنظيماً جديداً يحاول فيه تقليد محمد علي في مصر، واعتمد السفارات، فكان له سفراء بعد معاهد ديمشيل، ونواب عسكريين (خلفاء) في مناطق الجزائر، ونظام قضائي تولاه خيرة العلماء ومشايخ التصوف. الجمهورية: يذكر دوما للأمير عبد القادر فضله في حماية المسيحين في دمشق هل يمكننا أن نستثمر اليوم هذا الموقف أو غيره كمقوم للشخصية الجزائرية في تبنيها مبدأ الدفاع عن حق الشعوب؟ بومدين بوزيد: إنّ "خِطاب التّعايش" في النّص الأميري وفي تجربته التّاريخية كقائد سياسي وعسكري وشيخ روحي تشكلت من خلال مجابهة "الكراهيّة" التي تجسدت عاطفة وايديولوجية في الاستعمار البغيض، وقد كانت حربه عادلة حضرت فيها القيم الإنسانية -رغم ما وقع أحيانا من بعض خلفائه من أخطاء اعتذر عنها- كما جابه "كراهية القبلية" التي عانى منها ولم تستطع القبائل أن تتوحّد كأمة ورفض بعضها شكل "الدّولة الحديثة" الذي كان يسعى إليه الأمير فقد أراد نقل "التّعايش القبلي" إلى "تعايش أمة" بأطيافها وأصولها وأحلامها، فكانت البيعة رمزية دينية وسياسية تجاوزت الانتماء القبلي إلى الانتماء العلمي – أي حسب مبلغ كل عضو في مجلس الشورى من العلم- رؤيته للتعايش والأخوة الدينية والإنسانية صقلها التكوين والتجربة التاريخية، ففي مجال التكوين النّفسي والعقلي كانت "العقيدة الاشعرية" و"الصوفية الجنيدية –القادرية" الفضاء الثقافي والتربوي الذي يدعو إلى الوسطية واجتناب التّكفير وتطهير القلب من كلّ ضغينة أو مما أسماه الإمام الغزالي "ربع المهلكات" في كتابه الشهير "الإحياء"، وسوف يكون لهذا الأمام الحضور في بعض نصوص الأمير، لكونه أشعرياً وصوفياً ومنهجه "الصّبر" كقيمة أخلاقية ونفسية، وهو ما اعتمده بعض المتصوفة الجزائريين الذين رابطوا في سواحلنا التي احتل بعضها الاسبان، وفي دمشق سوف يكون التماهي والاندماج مع "النص الحاتمي"، فقد كان بعد خروجه من الجزائر وسجنه بفرنسا في حاجة إلى "فتح جديد" به تتنزل الفيوضات الربانية وتكون أنفس الخلق صورة الله في الأرض - بعبارة شيخه محي الدين بن عربي-، هكذا يعايش الجمهورية: اليوم نشهد تعدى على رمز الأمير عبد القادر كيف تعلقون على ذلك؟ كتبت عن "الجهل والكراهية" وانتشارهما اليوم في غياب القيادة النخبوية، وفي ظل مؤسسات تعنى بالذاكرة والتاريخ هشّة، كما أن قضايا الهوية تحضر دوما في العجز عن التعايش مع الحاضر أو الفشل في رؤية المستقبل والتخطيط له، كما أننا هنا ضدّ القداسة والسرد المنقبي المبالغ فيه، بل علينا أن نقرأ قراءة علمية تاريخية مع اعتبار الرمزيات جزءاً من هويتنا، لقد كان احتفال فرنسا بنابليون متميزاً لكن ماكرون انتقده في كون نابليون أرجع نظام العبودية من جديد، وهي قراءة للتاريخ في سياقها، أما قراءة القرن التاسع عشر بمعجمية الحركة الوطنية وثورة التحرير فليست رؤية سليمة، كما أن التحرر من هيمنة الوثيقة الفرنسية يصعب، في ظل غياب الوثيقة التاريخية الصحيحة، وهنا مراحل تاريخية في الجزائر نقرأها من خلال وثيقة وحيدة مثل ثورة موسى الأغواطي (بوحمار) فما كتبه قاضي دلس بطلب من ضباط فرنسيين وصلنا مترجما ونشر في المجلة الأفريقية وهو النص الوحيد الذي اعتمده المؤرخون ومنهم سعد الله ويحي بوعزيز. الرّمزيات التاريخية المشَكِّلة لخيال الأمّة وأحلامها ومجال آدابها وفنونها ليس بالضّرورة أن تكون ذات قداسة، بل بالعكس القداسة والتّوظيف المشين لها باسم العائلة أو الشّرعية هو الذي يَضرّ بها، ونحن منذ الاستقلال كان السّطو والاستيلاء على الذّاكرة جزءاً من الحصول على الحُكم والغنيمة أو من أجل التّغلب على الخصم، ونحن نجني سنوات الاستعمال السياسي غير العقلاني والعلمي للتّاريخ والذاكرة. خدمة الأمير والوفاء له في نشر كتبه وأعماله والبحث في تفاصيل مقاومته وجهاده وتصوّفه وعِلمه، وهذا أبلغ ردّ على الذين نختلف معه، وليس في استغلال اسمه أو الحَجْر على تفكير الآخرين، كما على السّلطة الانتباه إلى مخاطِر انتشار الكراهية والخطاب العرقي، فقد وضعت قانون مجابهة الكراهية ولم تؤسّس له هيئته التي نصَّ عليها ولم تجتهد في الآليات، كما أنّ بعض مؤسّسات الذّاكرة عليها أن تجدّد خطابها ويكون على رأسها من له الأحقيّة العلمية والأخلاقية من أجل إعادة قراءة تاريخنا وترميمه وتجديد مناهج ذلك. الجمهورية: اشكركم ثانية على ما أفدتمونا به من معلومات وما قمتم به من توضيح وشرح أتمنا لكم التوفيق.