لا أدري من أين جاءتني الفكرة، لكن بكل تأكيد كانت تعتمل في دماغي. كنت في الأرشيف الموجود في الطابق التحتي من جريدة الجمهورية. أفتش في الوثائق القديمة لأكتب شيئا عن الثورة التحريرية الجزائرية في سياق فكرة إعادة كتابة تاريخ الثورة الوطنية التي كان شعارها قد رفع عاليا. فقد كلفني رئيس التحرير بذلك. لا شيء في رأسي إلا والدي لم يحض بأي اهتمام أدبي مني. والذي استشهد في 1959 ليترك وراءه كل شيئ معلقا مثل ساعة حائطية قديمة توقفت عقاربها ذات زمن لا أحد يدرى متى؟ باستثناء تجمدها على ساعة محددة وبعض الدقائق وقليل من الثواني. لم يترك والدي وراءه حتى قبرا يزار وقت الغبن. هذا كان يجرح أمي في الأعماق. لقد ذهب بكله ولم يخلف وراءه إلا أصداء مقاومته التي حفظها أصدقاؤه في سجن السواني، وظلوا يرددونها وأوفياء لها حتى التحقوا به فرادى بعد سنوات. بدأت أبحث وفي رأسي رغبة قصوى في عدم تكرار الخطابات الجاهزة والسهلة. فجأة عثرت على وثيقة مقتل عبان رمضان منقولة عن عدد من أعداد المجاهد بالفرنسية والتي تقول هذا: غادرنا إلى الرفيق الأعلى المناضل الأخ عبان رمضان... لأدرك بعد زمن طويل كم أن تاريخنا كان يحتاج ليس فقط إلى إعادة كتابة، أو إعادة قراءة وإلى إعادة نظر ليس فقط في الروايات وولكن حتى في الأبطال والبطولات ومحاولة فهمها، ولكن أيضا إلى شجاعة. بدأت ملامح مشروعي ترتسم. وبدأت أصعد وأنزل مستفسرا عن الجريدة وتاريخها وأسأل الأصدقاء الصحفيين من كبار السن. أسأل الجيل القديم الذي استعار ألسنة المترجمين لنصوصه وكنت واحدا من المترجمين المتضامنين بحب إذ لم أوقع على الترجمة من أجل عدم إثقال المقالات باسمين. او اختار العزلة والانتفاء أو محاولة التعريب وسط وضع لساني كان قاسيا صعبا، لكنه لم يكن مستحيلا. كتبت مادة عبان رمضان مرفقة بالأسلئة والغموض الذي رافق موته. لكني عندما عندما فتحت الجريدة في اليوم الموالي لم أجد أثرا للمقالة. عرفت بأنه ليس المطلوب بأعادة كتابة التاريخ طرح القضايا الحساسة التي تصاحب كل ثورات العالم بدءا من الثورة الفرنسية التي انتهت بمقتل روادها الإخوة الأعداء: دانتون وبعده روبيسبيير وغيره. عندما دخلت إلى الجريدة رآني رئيس التحرير واقفا مع مسؤول الأرشيف، فناداني لأصعد إلى مكتبه، بطيبته المعهودة. قال وهو يبحث عن كلماته: لم ننشر المقالة لأننا لا نريد مشاكل لا لك ولا للجريدة. أنت تعرف أن مقالة مثل هذه فيها الكثير من الصعوبات وتترتب عليها نتائج وخيمة. حاول أن تغيرها وتنزع فكرة عبان رمضان لأنها ثقيلة. أكتب عن والدك واعتقاله في السجن وكيف عاني. لأن هذا عيد الاستقلال. نريد أن نتذكر لا أن يظن أننا نصفي حسابا ضد جهة من الجهات. التريخ سيصفي لا تسغل بالك. كل كلمة كان يقولها كانت تطن في رأسي بقوة بشكل مخالف. كنت في عالم أخر. أعتقد أن رواية ضمير الغائب نشأت في خضم ذلك الرفض لأنه انعكس على كل شخصياتي وقتها. اخترت وقتها وبشكل تلقائي لكتابة الرواية، فضاء جريدة الجمهورية بطوابقها من الداخل ومكاتبها وحتى رؤساء تحريريها ومدرائها لكن من حيث الشكل فقط في خلق النماذج البشرية. من يعرف المقر والبشر والعمال من مسؤوليين وصحفيين ونساء التنظيف، يدرك بسهولة التقارب بين نظامي المكان الفعلي والمكان المتخيل. حتى الطوبوغرافيا العامة وتضاريس المدينة والعمارة والشارع الضيق وحركة الناس هي نفسها. تخونني ذاكرتي في الأسماء. مسؤول الأرشيف أسميته في الرواية ميمون ولا أدري إذا كان ذلك هو اسمه الحقيقي. لم يكن الأمر مهما لأني كنت واعيا بأن الأمر يتعلق في النهاية برواية ومتخيل وليس بحقيقية باردة ومجردة يمكن اختبارها. لقد اخترته من الجنوب بعفويته وصدقه ووفائه وفقره أيضا. أسميت المدير بلقاسم لأبعد الشبهة. كان في داخلي قهر من المؤسسة وضحاياه. ام أكن خائفا عليّ، لأني كنت طالبا جامعيا حالما بالذهاب بعيدا في هذا الخيار الأكاديمي. ولهذا لم تكن صورة المدير إيجابية جدا في الرواية. مع أن المديرين الذين عرفتهم. السقاي وعيسى عجينة ورؤساء التحرير كانوا شديدي الطيبة والإصغاء والمساعدة. وأدخلت بطلي المهدي بن محمد في صراع مع المؤسسة لأنه رفض له القيام بتحقيق عن والده لأن مصيره كان شبيها بمصير عبا رمضان. بل وجدت في المقال عن استشهاد عبان رمضان مساحة مهمة من دراما التاريخ وقسوته. وسحبت بطلي باتجاه حياة هذا المجاهد الذي أغتاله رفاقه بسبب خلاف سياسي وإن غيرته كل شيئ في البنية الروائية، لكن ظلال هذه الشخصية ظلت ماثلة إذ أدمجت فيها قصة لابلويت التي لم تكن إلا لعبة استعمارية ذهب ضحيتها المئات من الشباب المثقفين الذين انتموا إلى هذه الثورة وكيف أن زوجة بطل الرواية وجدت صعبوبة كبيرة في إثبات استشهاده لأنه لا قبر له لولا شهادات أصدقاء السجن الذين تضامنوا مع قصته وراحوا يشهدون بنضاله إضافة إلى وثائق فيديرالية الجزائريين بأوروبا التي انتمى إليها والدي في وقت مبكر. تحولت الجمهورية إلى بؤرة ومساحة لكتابة رواية ضمير الغائب التي صدرت لاحقا في اتحاد الكتاب بسوريا وفي دار ورد أيضا وفي دار رؤية المصرية، كما طبعت في الجزائر في دار الفضاء الحر في سلسلة الجيب. كلما فتحتها اليوم شممت فيها عطر الجمهورية في السبعينيات. كل أشواقي في الجمهورية ضمنتها في هذه الرواية. لأول مرة أكتب عن الفضاء الإعلامي وأنقله إلى جنس آخر هو الرواية. واعتمدت أسلوب التحقيق في الكتابة الروائية. يغادر المهدي بن محمد الجريدة بعد أن منع من القيام بالتحقيق، ويستقيل منها ومن قسمها الثقافي. ويذهب نحو مغامرة اقتفاء آثار والده، بحثا عن الحقيقة الموضوعية التي سرقها كتبة التاريخ الرسمي، ركضا وراء أصداء والده عند اصدقائه الذين كانوا معه في السجن. فجاءت الرواية محاكمة للوالد الذي يحاسبه الورثة الجدد لأنه ليس الوطن الذي كان يحلم به لأبنائه. وللولد أيضا الذي يجد نفسه في السجن لأنه دخل إلى مساحة غامضة محرم عليه ارتيادها. إلى اليوم كلما دخلت إلى المقر جريدة الجمهورية، يغيب عني الفاعلون الأساسيون والبشر الذين أثثوا هذا المكان زمنا طويلا كان عمري يتخطي بقليل العشرين سنة، فلا أرى إلا الشخصيات التي سكنت المكان. موجودة دون أن يراها أحد غيري. أسمع أصواتها وأتفهم أحزانها وعزلتها في زمن لم لعد لها.