مسؤول أممي: نشعر بالذعر من تقارير عن وجود مقابر جماعية في غزة    الخطوط الجوية الجزائرية : عرض جديد موجه للعائلات الجزائرية في العطلة الصيفية    الجالية الصحراوية في فرنسا تندد بمواصلة المغرب إنتهاكاته الممنهجة للقانون الدولي في كل الاراضي الصحراوية    أرمينيا وأذربيجان تعلنان عن بدء عملية تحديد الإحداثيات لترسيم الحدود بينهما    موسم الحج 2024: يوم تحسيسي لفائدة البعثة الطبية المرافقة للحجاج    رأس الحمراء و"الفنار".. استمتاع بالطبيعة من عل    فرصة جديدة لحياة صحية    دعوة لإنشاء جيل واع ومحب للقراءة    السيد طبي يؤكد على أهمية التحكم في الرقمنة لتحسين خدمات قطاع العدالة    بطولات رمز المقاومة بالطاسيلي ناجر..تقديم العرض الشرفي الأول للفيلم الوثائقي الطويل "آق ابكدة .. شمس آزجر"    القضاء على إرهابي واسترجاع مسدس رشاش من نوع كلاشنيكوف بمنطقة الثنية الكحلة بالمدية    لعقاب: ضرورة توفر وسائل إعلام قوية لرفع التحديات التي تواجهها الجزائر    في اليوم ال200 من العدوان الصهيوني: شهداء وجرحى في قصف على مناطق متفرقة بقطاع غزة    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    صعلكة    ارتكب فيها مذابح مروعة : الاحتلال الصهيوني يحوّل مستشفيات غزة إلى مقابر جماعية    الصهاينة يستبيحون الأقصى    "التاس" ملاذ الفاف وسوسطارة: الكاف تدفع لتدويل قضية القمصان رغم وضوح القانون    ساهم في فوز فينورد بكأس هولندا: راميز زروقي يتذوّق أول لقب في مشواره    فيما انهزم شباب ميلة أمام الأهلي المصري: أمل سكيكدة يفوز على أولمبي عنابة في البطولة الإفريقية لكرة اليد    دورة اتحاد شمال افريقيا (أقل من 17سنة): المنتخب الجزائري يتعادل أمام تونس (1-1)    وزارة الفلاحة تنظّم ورشات لإعداد دفاتر أعباء نموذجية    مؤشرات اقتصادية هامة حقّقتها الجزائر    سطيف: تحرير شاب عشريني اختطف بعين آزال    مرشح لاحتضان منافسات دولية مستقبلا: تحفّظات حول دراسة لترميم مركب بوثلجة في سكيكدة    للقضاء على النقاط السوداء ومنعرجات الموت: إطلاق أشغال ازدواجية الوطني 45 بالبرج قريبا    بسكرة: وضع حجر أساس مشروعي إنجاز محطة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية ومحول كهربائي ببلدية لغروس    زيارة موجهة لفائدة وسائل الإعلام الوطنية    استدعاءات الباك والبيام تُسحب بداية من 9 ماي    المكتبات الرقمية.. هل أصبحت بديلا للمكتبات التقليدية؟    انطلاق الحفريات بموقعين أثريين في معسكر    رئيس الجمهورية يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته بتونس في الاجتماع التشاوري    نحو تعميم الدفع الآني والمؤجّل    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    90 % من الجوعى محاصرون في مناطق الاشتباكات    سنقضي على الحملة الشرسة ضد الأنسولين المحلي    بنود جديدة في مشاريع القوانين الأساسية لمستخدمي الصحة    محافظة الغابات تقرر الإغلاق الجزئي لغابة "ساسل"    سطيف تنهي مخططاتها الوقائية    على راسها رابطة كرة القدم و الأندية الجزائرية: حملة مسعورة وممنهجة .. العائلة الكروية الجزائرية تساند اتحاد الجزائر ضد استفزازات نظام" المخزن "    بن ناصر يُفضل الانتقال إلى الدوري السعودي    رئيس بشكتاش يلمح لإمكانية بقاء غزال الموسم المقبل    تنظيم الطبعة الرابعة لجائزة إفريقيا "سيبسا اينوف"    تمديد اكتتاب التصريحات لدى الضرائب إلى 2 جوان    بعثة برلمانية استعلامية بولاية النعامة    مصادر وأرشيف لتوثيق الذاكرة بجهود إفريقية    الدورة 14 مرفوعة إلى الفنان الراحل "الرازي"    رفع مستوى التكوين والاعتماد على أهل الاختصاص    إقبال كبير على الأيام الإعلامية حول الحرس الجمهوري    وفد برلماني في زيارة إلى جمهورية أذربيجان    الشباب السعودي يقدم عرضا ب12 مليون يورو لبونجاح    248 مشروع تنموي يجري تجسيدها بالعاصمة    حملة واسعة للقضاء على التجارة الفوضوية ببراقي    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متاهات برهان الشاوي... من «إينفرنو» دانتي إلى الجحيم الأرضي
نشر في الحياة العربية يوم 14 - 07 - 2021

لو كان لي أن أختار شخصية السنة الإبداعية، لما ترددت ثانية واحدة في اختيار برهان الشاوي، ليس فقط لضخامة إبداعه ومداومته الصارمة وبحثه الدائم في الأصول المأساوية الأولى للإنسان والأفكار، ولكن لقدرته الخلاقة على سحب الجنس الروائي العربي تحديداً باتجاه أماكن بكر لم يرتدها أحد من قبل، ولم تصلها إلا الأساطير والكتب السماوية التي مست بعمق مصائر الإنسان القلقة والتراجيدية، ومنحته السعادة هنا وهناك، حتى ولو كانت وهمية.
المتاهات التسع التي «توّهنا» فيها برهان الشاوي بمتعة أدبية ومعرفية فائقة، تشكّل مرآة لهذا الإنسان، وتجسد سلطته المتعالية ومأساته التي كلما حاول الفكاك منها، أضاف لها لبنة جديدة تتحول فجأة إلى برزخ أو مذبح أو إلى قبر حقيقي. وهذا ما يتجلى واضحاً في متاهاته التي تنفتح على المتاهة البدئية التي تأسس فيها الإنسان الأول «متاهة آدم»، وتنتهي ب»متاهة العدم العظيم» مروراً ب«متاهة حواء»، «متاهة قابيل» و«متاهة الأشباح»، و«متاهة إبليس»، و«متاهة الأرواح المنسية»، و«متاهة العميان»، و»متاهة الأنبياء» التي تأسست على المحاولات شبه اليائسة للأنبياء لبناء مجتمع آخر من خلال أحلامهم النورانية التي تحولت في النهاية إلى حروب دينية وعرقية ولغوية قاتلة، حيث لا شيء إلا اليقين المرضي وسلطان الشهوة المقرونة بالقوة، ومتاهات الضياع.
وعلى الرغم من بعدها الزمني عنا وبنياتها الأسطورية، كم تشبهنا «الآدام» و»الحواءات» التي خلقها برهان بشكل يختلط فيه الواقعي بالغرائبي، ووضعنا في صلب مآسيها الأرضية. كم هي منا وكم نحن منها.
هذا الجهد «الأسطوري» ليس متاحاً لكل الكتاب، ولكن للذين جعلوا من «صبر أيوب» وجهتهم. فالرواية بهذا المعنى ليست فقط متعة ثقافية وفنية، لكنها جهد «عضلي» وعقلي/ معرفي حقيقي تتأسس من خلالهما رهانات الكتابة عند برهان الشاوي التي تضعه في المراتب العالية، بعيداً بمسافات ضوئية عن الكثير من الأسماء التي تحتل اليوم المشهد الثقافي بغير حق، وهل في الأدب حق؟ نحن أمام تجربة متفردة عربياً وعالمياً لا تكتفي بالمتداول والسطحي، حيث يتقاطع الجهد الروائي بالأنثروبولوجيا، والفيزياء، والفلسفة، وعلم النفس، والآداب العالمية، والتفكير الإنساني، حيث يتداخل الواقعي العادي، بالتخييل، وبالفنتازيا في وحدة غير متنافرة لدرجة الضياع في المتاهة، وهو ما يفترض قراءة متفطنة يسكنها الفضول ورغبة المعرفة والاكتشاف. يمكننا أن نقول إن برهان الشاوي روائي معرفي، صاحب مشروع كبير يتعامل بعقلية الفنان والأنثروبولوجي في الآن نفسه، مع الاقدار التراجيدية للبشر. أقدار لا يكفي لتصويرها نص واحد، فكانت المتاهات التسع التي جسدت عتبات جهنم الأرضية، كأننا بصدد كتاب ديني غني بالوقائع وأخبار الأولين، يقتفي المصائر البشرية التراجيدية التي ألمت بالبشرية، والأساطير التي غلفت الأحداث وهي ليست في النهاية إلا الواقع القاسي منظوراً إليه من عمق المأساة نفسها.
اختار الروائي لعبة الدمى الروسية التي كلما فتحتَ واحدة منها، وجدتَ في عمقها أخرى، وهكذا، من الأكبر حتى منتهى الصغر. تخترق القصة الكبيرة قصص صغيرة تؤثث المتاهات بقوة. كلما تمادينا في القراءة برزت الواحدة تلو الأخرى في تراتبية فائقة الدقة. ومن ذلك ما كتبه إبليس وأرسله لآدم الإكويني متحدثاً عن نظرية الخلق ومأساوية خروج آدم وحواء من الجنة، متماهياً مع خطابات الكتب السماوية.
والمتاهات التسع تضاهي في التقاطع والشكل والمآلات متاهات الجحيم التسع في «انفيرنو» Inferno في الكوميديا الإلهية لدانتي أليغري، الفارق الوحيد والأساسي هو أن المأساة في المتاهات أرضية، يصنعها البشر أنفسهم من خلال شهوة القوة والجريمة والظلم، في صراعهم المستميت واليائس أحياناً لتجاوز الشرطيات التي صنعوها بأيديهم، فهم يمضون حياتهم القصيرة في نصب الحبائل، وفي محو العوائق التي صنعوها لأنفسهم بأنفسهم. أبطال برهان في المتاهات التسع يلتقون في أروقة الجحيم، يصطدمون وقد يشتهون، في محاولات يائسة لتخطي الوجود المتهالك المدمر الذي علقوا به كقدر ظالم وجائر يرزحون تحت وطأته. تعميهم رغباتهم وتقودهم نحو الجحيم. ما حدث مع آدم الشبيبي مع حواء ذات النورين، وآدم زباتو والهندية المسلمة الرشيقة مادهوري، ليس إلا صورة تجسيدية لمأساة الرغبة التي تقود نحو متاهات جهنم. كيف الخروج من جحيم أرضي يذلهم ويقتلهم كل يوم قليلاً؟ بدأ منذ بدء الخليقة واستمر في خلاياهم وجيناتهم دون الفكاك منه. جحيم اليقين الديني والعرقي والتقتيل المجاني والتهجير والطرد. وهم في النهاية لا يعيدون إلا إنتاج مأساة الفراق الأولى بين آدم وحواء، والجريمة الأولى التي سال فيها الدم لأول مرة على الأرض الخالية، بعد مقتلة الأخوين قابيل وهابيل. ليست المظالم والحروب والفتن اليوم والخوف من الآتي المبهم وربما الدموي، إلا مؤشرات أولية لجحيم يتسع كل يوم قليلاً. فقد دخل برهان الشاوي متاهاته محملاً بثقافة أسطورية ودينية ونفسية وفلسفية كبيرة، ساعده في ذلك اتساع أفقه الفكري، وثقافته الإنسانية، ولغاته المتعددة، العربية والإنجليزية والألمانية والروسية، التي يتقنها وترجم عنها كتباً كثيرة. سار في رواياته عموماً، والمتاهات بالخصوص مقتفياً مقولة ليفي ستروس التي تؤكد أن في كل أسطورة جذراً من الحقيقة أخفته تراكمات قصص الأولين المتعاقبة، هو جوهر الإنسان المغيب في شرطيات اليأس والجريمة والعجز.
قبل المتاهات، أظهرت تجربة برهان الشاوي الشعرية العلامات الأولى التي تمتح من ثقافة بلاد ما بين النهرين لما سيتحول لاحقاً إلى مشروع روائي- إنثروبولوجي واسع: مراثي الطوطم (1989)، رماد المجوسي (1989)، تراب الشمس (2001)، شموع السيدة السومرية (2003). فبرهان الشاوي بدأ شاعراً مميزاً مأخوذاً بسحر الأساطير والثقافات الموغلة في القدم، قبل أن يكتشف أن هذه العوالم إذا كانت لها قيمتها الرمزية المهمة في الشعر كما عند السياب تحديداً والبياتي وغيرهما، فمتَّسعها الطبيعي هو الرواية التي بدأها بمشرحة بغداد (2012) والجحيم المقدس، قبل أن يفتح أبواب المتاهات بنصه الأول: «متاهة آدم» (2012) التي لم تتوقف حتى الآن إلا بمتاهة «العدم العظيم».
وهي تشكل، مجتمعة، ملحمة الإنسان في مواجهة جحيمه الأرضي، جحيم الشهوة والعقد المتوالدة: الصادية، عقدة أوديب، متلازمة ستوكهولم، الماوزشية، وغيرها من العقد التي يتأسس عليها الإنسان، وتقوده نحو الجحيم. لهذا اختتمت المتاهات بالتمرد على كل شيء، بما في ذلك الكاتب، وانتهت إلى حالة من العدمية. وكلمة «طز» التي تفوه بها أبطال الكاتب المتمردون عليه، تشير إلى أنه لا فكاك من المآلات التراجيدية. كلهم في النهاية شركاء في صناعة الجحيم، الذي جعل الإنسان يصطدم بالحقيقة المرة: إعادة إنتاج التراجيديا الدائمة. لم يتعلم شيئاً من موت آدم البغدادي الذي انتهى منذ المتاهة الأولى، ولا من معارف آدم الإكويني، ولا من آدم لا أحد، ولا من آدم المجنون، ولا حتى من إبليس الذي أعاد إلى الواجهة هشاشة الإنسان الذي تأسره الرغبة بمعناها الأكثر اتساعاً: الجنس، القوة، الجريمة، التسلط، اليقين القاتل، وهو في النهاية لا شيء.

القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.