تندرج علاقة النخبة بالمحيط السياسي الممثل في السلطة و البيئة المجتمعية المجسدة في مختلف الفئات المدنية، ضمن إشكالية ترابطية و انتمائية و حتى جدلية في العديد من المواطن . ومع مرور الوقت، تمكنت النخبة أن تبني قطبا مرجعيا ذاتيا تطرح من خلاله تساؤلات عن ماهية الدور الذي ينبغي أن تلعبه هذه الشريحة في مختلف الأدوار الحياتية، فهي محل استقطاب الأنظمة الشمولية لتبرير شرعيتها و محور تخوف و تباعد لدى و مع الجماهير الشعبية في الآن ذاته. فلطالما طرحت تساؤلات جمة، حول موقع النخبة الوطنية الجزائرية في الوسط السياسي و الاجتماعي ومدى فاعليتها ودورها المنوط بها تجاه الشأن العام. وتفاوتت القراءات حول أداء النخبة بين اتهامها بالتقاعس في الانخراط في النقاش المجتمعي و بين من يرى أن السياقات التاريخية لها تبريرات في فهم السلوكيات النخبة الوطنية تجاه عدم المشاركة الفعلية في صناعة الرأي العام . ومن خلال هذه الورقة، نحاول فهم تلك المسارات و الإشكاليات . -1 النخبة المفككة : لظروف تاريخية مرتبطة بالوضع الكولونيالي شهدت الجزائر بعد الاستقلال ازدواجية في المشهد السياسي و الثقافي والتعددية اللغوية و الأيديولوجية. وبذلك، انقسمت الجغرافيا "بوليتيك-كولترا" إلى التيار الفرونكفوني- الحداثي و التيار الإصلاحي- الإسلامي- العروبي . وكما هو معلوم، فإن التيار الحداثي يُؤْمِن بالفصل بين الدين و السلطة و بناء مجتمع عصري يسوده العلم و الثقافة و اللغة الفرنسية، يعتمد على مركزية الدولة في التحديث والعصرنة. أما التيار النخبوي المحافظ والمعرب يرى بناء المجتمع على أسس الدين الإسلامي و الارتباط بالمشرق العربي و يركز على العمل القاعدي في بناء الدولة . بين هذا وذاك، بات التفكك و الانقسام الإيديولوجي و الهوياتي، السمة التي طبعت النخبة، مما أنتج وضعا صراعاتيا-تصادميا بين تلك النخب بدل من أن يكون منافساتيا- بنائيا. وبدل أن تمدد جسور الحوار بغية إيجاد مساحات مشتركة تعمل على تحقيق هذه القواسم على غرار دولة القانون و احترام الحريات العامة و الديمقراطية و السوق الحرة . ضاع جهد النخبة في التقاطع و التصادم و التخوين و تبادل الاتهامات بالعمالة، ما جعل السلطة تستخدم الأطراف المتصارعة في خدمة أجندتها . 2- النخبة كطبقة : تمتلك النخبة، الرأس المال الثقافي أو الرمزي، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي "بيار برديوا" . وصار يشكل اليوم الثقل المعرفي صنعت منها تكتل أحدث قطيعة مع الوسط السياسي و المجتمعي.فأول من استخدم كلمة "انتريكتوال" هي النخبة الفرنسية في إشارة إلى الوضعية الاستثنائية-الفوقية عن باقي الشرائح الاجتماعية ، فالمثقف لا يريد أن يكون في المراتب الأدنى في الأجهزة السياسية و الإدارية التي يراد تقزيمه فيها و لا يمكن أن يسير وراء الحركة النقابية المناضلة عن الطبقات و الفئات الهشة . وعلى هذا الأساس، فان المثقف يعتقد أنه أدوات و وسائل و أشكال تعبيرية تختلف تماما عن باقي الشرائح . حتى و لو كان المثقف يعيش داخل الأوساط الشعبية و لا يمتلك امتيازات خاصة ، عدا قيمة الراس المال المعنوي. وبناء على ما سبق، تكونت عند المثقف الوصاية النخبوية و هرمية العلاقة مع محيطه الاجتماعي ، حتى أصبح العنصر الوحيد الذي لا يمتلك قاعدة اجتماعية و لا عصبة و لا طائفة و لا عشيرة و لا يبحث عن عناصر القوة المادية كمثل العساكر أو البحث عن المال السياسي المادي. علاقة السلطة بالنخبة : تاريخيا، عملت السلطة السياسية على تهميش النخبة في صناعة التنمية الوطنية و تبوء المراكز السياسية و الإدارية الحساسة ، بفعل التخوف من النفوذ الاجتماعي و السياسي و الثقافي من المثقف الموروث تاريخيا وشكل هذا الوضع هاجسا لدى السلطة الذي اشتغلت على تهميشه، انسجاما معز قاله مصطفى لشرف، "ورثت الجبهة عادات مناهضة للمتعلمين عن الأحزاب السياسية الأولى التي تكونت في أوساط الهجرة". المنظور نفسه، تبناه محمد حربي، اذ قال "كانوا يعتبرونهم مسؤولين عن توحل الحركة الوطنية و لا يقبلون انخراطهم في جبهة التحرير الوطني". وبالتالي، فإن الصراع الخفي بين السياسي و النخبوي بدأ بتاريخ الحركة الوطنية إلى ازدراء النخبة و العمل على تقليص حجم إسهاماتها السياسية و الإدارية و التنموية و تركه محل شبهات في الأوساط الجماهيرية .كما يعد انفصال الفكر عن السياسية بشبه كامل نتيجة الإحباطات و الانكسارات التي عرفتها النخبة خاصة خلال الأزمة الأمنية، أين تعرض الانتليجيسيا الوطنية إلى الإبادة و التصفية الجسدية و السجن و التعسف و القهر السلطوي . وجدير بالذكر، فان دور النخبة في التأهيل السياسي و المواطناتي و الحقوقي للشعوب يمر عبر تأسيس جملة من المعايير و المفاهيم تكون قاطرة للتعبئة الجماهيرية. وفِي اعتقادي، يتعين على النخبة، اليوم، أن تلعب أدوارها، ليس في تأسس نخبوي و لا تحالف مع السلطة الشمولية، بل عبر تأسيس و تكوين المجتمع المدني كإطار حر و مستقل يجمع الفاعليات و المكونات الوطنية المختلفة و المتوازنة في المقاربات. بقلم: عمر لشموت