في أحد الملتقيات المنظمة في المكتبة الوطنية من طرف قسم الفلسفة بجامعة الجزائر02 سنة 2007، قدم أحد الشباب مداخلة مرتجلة كليا لانه لم يحمل ورقة في يده أو دفترا، الأمر الذي فاجأ المفكرة المصرية المعروفة يمنى طريف الخولي والتي كانت ضيفة الملتقى، فراحت المفكرة المصرية تسأل عن هوية هذا الشاب الفصيح ظنا منها انه ليس جزائري، وقد كانت دهشتها كبيرة لما عرفت أنه جزائري وازدادت دهشتها لما عرفت أنه أصيل الجامعة الجزائرية وان تكوينه المعرفي كان في الجزائر لتختم دهشتها بعيارة شهد عليها كل من كان حاضرا قائلة: ” ان هذا الشاب ظاهرة حقا” . هذا الشاب الفصيح لم يكن إلا المرحوم محمد بن بريكة والذي غادرنا مذ أيام الى جوار ربه تاركا وراءه تاريخا حافلا بالمنجزات العلمية، ولد العلامة سنة 1958 بمدينة الدوسن ببسكرة وبها حفظ القرآن الكريم والمتون بطريقة جزائرية أصيلة، وفيها أنهى تعليمه الابتدائي والأساسي لينتقل الى العاصمة وتحديدا الى قسم الفلسفة متخصصا في المجال الذي عشقه منذ صغره وهو مجال التربية والسلوك أي مجال التصوف فكات ثمرة هذا العشق أن كانت كل رسائله الاكاديمية في التصوف الاسلامي وفيها أبدع وتفوق بشهادة جميع من درسه . ليعين كأصغر أستاذ جامعي في تاريخ الجامعة الجزائرية بقسم الفلسفة بجامعة الجزائر وعمره قارب الثاني والعشرين ربيعا، ليلج عالم الاليف من بابه الواسع فكتب موسوعة الطرق الصوفية في ستة عشر مجلدا وهي الموسوعة التي قد لا يحتمل كتابتها جملة من المؤلفين فضلا على انسان واحد، فان دل هذا عن أمر إنما يدل على صبره وتفانيه في التدوين، كما كتب كتب أخرى ولعل أهمها ” الكتاب الكبير في الثناء على النبيء البشير” وكذا موسوعة الحبيب، وجمهرة الأعمال الصوفية ( 7 أجزاء مطبوعة)، وكتاب ” سلسلة الاتحاف بمنازل الأشراق” في ثلاث أجزاء وغيرها من الكتب الاكاديمية القيمة التي يعود اليها كل باحث يشتغل على مجال التصوف في العالم الاسلامي قاطبة . في هذا السياق كثيرا ما لاحظ طلبة العلامة بن بريكة حضوره المبكر الى قسم الفلسفة يوم تقديمه محاضرته الاسبوعية بل وأحيانا قد يأتي قبل البواب الذي يفتح بناية القسم، فلما سئل عن ذلك أقسم بأنه لم ينم طوال الليل يقرأ ويكتب ويؤلف، فلما أذن لصلاة الفجر صلى ثم استقل سيارته الى القسم مباشرة للتدريس في صورة تبرز جهد الرجل في الكتابة والتأليف ومحاولة افادة الاجيال المتعاقبة بدراسات معرفية دقيقة . لاشك أن المؤلفات الغزيرة للبروفيسور بن بريكة حتمت عليه التواجد في الكثير من الملتقيات الوطنية والدولية محاضرا ومناقشا بعدة لغات باعتبار أن الرجل يجبد العربية والانجليزية والفرنسية والالمانية كتبا ونطقا، فكان داعية الى الله بأسلوبه خاصة في البلدان الاوربية، هذا النشاط الدؤوب في العلم والمعرفة ألزمه كذلك بتقلد جملة من المناصب العلمية في العالم الاسلامي، فكان المرحوم عضو الاكاديمية العالمية للتصوف بالقاهرة، وعضوا مؤسسا للرابطة العالمية للتصوف بأندونيسيا، وكذا عضوا مؤسسا للمركز العالمي لحوار الاديان بالدوحة سنة2007، وذا العديد من المناصب العلمية على المستوى المحلي والدولي والتي من خلالها رفع راية الجزائر تشريف. نال المرحوم بن بريكة اعتراف من احاط به لجهده العلمي ولتفانيه في نشر المعرفة، حيث نال جائزة رئيس الجمهورية الجزائرية للبحث العلمي سنة 2012، كما تم تكريمه من طرف الرئيس التونسي الراحل مؤخرا القايد السبسي سنة 2016، كما نال الراحل جائزة شخصية العام التي تمنحها جامعة كولومبياالأمريكية سنة 2017، وغيرها من الجوائز المحلية والدولية والتي من خلالها تم الاقرار بشيء من فضل الرجل وبمكانته المعرفية وابداعه العلمي . إن المرافق للعلامة بن بريكة يدرك صدقا حجم الخسارة التي عرفتها الجزائر بفقدانه، كيف لا وهو العالم الذي كان يلافح دفاعا عن السلم والمؤاخاة ابان العشرية السوداء من خلال برامجه التلفزيونية محافظا على تعاليم الاسلام الوسطي المعتدل القابل للاخر والمحاور له، عالم حافظ على المرجعية الدينية للجزائر من خلال تفعيله لدور الزوايا الحقيقي ومحاربته للبدع التي التصقت بها، وكذا تجديده لعلم التصوف أكاديميا من خلال بعث أسس معرفية جديدة بدأت تدرس في الجامعات الجزائرية وكذا العربية الاسلامية . رحل العلامة محمد بن بريكة تاركا وراءه تراثا معرفيا يحتاج الى عناية خاصة من طرف الجهات الوصية، كما تحتاج شخصية العلامة بن بريكة الى تعريفها الى الاجيال المتعاقبة والاحاطة ببعض من تفاصيل حياته بغية محاولة استنساخ نماذج ابداعية شبيهة له تفيد بلدنا الجزائر خاصة والعالم الاسلامي عامة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال ” إذا مات العالم انثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة ” فرحمة الله على العارف بالله سيدي محمد بن بريكة البوزيدي الحسني وعوض الله الجزائر في مصابه خيرا . بقلم : الدكتور عبد الحميد مرزوڨي