مؤتمر القمّة في كوالالمبور يؤسّس لعمل إسلاميّ مشترك
ويهدف إلى بعث الحضارة الإسلامية، واستعادة أمجادها التليدة. في حوار ثري خص به الشيخ مامون القاسمي “الحوار” تحدث فيه عن رحلته العلمية الفكرية في مؤتمر كوالالمبور خلال الاسبوع الماضي، ذاكرا انطباعاته عنها، مبرزا ما جاد به خلال مشاركته بها، فضلا على رايه في تسيير الجلسات المبرمجة في المؤتمر، هذا و اشار الشيخ مأمون خلال هذا الحوار الى رؤياه القيمية تجاه هذا المؤتمر باعتباره نقاشا جادًّا بين قادة البلدان الإسلامية ونخبها الفاعلة، من خلال الدّعوة إلى العمل المشترك،وكذا تنسيق الجهود لجمع الأمّة، والتخطيط لمستقبلها، بطريقة جماعية، ضف الى ذلك السعي الجادّ لإيجاد حلول عملية لمشكلات العالم الإسلامي… كل هذا و تفاصيل اخرى تجدونها بين طيات هذا الحوار… فضيلة الشيخ: هلاّ حدّثتنا عن مشاركتك في مؤتمر كوالالمبور، خلال الأسبوع الماضي، وعن انطباعاتك الأولى التي عُدت بها من ماليزيا. تلقّيت الدعوة للمشاركة في هذا المؤتمر التاريخيّ، الذي انعقد بمبادرة من رئيس وزراء ماليزيا، الدكتور محمّد مهاتير؛ وكنتُ استمعتُ له، في حديث عن أهداف المؤتمر؛ حيث ظهرت رؤيته الثاقبة المتبصّرة، ونظرته الاستشرافية لآفاق النهوض المأمول؛ مع تأكيد دعوته لحشد طاقات الأمّة، وحسن استغلال خيراتها وثرواتها واستثمار كفاءاتها؛ مُلحًّا على العمل المشترك من أجل بعث الحضارة الإسلامية واستعادة أمجادها التليدة. وقد ترك الخطاب في نفسي طيّب الأثر، وحفّزني لحضور المؤتمر. وتجاوبًا مع الأفكار المطروحة، عزمتُ على إعداد بحث أعانني الله على إنجازه، ضمّنته جملة من الاقتراحات والتوصيات تستجيب في تقديري لتطلّعات المؤتمر، وتنسجم مع أهدافه وغاياته المنشودة. وقد قدّمته مُترجمًا إلى اللغة الانجليزية، إسهاما في العمل لتحقيق هذا المشروع الحضاريّ، بعنوان: ” من أجل النهوض المأمول والإقلاع الحضاريّ المنشود “. كيف سارت أشغال المؤتمر وكيف كانت جلساته؟ السيّد مهاتير فصّل القول في أهداف المؤتمر؛ واستعرض وسائل تحقيقها في الجلسات الثلاث:في الافتتاح والاختتام، وفي الجلسة العامة التي جمعت قادة الدول الذين حضروا المؤتمر مع العلماء والمفكّرين، والكتّاب والإعلاميين؛ فضلاً عن شخصيات وفعاليات في المجتمع المدني، وخبراء من مراكز بحثية وعلمية متخصّصة. تناول المؤتمر بالبحث والدراسة موضوع التنمية ودورها في تحقيق السّيادة الوطنية، وموضوع اكتساب العلوم والتقنيات الحديثة. وقد تركّز النقاش على عوامل التنمية، ومقوّمات السّيادة، وعلى العدالة والحرية، والتربية والهوّية. كما ناقش موضوع الاستثمار والتجارة والتكامل الاقتصادي؛ وأخذ موضوع التكنولوجيا حيّزًا هاما من مناقشات المؤتمر. وقد أكّد البيان الختامي التزام المؤتمر بالعمل لتحقيق هذه الأهداف؛ وتنفيذ الحلول العملية التي أقرّتها القمة، ضمن رؤيتها لإحياء الحضارة الإسلامية. كما أكّد التزامه من أجل بناء أمّة تعيش في كنف الحرية والكرامة والرخاء، وتعزيز التضامن بين المسلمين، وتجميع قواهم، واستثمار مواردهم، وابتكار أفضل المقاربات لمعالجة المشكلات التي تواجهها الأمّة، في ضوء قيم الإسلام، وهداية القرآن. وماذا عن مشاركتك بالذّات في جلسات المؤتمر؟ في الجلسة العامة الأولى أشرتُ إلى الخلاصة التي انتهيتُ إليها في البحث المقدّم إلى المؤتمر؛ وممّا قلته في هذا السياق: إنّ استقراء تاريخ الحضارة الإسلامية يؤكّد أنّها متجدّدة متطوّرة، تحتوي المتغيّرات داخليا وخارجيا. وإذا ما تقلّص ظلّها اليوم لعوامل موضوعية عارضة، فإنّ هناك مؤشّرات تعد بنهضة تمكّن الأمّة من استئناف رسالتها من جديد؛ إذا هي أعدّت العدّة، وأخذت بأسباب القوة التي أمرنا الله بإعدادها؛ ولعلّ أمضى سلاح فيها هو سلاح العلم المرتبط بالعمل، والعمل المقترن بالإيمان، المهتدي بالعلم. …إنّنا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث المستفيضة، والدراسات الموضوعية، والمناقشات الجادّة الّتي تربط ماضي المسلمين المشرق بحاضرهم المتطلّع إلى الانبعاث والتّجديد، وترسم معالم مستقبلهم الواعد ونهوضهم الحضاريّ المنشود. وختمتُ بالقول: إنّ أمّتنا اليوم أحوج ما تكون إلى الممارسة الواعية لمنهج التلقّي من كتاب، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحسن تمثّل المنهاج القرآني، في الإصلاح التربويّ والاجتماعي، وفي مسعاها للنهوض والإقلاع الحضاريّ. أمّا في الجلسة التي خصّصت لموضوع التربية، فقد ذكّرتُ بأنّ التّربية في منهج الإسلام عمادها القرآن الذي يجمع أصول التّربية والتعليم. وقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة؛ فاتّخذوا القرآن أساسا لتربية النشء، منذ بداية الطريق؛ واستمرّوا على ذلك، زمنا طويلا. ثم مرّت بهم فتن ومحن، حالت بينهم وبين مصادر الهداية الربّانية، وأصول التربية القرآنية؛ فراحوا يستعيرون أنماطا في التربية، من هنا وهناك؛ ويستوردون أنظمة في التعليم، حوّلت منظوماتهم التربوية إلى خليط من المناهج التي لا تنسجم مع مبادئهم وقيمهم؛ ولا تستجيب لتطلّعاتهم وأهدافهم. وقد أصبح من أوكد الواجبات استدراك هذا الخلل، وما ترتّب عليه من آثار التردّي والانهزام والاغتراب، في مجالات الثقافة والإعلام، وفي مناهج التربية والتعليم؛ وفي مجال المؤسّسة الأسرية المستهدفة من المخطّطات الرامية إلى تفكيك المجتمع، وطمس خصائصه المميزة. وقلتُ بصدد تكوين المعلّمين وتأهيلهم لحمل هذه الرسالة النبيلة: إنّ القائمين على شؤون التّربية والتعليم مطالبون بإيلاء أكبر العناية بإعداد المعلم المربّي الكفء، القادر على تكوين الفرد المسلم الذي يتزيّن بالإيمان والأخلاق، ويتسلّح بالعلم والمعرفة، ويكون عاملا إيجابيا، يُسهم في بناء نهضة أمّته، وترقية حياتها الروحية والمادّية. وأما في الجلسة المخصّصة لموضوع الهوّية، فقد ذكّرت بالتأثيرات السيّئة لمشاريع العولمة، التي تهيمن بقوانينها ونظمها ومؤسّساتها، وسياساتها المعلنة والمضمرة، غير عابئة بالقيم الروحية والأخلاقية للمجتمعات، وغير آبهة بما تحدثه مشاريعها من تداعيات سلبية، على هذه المجتمعات، في المجالات: الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإذا لم نكن، نحن المسلمين، مؤهّلين لمواجهة ظاهرة العولمة، فإنّنا سنتحوّل إلى فضاء لثقافتها وسوق لمنتجاتها. والتأهّل المطلوب يكون بإعادة بناء الذات، انطلاقا من الأسرة والمدرسة والمسجد، لبناء الفرد وتحصين المجتمع. من محاولات تمييع شبابه، وهدم أخلاقه، واستلاب ثقافته وخصوصياته. نحن ندرك أنّنا، مع مجتمعات أخرى، طرف في صراع حضاري غير متكافئ، وأنّ العولمة واقع فرض نفسه على العالم؛ ولا مناص من اعتبار منطق هذا الواقع الذي تشتدّ ضغوطه وتتعاظم مخاطره، يوما بعد يوم، ولكنّ ذلك لا ينبغي أن يثنينا عن السعي لتحقيق التفاعل الإيجابي مع الغير، والتفتّح السليم عليه، والاستفادة الحكيمة مما لديه، والإصرار على إظهار ما عندنا ممّا هو حقّ لا يمكن التغاضي عنه ولا المساومة فيه. ففي خضمّ المعركة التي تخوضها أمّتنا، من أجل تحقيق ذاتها، والمحافظة على عناصر هوّيتها وخصوصياتها؛ وفي مواجهة مشاريع العولمة، يجب على الأمّة أن لا تفرّط في ثوابتها، وأن لا تتنازل عن شيء من خصائصها، التي هي عنوان شخصيتها وسرّ تماسكها. ولا ينبغي أن تأخذ من المشاريع المطروحة هنا وهناك إلاّ ما يكون فيها من إيجابيات. فالتفتّح على ثقافة العصر لا يعني التنازل عن خصوصياتنا، ولا التنكّر لهوّيتنا، أو التفريط في ثوابت ديننا. فينبغي لنا أن نأخذ من حضارة العصر ما ينفعنا من منجزاتها العلمية، ومنتجاتها الفكرية والتقنية؛ ونرفض منها ما يتعارض مع ثوابتنا، أو يضرّ بمصالح أمّتنا. فالحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ بها. وألاحظ هنا أنّ هذه الأفكار والاقتراحات تضمّنها جميعا البحث المقدّم للمؤتمر. وماذا استنجتَ من النقاش الذي جرى في هذه الجلسات؟ لعلّ قمة كوالالمبور تشكّل بداية لعصر جديد، نشهد فيه نقاشًا جادًّا بين قادة البلدان الإسلامية ونخبها الفاعلة. وتظهر أهمّيتها في الدّعوة إلى العمل المشترك، وتنسيق الجهود لجمع الأمّة، والتخطيط لمستقبلها، بطريقة جماعية، والسعي الجادّ لإيجاد حلول عملية لمشكلات العالم الإسلامي، تكون قابلة للتنفيذ. لاحظنا أنّ صُحفا وقنوات إعلامية وجَّهت انتقادًا لقمّة كوالالمبور. فما تعليقك على ذلك؟ هذا شأن الإعلام المأجور، كما هو معهود. فقد شنّت قنواته حملة تضليلية يراد منها التقليل من شأن هذه القمة، والنيلُ من مصداقية الدّاعين إليها، والطعن في توجّهاتهم وأهدافهم؛ وتتّهمهم بتجاوز منظّمة التعاون الإسلامي، ومحاولة تغييب دورها؛ وهي، في نظر المنتقدين، الهيئةُ المعنية برعاية قضايا الأمّة، ومصالحها المشتركة. وكأنّه لا يحقّ لأيّ كيان أن ينشأ ولا لأيّ تكتّل أن يقوم، خارج إرادة المتحكّمين في هذه الهيئة الدولية. والحقيقة التي يشهد بها العالم أنّ هذه المنظمة بقيت، منذ ولادتها، هيكلاً بلا روح، وما فتئت تصدر بيانات متكرّرة، في دوراتها المتلاحقة. وتكتفي، في أوضاع معينة، بإصدار بيانات تنديد واستنكار؛ ونجدها، في الوقت ذاته، تتجاهل مظالم وجرائم وانتهاكات للحريات وحقوق الإنسان، تمارسها أنظمة مستبدّة ضدّ شعوبها المقهورة، أو تمارسها دول في العالم ضد أقلّيات مسلمة تتعرّض للإبادة والتهجير وشتّى أنواع الاضطهاد وأساليب التعذيب. وخلافًا للظنون الآثمة فإنّ الأهداف الحقيقية لمؤتمر كوالالمبور أن يكون نواة صلبة للوحدة المنشودة، ويشكّل شبكة تواصل بين القادة والعلماء والخبراء في البلدان الإسلامية؛ ويسعى لصياغة تكتّلات تقوم على التكامل الاقتصاديّ؛ وتعمل لتنفيذ خطط التنمية المستدامة؛ وتهدف إلى تحقيق السيادة المتكاملة في المجتمعات المسلمة. وتتصدّى لمشاريع الدول الّتي تتزاحم على مناطق النفوذ وتسيطر على خيرات الأمّة وثرواتها ومقدّراتها. ولم يكن من أهداف المؤتمر أن يكون بديلا لأيّ منظّمة أو هيئة دولية، ولا منافسا لها. وهذا ما عبّر عنه كثير من المشاركين فيه؛ وفي مقدّمتهم راعي المؤتمر، رئيس وزراء ماليزيا، الذي بيّن ذلك بوضوح، في تدخّلاته المتعدّدة. وقد لاحظنا أنّ المؤتمر توخّى الحكمة، وأراد دفع الشبهة، حين تجنّب في بيانه الختامي ذكر قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف؛ وهي القضية التي كانت دائما حاضرة في المؤتمر وفي منتدياته ودوراته. فقد يرى البعض أنّ الاهتمام بهذه القضية يعود إلى هيئة إسلامية دولية تأسّست قبل خمسين عاما، بعد محاولة إحراق المسجد الأقصى المبارك. سنة 1969م. إنّما نخشاه على هذا المشروع الحضاريّ أن يؤتى من قبل الصهيونية العالمية وقوى الاستكبار المهيمنة. فهي لن ترضى أبدا للمسلمين أن يجمعوا شتاتهم، ويستثمروا عقولهم وكفاءاتهم، ولا أن يستكملوا مقوّمات سيادتهم في أوطانهم. والذي يسهّل مهمّتهم هم حلفاؤهم وعملاؤهم. ويساعدهم على تنفيذ خططهم الماكرة ومشاريعهم الهدّامة وكلاؤهم في بلاد المسلمين؛ وأولئك هم الأخسرون أعمالا، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا. ومهما يمكر الماكرون، ومهما يدلهمّ الظلام وتشتدّ الخطوب، فإنّ اليأس لا يجد إلى المؤمنين سبيلا. فالفجر قريب إن شاء الله؛ والنصر آت بإذن الله.ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء وهو القويّ العزيز.