شاهدناه منذ منتصف التسعينات على شاشاتنا.. يحاور ويتحدث ويحلل في قناته (المستقلة) التي بقيت كما بدأت، ولعلّها إشارة ذكية من الدكتور على أنه مستقل تماما عن أي تمويل وضغوط، فتصبح المستقلة مستقلة اسما على مسمّى.لا أنكر إعجابي الشديد بهذه الشخصية السياسية والإعلامية التونسية.. رجل يتميز بأخلاق عالية وثقافة واسعة، ومحبّة عارمة للإسلام، والعروبة. دعونا نقترب أكثر من الدكتور الهاشمي الحامدي ضيفنا لهذا العدد. حاوره: مصطفى بونيف * في البداية نرحب بك ضيفا عزيزا على مجلة الحوار وعلى قرّائها الكرام، الذين يعرفونك جيّدا؟ شكرا لكم على الاستضافة وأرجو لكم التوفيق والنجاح في خدمة الإعلام الحر الهادف والجزائر العزيزة.
* عرفك الجمهور الجزائري مثل الجمهور العربي منذ منتصف التسعينات من خلال قناة المستقلة، وهي من المشاريع الإعلامية الجادّة والمتميزة في العالم العربي، حدّثنا عن هذه التجربة، كيف بدأت، وإلى أين ستمضي؟ بدأت المستقلة كصحيفة عربية دولية من لندن في أول جانفي 1993. ذلك كان تاريخ صدور العدد الأول. بدأنا بعدد واحد في الشهر، ثم تحسن الوضع فأصبحت صحيفة أسبوعية. وكانت الصورة الرئيسية لصفحتها الأولى صورة الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله، مع هذا العنوان: "بعد عام من تنحيته: خصومه يفتقدونه والجزائر تبحث عن الاستقرار". وفي 1996 حصلت على رخصة لإطلاق قناة فضائية عربية من لندن. وفي 28 جانفي 1999 بدأ بث القناة: ثلاث ساعات فقط في الأسبوع، ثم تحسن الوضع وأصبح بثها 12 ساعة يوميا، ثم أصبحت تبث على مدار الساعة. كان الحافز لتأسيس المستقلة صحيفة وقناة فضائية هو نقل الحقيقة الى الناس دون معايير مزدوجة، والدفاع عن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والشخصية الثقافية والحضارية المستقلة في المجتمعات العربية. ومثل هذه الأهداف ما كان بالإمكان خدمتها من خلال العمل في المؤسسات الإعلامية المملوكة لبعض الحكومات العربية، التي كانت مسيطرة على الإعلام العربي في لندن. لذلك غامرت وأسست صحيفة المستقلة، ثم قناة المستقلة، وها نحن بفضل الله وكرمه نحتفل بالذكرى الثامنة والعشرين لبداية هذه المسيرة. الحمد والشكر لله كثيرا.
* علاقتك بالجزائر وطيدة، كيف دخلت الجزائر أوّل مرة، حتى أصبحت واحدا منها، وزواجك من جزائرية؟ كنت مشرفا على تحرير الصفحة الدينية في جريدة الشرق الأوسط السعودية الدولية في لندن. وفي صيف 1988 جاءت الى الصحيفة دعوة من وزارة الشؤون الدينية في الجزائر لإرسال مندوب عنها يغطي أعمال ملتقى الفكر الإسلامي الشهير الذي كان يعقد سنويا في الجزائر. فكلفني رئيس التحرير بهذه المهمة. سافرت وحضرت الملتقى، وغطيت أخباره للصحيفة. وفي إحدى ندواته تعرفت على فتاة جزائرية تدرس في الجامعة، تلبس الحجاب الشرعي، أبوها يعمل في المحاماة، وكان مجاهدا في جيش التحرير الشعبي الجزائري، وعمها من شهداء الثورة الجزائرية. تعرفت عليها، وكان حبا من أول نظرة كما يقال، وقد تكلل بالزواج بعد عام واحد، وبذلك تشرفت بمصاهرة أهلي في الجزائر. والحمد لله كثيرا على فضله ونِعمه.
الجزائر وهي بلدك الثاني، تواجه اليوم مخطط التطبيع الذي أصبح على أسوارنا، كيف تنظر يا دكتور إلى تطبيع المغرب الجار أولا، ثم تطبيع دول عربية أخرى؟ التطبيع خذلان للشعب الفلسطيني الشقيق، وللقضية الفلسطينية العادلة، وتشريع لمبدأ السطو والاحتلال في العلاقات الدولية. يؤسفني ان المغرب انخرط في هذا المسار، ملتحقا بدول عربية أخرى سبقته. كان المفروض أن تتحد الدول العربية بمواقف سياسية مشتركة وقوية في رفض التطبيع، وفي التصدي ديبلوماسيا لكل دولة في العالم تنقل سفارتها الى القدسالمحتلة وتدوس على القانون الدولي والحقوق الفلسطينية. الموقف الجزائري مشرف، وأرجو أن تصمد الجزائر في وجه الضغوط المختلفة التي تسلط عليها للالتحاق بركب المطبعين. * بلد عربي جار مهدد بحرب محاور، تركيا ضد مصر والإمارات في ليبيا، كيف تقيّم الموقف هناك؟ كنت عارضت بشدة جلب الناتو الى ليبيا لإسقاط نظام القذافي عام 2011. لم أكن معجبا بنظام القذافي، لكني اعتبرت أن الاستعانة بالناتو لاسقاط نظامه خطأ أخلاقي وسياسي جسيم. كبيرة من الكبائر بالمعنى السياسي. وقد انتقدت الحكومات العربية التي سعت في هذا العمل الشنيع، والتيارات السياسية والفكرية العربية التي أيدته. وتحملت بالمقابل أذى وشتائم كثيرة من أنصار هذه الحكومات والتيارات. الذي يحصل في ليبيا منذ عدة سنوات هو ثمرة طبيعية لعمل سيئ جدا وهو استقدام الناتو الى ليبيا. أصبحت ليبيا بلدا مقسما، وأهله في تطاحن وعداوة واقتتال. أمر مؤسف للغاية. الآن، الذي فات فات، ونتعلم منه الدروس. أرجو أن يمضي الليبيون في تنفيذ ما اتفقوا عليه مؤخرا في تونس من خطة للمصالحة وتجديد بناء مؤسسات الحكم. أرجو ذلك بشدة، لكني أحذر من الصعوبات التي تعترض طريق تنفيذ اتفاق تونس. الصعوبات الداخلية والخارجية.
* لنتحدث عن تونس، ما تقييمك لأداء الرئيس قيس سعيّد في قيادة تونس إلى غاية اليوم؟ سافر الرئيس قيس سعيد الى باريس العام الماضي، وقال إن تونس كانت تحت الحماية وليس تحت الاستعمار، وانتقد الأحزاب التونسية التي تطالب فرنسا باعتذار رسمي عن الحقبة الاستعمارية، وفي الداخل أطلق تصريحات متكررة عن وجود مؤامرات خطيرة ضد البلاد، وقال إنه يعرف تفاصيلها ويتابع أخبارها، وان صواريخه جاهزة للإطلاق على هؤلاء المتآمرين، دون أن يتبع ذلك أي تحقيق للعدالة في هذه الاتهامات أو إيقاف لأشخاص مشتبه في تورطهم في هذه المؤامرات. بالإضافة لما سبق، أصبح الرئيس قيس سعيد طرفا في حالة الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد، وظهرت بينه وبين رئيس الحكومة هشام المشيشي خصومة علنية، رغم أن قيس سعيد هو من جاء بالمشيشي الى وزارة الداخلية، ثم الى رئاسة الحكومة، دون أن يرشحه أي حزب من الأحزاب. جاء به الى رئاسة الحكومة، وفرضه على الجميع، ثم أصبح خصما له قبل أن ينال هشام المشيشي ثقة البرلمان. كان بوسع الرئيس قيس سعيد أن يكون أداؤه في الحكم أفضل بكثير.
* كيف تتابعون الاحتقان والتوتر الدائم داخل البرلمان التونسي؟ للأسف الشديد، هذا الاحتقان وهذا التوتر يخدمان كل من يحلم بعودة الديكتاتورية والتسلط والحكم الفردي ونظام الحزب الواحد الى تونس. حسب استطلاعات الرأي، المستفيد الأكبر من هذا الصراع والتناحر البرلماني هو الحزب الدستوري الحر. وإذا صدقت هذه الاستطلاعات، وأرجو أن لا تصدق، فإن أغلبية الناخبين التونسيين سيصوتون لعودة حكم حزب بورقيبة وبن علي. لماذا كانت الثورة إذا؟
* ما تقييمكم لأداء حزب النهضة؟ أنصار حركة النهضة يعتبرون أن عدم تعرضهم لمصير الإخوان المسلمين في مصر يعتبر إنجازا كبيرا لهم، ويتعللون بهذا الخطر ليبرروا تحالفهم مع حزب نداء تونس، الذي كان في حقيقته، نسخة مطورة قليلا من حزب بورقيبة وبن علي، وليبرّروا تصويتهم ضد اعتماد الإسلام المصدر الاساسي للتشريع في البلاد، وليبرروا تصويتهم ضد تجريم التطبيع في تونس، ومواقف أخرى مشابهة. كثير من الناس يحسبون العشرية الماضية منذ الثورة عشرية حكم حركة النهضة، ويحملونها مسؤولية الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانون منها. والنهضة تدافع وتقول إنها لم تحكم بمفردها لتطبق سياساتها بحرية. رأيي الشخصي أنه كان أولى لحركة النهضة أن تتمسك بالمبادئ الإسلامية التي جمعت أنصارها عليها، وأن تتبنى سياسات تخدم الشباب والعاطلين عن العمل والفقراء الذين فجروا الثورة، ويشعرون اليوم أنهم لم يجنوا منها شيئا. * ما آخر كتاب ألّفته وأهديته للقارئ العربي، لو تحدثنا عنه، وكيف يمكن اقتناؤه؟ صدر لي قبل عدة شهور كتاب "رسالة الدولة العادلة في إطار المبادئ الإسلامية". قبل ذلك بسنوات نشرت كتابي "السيرة النبوية للقرية العالمية" و"رسالة التوحيد". أنا أقول وأكرر أنه ليس حتميا أبدا أن تبقى كثير من الدول العربية والإسلامية غارقة في ظلمات الفوضى الخلاقة أو الهدّامة. وفي كتاب الدولة العادلة سعيت لتقديم بديل قابل للتطبيق، يضع الدول العربية على سكة الأمن والتقدم والازدهار، ألا وهو الدولة العادلة في إطار المبادئ الإسلامية. إنها الدولة المدنية التي تسيّر عامّة شؤونها على أساس العدل لأنه أساس الحكم الصالح الرشيد وشرط قوة الدولة وازدهار الاقتصاد، وغيابه يعني ضعف الدولة وفقرها وخضوعها للإملاءات الأجنبية، وهي الدولة التي تخضع لحكم القانون، وتطبق الشورى، وتحترم بصرامة حريات الناس ومبادئ حقوق الإنسان، وهي أيضا الدولة التي تستفيد من جميع تجارب العالم القانونية والاقتصادية والحضارية، لكنها تلتزم بضابط أساسي يحفظ لها صفتها الإسلامية الحقيقية، وهي أنها لا تسنّ ولا تشرّع في دساتيرها وقوانيها أحكاما معارضة لأحكام الإسلام.
* كلمة أخيرة توجهها إلى متابعيك في الجزائر. أدعو الأجيال الجزائرية الشابة إلى تذكر التضحيات الضخمة الكبيرة لآبائهم وأجدادهم في سبيل تحرير الجزائر من براثن الاستعمار الفرنسي والحفاظ على هويتها الإسلامية ولسانها العربي. الوفاء لتلك الأجيال الشجاعة أمانة في رقاب الشباب الجزائري الذي هو ذخر للجزائر، وذخر للأمتين العربية والإسلامية أيضا، وللإنسانية قاطبة. شباب الجزائر اليوم جيل تسري في دمائه جينات الأنفة والكرامة والشجاعة والمحبة الخالصة للإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، والعالم الإسلامي كله بحاجة لعطائه ولبصمته المتميزة في تعزيز الهوية الحضارية والثقافية المستقلة لأمتنا.