: بقلم الدكتور محمد علي الصلابي: ..ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾)المائدة: 44)، أي بما طلب إليهم حفظه، والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأنَّ هذا القرآن جيء به مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها، فكان جامعاً لما فيها من الحقائق الثابتة، زائداً عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادَّاً مسدَّها، ولم يكن شيء فيها يسدُّ مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمراً يسر له أسبابه وهو الحكيم العليم. ولم يُنزَّلالقرآن الكريم بمثابة كتاب في التاريخ يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد بالتي هي أقوم، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستوراً للمسلمين، ومنهاجاً يسيرون عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد وإلى تهذيب النفوس، وإلى وضع مبادئ للأخلاق وميزان للعدالة في الحكم، واستنباط لبعض الأحكام، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية فإنما للعبرة والعظة، واستلهام سنن الله في قيام الدول وسقوطها، وازدهار الحضارات وزوالها، وصفات قادة التغيير الإنساني، ومناهجهم في إدارة الصراع مع قوى الظلام والشر والضلال، والبغي والإجرام… إلخ. 1. معلومات هامة عن عصور ما قبل الإسلام: هكذا يقدم لنا كتاب الله العزيز معلومات مهمة عن طريق القصص القرآني عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة، كل التأييد، فيقدم لنا – عن طريق قصة موسى عليه السلام- كثيراً من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية، وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها. والأمر كذلك لقصة إبراهيم حيث تقدم لنا الكثير عن العراق القديم. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنَّ أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم إنما هما قصتا إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهما قصتان مسهبتان في أجزائه، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعراق أمم الحضارة الإنسانية، وهما أمة وادي النهرين، وأمة وادي النيل، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم. وأما عن بني إسرائيل فليس هناك من شكٍّ في أنه ليس هناك كتاب سماوي – حتى التوراة نفسها- قد فصل الحديث عن بني إسرائيل وأفاض في وصف اليهود وأحوالهم وأخلاقهم، وأبان مواقفهم من الأنبياء، كما فعل القرآن الكريم، وصدق الله العظيم، حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(النمل: 76). وأما عن بلاد العرب، فإنك تجد في كتاب الله الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأعني بها "سورة سبأ"، هذا إلا أنَّ القرآن الكريم قد انفرد دون غيره من الكتب المقدسة بذكر أقوام عربية بادت كقوم عاد وثمود، فضلاً عن قضية أصحاب الكهف، وسيل العرم، وقضية أصحاب الأخدود، إلى جانب قصة أصحاب الفيل، وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك. * وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾(هود: 49). * ويقول: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(آل عمران: 44).