لم تفلح الرسائل المنسوبة لرئاسة الجمهورية في "مراوغة" الشارع الذي يزيد تصميما على تحقيق مطالبه ورفع سقفها من رسالة لأخرى، فلا إلغاء العهدة الخامسة ولا تأجيل الانتخابات ولا تغيير الحكومة ولا الندوة الوطنية وتعديل الدستور التي قدمت كطعم، قد وجدت من يحملها أو يتبناها في حراك الشارع، لقد فقدت السلطة زمام المبادرة ولم تعد تلقى سوى اللاءات تلو اللاءات وحتى من أقرب الناس إليها. لم تصدر أي رسالة باسم رئاسة الجمهورية إلا وردّ عليها الشعب بمسيرات الرفض وفي حينها، مما يعني أن السلطة لا تتخبط فحسب فيما تريد تحقيقه وتفقد مع كل يوم يمر ركيزة من الركائز التي كانت تسند بها حكمها، بل لم تعد السلطة بوجوهها الحالية، جزء من العملية السياسية في نظر الشارع بعدما رفضت المسيرات الشعبية القديم منها والجديد. فحتى التضحية بالوزير الأول أحمد أويحيى وتعويضه بوزير الداخلية نور الدين بدوي ونائبه رمطان لعمامرة، التي كان يراد بها إرسال رسائل طمأنة للشارع، وجدت نفسها مثل "الكارت المحروق" وفي زمن قياسي لم يسبق حدوثه من قبل مع كل الحكومات المتعاقبة، حيث كانت تمهل الحكومة آليا فترة 100 يوم هدنة، قبل أن تبدأ الانتقادات ضدها. الحاصل اليوم أن حكومة بدوي تواجه الرفض والسخط حتى قبل ولادتها، فكيف سيكون الأمر بعد معرفة الوجوه والأسماء المشكلة لها، مما يؤشّر أن السلطة فقدت كليا الشرعية الشعبية ولم يعد يتعامل معها حتى من باب الأمر واقع. وينتظر أن تزداد متاعب السلطة أكثر وما بين الأجنحة داخلها، بعد إعلان تشكيلة الحكومة الجديدة القديمة، بالنظر إلى ما وقع كسابقة في تعيين وزير أول ونائبه خارج أي سند دستوري، وكان ذلك مؤشر على أن التخبّط وسط الزمر الحاكمة قد بلغ أشده، خصوصا بين الساعين إلى ضرب حراك الشارع للحفاظ على مصالحهم وفي مقدمتهم جماعة "الأوليغارشيا"، كما تسميهم زعيمة حزب العمال، وبين أقلية قليلة تريد "التغيير" ولو في الواجهة الأمامية، للحيلولة دون انفجار النظام والذي أضحى ضمن مطالب الحراك الشعبي بعدما بدأ بالخامسة فقط. ويوحى التماطل والمقاومة داخل السلطة في التعاطي مع مطالب الشارع، أن هناك من لا يزال يراهن على انقسام الشارع أو تراجع الوهج الشعبي، سواء من خلال الدفع لولادة "قيصرية" لما قد يسمى الشخصيات المحاورة للسلطة باسم الحراك الشعبي التي يراد اصطناعها عوض فرزها طبيعيا، وهي المحطة التي تراهن السلطة على وقوعها لضرب الحراك الشعبي بمعية خصومها السياسيين، أو من خلال ترويج السلطة لبعض المغانم، على غرار إمكانية تعيين وزراء جدد مستقلين في الفريق الحكومي الجديد أو حل البرلمان لاصطياد المترددين أو بإنشاء هيئات ريعية جديدة تحسبا لما يسمى تحضير "الندوة الوطنية". لكن رغم ذلك تحولت السلطة من الفعل إلى رد الفعل ليس إلا، بعدما وجدت كل مقترحاتها تسقط مثل أوراق الخريف، ومن دون أن تكلّف مسيرات الشارع عناء كبيرا في التجنيد والحفاظ على نفس درجة الضغط وأكثر، فحتى الإجراءات التي اتخذت من قبل وزير التعليم العالي في فرض عطلة إجبارية لتصريح الطلبة من الجامعات أو ما صدر من مضايقات في التربية والعدالة وحتى في القطاع الاقتصادي، لم تزد سوى في تأجيج الغضب ضد السلطة ورموزها. لن تجد السلطة من يدافع عليها أو يثق في رسائلها، وهي التي رفعت الهراوات ضد الأطباء والأساتذة والمعلمين وكمّمت أفواه الصحافة وكبّلت أيدي القضاة والمحامين وهمّشت البطالين والمقاومين وسجنت الحقوقيين والنشطاء وضربت المتظاهرين والنقابات المضربين، ظنا منها أنها استسلم لها الجميع، في حين وحّدت من حيث لا تدري الجميع على كره السلطة وهاهم يطالبونها اليوم بالرحيل.