صدرت الترجمة العربية لكتاب "فرنسا ما بعد الكولونيالية" للمؤلف بول أ.سيلفرستين (ترجمة نضال إبراهيم) مؤخرا، يتناول التحولات الاجتماعية والتاريخية التي طرأت على فرنسا، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، مع الوقوف عند التعددية الثقافية والعرقية في هذا المجتمع الذي يعاني بعضا من التمييز في إدماج الملونين القادمين من المستعمرات. تعتبر فرنسا رائدة في الشعور بالقلق ما بعد الاستعمار والسياسة الشعوبية التي تظهر في جميع أنحاء العالم اليوم، ويكشف هذا الكتاب معضلات اللحظة الراهنة للأزمات والأمل في فرنسا، من خلال استكشاف الفزع الأخلاقي الحديث الحاصل بين القوميين الفرنسيين، ويتتبع الصراعات الناشئة عن توترات المشروع الإمبراطوري التي لم يتم حلها، ولا تزال تسبب المعاناة في حياة الكثيرين في فرنسا اليوم. يأتي الكتاب في 240 صفحة، أطلقته دار "بلوتو برس" للنشر، وينقسم بعد المقدمة المعنونة "إلى أين فرنسا ما بعد الاستعمار؟" إلى سبعة فصول. يعود الكاتب في مقدمته إلى فترات سابقة من التاريخ الفرنسي، ويشير فيها إلى أنه في 3 نوفمبر 1934، وسط الأزمات الاقتصادية وشغب الشوارع لليمين المتطرف في فترة ما بين الحربين العالميتين، طرح ليون تروتسكي السؤال الملح "إلى أين يا فرنسا؟"، هل ستنحدر إلى الحماس العنيف للقومية الفاشية التي ميزت جيرانها في الشرق والجنوب؟ أم أن الطبقة العاملة إلى جانب الفلاحين المستغلة ستنهض ضد عقود من البرجوازية التي أفلست المجتمع الفرنسي سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا، وسأل؛ هل "سيكون البديل، الاشتراكية الثورية أو الاستجابة الفاشية؟، وقال "على هذا السؤال يعتمد مصير فرنسا لسنوات عديدة قادمة". استكمالا لما أشار إليه تروتسكي، يذكر الكاتب أن مصير فرنسا أصبح لسنوات تلت، ممزقا إلى قطع بتأثير الغزو الألماني، حيث الشمال تحت الحكم النازي والجنوب يتمتع بحكم ذاتي تحت قيادة فيشي، وحكومة قوات فرنسية حرة في المنفى بقيادة شارل ديجول، والانقسامات الأخلاقية والإيديولوجية والتكتيكية بين "التواطؤ" و«المقاومة" استمرت في تحديد المشهد الاجتماعي السياسي الفرنسي لفترة طويلة بعد "التحرير" الشكلي عام 1944، متحولة إلى روايات قومية متنافسة موجودة بين "فرنسا الحقيقية" الكاثوليكية والريفية والجمهورية المدنية والعلمانية. يشير إلى أن "المشهد بعد الحرب كان إمبرياليا بشكل بارز، ويبرز ذلك من خلال العلاقات الإدارية مع الأراضي الخارجية، حيث مُنحت الجنسية لرعايا المستعمرات، مع استقطاب الطلاب الكاريبيين والآسيويين والإفريقيين والجنود والعمال، خاصة الجزائريين الذين حملوا نوعا ما عبء التحرير، وإعادة بناء فرنسا أو فترة العقود الثلاثة من الازدهار التي أعقبت التحرير". الفصل الأول يعتمد على العمل التأسيسي لعالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صياد، حيث أحدثت دراسته لظاهرة الهجرة تغييرا كبيرا في أدوات ووسائل التحليل السائدة التي كانت محكومة بنظرة أحادية، أي تحليل ظاهرة الهجرة من وجهة نظر مجتمع الاستقبال وحده، بحيث اعتبر أن هذه الظاهرة تخص مجتمعين اثنين هما؛ المجتمع الأصلي، أي المجتمع الجزائري، ومجتمع الاستقبال، أي المجتمع الفرنسي. يشير المؤلف بول إلى أن الذين ينحدرون من خلفيات مهاجرة بعد الاستعمار، يحملون عبء مآزق ومعاناة الماضي معهم، حيث أصبحت جزءا من تصرفاتهم وآرائهم تجاه العالم، وفي مواقفهم تجاه الحياة في فرنسا، وتصوراتهم عن استراتيجيات الخروج المستقبلي، ورغم أن العديد من آبائهم وأجدادهم، سواء كانوا طلابا أو عمالا في المصانع أو المناجم، شاركوا في النضال ضد الاستعمار، فإن نشاطاتهم ونتائجهم نادرا ما تذكر. تحت عنوان "تجاوز الحدود الوطنية"، يتم استعراض رؤى علماء الهجرة الذين أبرزوا بشكل مهم خطوطا من الانقسام المحتمل، داعين إلى مسألة "بوتقة الانصهار" التي من المفترض أنها حولت بشكل سحري، الفلاحين شمال الإفريقيين، وعلى رأسهم الجزائريين، إلى رجال فرنسيين، لكن عند التفكير بتجاوز الحدود الوطنية كهدف أحادي الجانب، يستمر في توحيد المهاجرين وأحفادهم مع "أوطانهم" الثقافية والجغرافية، والمخاطرة في التأكيد على الفزع القومي الجديد الذي يعتبر الفرنسيين المسلمين طابورا خامسا يسعون لمستقبل "أورابي" أي عربنة وأسلمة أوروبا، وهذا المصطلح يدخل ضمن نظرية المؤامرة التي يدافع عنها أنصار اليمين المتطرف في أوروبا. في فصل آخر، يتناول المؤلف الحجاب والتحول الديني، والتطرف باعتباره هاجسا متكررا للدولة ولوسائل الإعلام، والذي يولد جهودا قانونية لتنظيم وتحديد التدين والتحكم فيه، بالإضافة إلى مواضيع إسلامية علمانية جديدة، مثلما تطرح فضيلة عمارة، وهي كاتبة الدولة المسؤولة عن السياسة الحضرية في حكومة فيون الثانية بالجمهورية الفرنسية (عائلتها من أصل جزائري). يرى الكاتب أن هذه المخاوف وصلت إلى ذروتها مع صعود "داعش" وعنفه العابر للحدود، لكن مراقبة الدولة الفرنسية للحياة الإسلامية وثّقت الهجمات المأساوية، ويركز الفصل على كيفية تقويض الحياة ما بعد الكولونيالية في فرنسا بشكل متزايد، من خلال عسكرة الفضاء المدني وعلمنة التعبيرات الثقافية والدينية. يركز الفصل الخامس على الخلافات المتكررة حول اختيار وأداء المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، إذ يعتبر الفريق الوطني لكرة القدم بمثابة الرائد في مجال التكامل والتعددية الثقافية، كما أن لاعبيه الملونين يخضعون لمعايير مستحيلة، فضربات زين الدين زيدان الرأسية خلال مباريات كأس العالم لعام 2006 أعطته موقعا، لكنها لم تمحُ تراثه وأصوله، وتُقارَن شخصيته البطولية مع شخصية اللاعب الفرنسي الإفريقي نيكولاس أنيلكا بين جيل من اللاعبين المسلمين الفرنسيين المتهمين بالانطواء الذاتي والولاءات غير المؤكدة، لاسيما في أعقاب الفشل الذريع للمنتخب الفرنسي في بطولة كأس العالم لعام 2010. يقول الكاتب "من خلال هذه المشاركات الرياضية، يحاول المواطنون الفرنسيون الشباب في الهامش، أن يتحدثوا إلى هياكل السلطة، ويشكلوا قدرا من التأثير في المجتمعات المحلية". الفصل السابع يدور حول المدن ويتمحور حول ابتكارات فن ال«هيب هوب" ، وهو أكثر أشكال المواجهات صدى، تمت مواجهتها عبر ثلاثة عقود في ضواحي مشاريع الإسكان في فرنسا. تتوقف الخاتمة على مسألة طلب "حب فرنسا أو تركها"، وكيف استجابت شخصيات المجتمع الإسلامي الفرنسي لهذا الطلب، من خلال لغة إعادة صياغة الحب. للتذكير، فإن بول سيلفرستين يحمل شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة شيكاغو 1998. وهو حاليا أستاذ علم الأنثربولوجيا في كلية (ريد أوريجون) الولاياتالمتحدةالأمريكية، له العديد من الكتب، من بينها؛ "الجزائر في فرنسا" (2004)، "الذاكرة والعنف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" (2006)، "بورديو في الميدان: السياسة الاستعمارية، الممارسات الإثنوغرافية، التطورات النظرية" (2009).