"ترميمُ فيلم يعني أوّلًا إنقاذه". بهذه العبارة استهلّ نبيل جدواني محاضرته التي شدّ بها انتباه الطلبة، الذين حضروا بأعداد كبيرة إلى الماستر كلاس المنظم أوّل أمس الجمعة، بالمسرح الصغير لديوان رياض الفتح، ضمن فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بالجزائر. روى السينمائي والباحث مؤسّس الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية، القصة الشيّقة لطاهر حنّاش وفيلمه "غوّاصو الصحراء" (1952). وهو عمل اعتُقد لسنوات طويلة أنّه مفقود قبل أن يعود اليوم إلى الحياة بفضل عمل دقيق، ومضنٍ. وقال جدوّاني: "السينما شريط هشّ، يتلف مع الزمن. ومن دون ترميم يضيع كلّ شيء". وفي ما يتعلّق بالأفلام الجزائرية، غالبًا ما يشبه الأمر "سباقًا ضدّ الزمن"؛ فالتراث السينمائي تفرّق، وتعرّض للتلف، وللرقابة، أو، ببساطة، للنسيان. وأضاف جدواني: "كان مصير فيلم "غوّاصو الصحراء" قريبًا جدًا من الاندثار، فلم تبقَ منه سوى آثار ضئيلة، متمثّلة في نسختين قديمتين على مقاس 16 مم، احتفظت بهما ابنة المخرج بعناية فائقة. كانت البكرات متعبة، بعضها مُلصق، لكنّها كانت ذات قيمة لا تقدّر بثمن. فدونها كان الفيلم سيضيع إلى الأبد". وأضاف جدواني: "بدأت حينها رحلة التحقيق؛ حيث جرى ترقيم البكرات صورة بصورة. لا النسخة السلبية، ولا نسخة كاملة. النسخة المتوفّرة لا تتجاوز 21 دقيقة. نلتقط فيها آثارَ قصٍّ ونواقص، وهذا جزء من تاريخ الفيلم. ثم تأتي المرحلة الخفيّة التي تُحوّل الهشّ إلى حيّ تثبيت الصورة، ومعالجة الاحتراقات، وتخفيف الخدوش". وأكد: "لسنا هنا لنجمّل، بل لنُعيد الحياة". الترميم، كما يراه الباحث، عمل دقيق، ومعركة ضدّ الزمن. "كانت البكرات مليئة بالخدوش، والقطوع، والوصلات البدائية. بعض الصور كانت متماسكة بقطعة شريط لاصق فقط. أما الجنيريك فكان في حالة مزرية. فشريط الفيلم كائن حيّ يتدهور جسديًا، وكيميائيًا. وأحيانًا بسبب "متلازمة الخل". الرطوبة والحرارة والزمن خلّفت آثارًا لا رجعة فيها، مثل الفطريات التي تمحو الكلمات، والوجوه"، وفقا لجدواني. وتزداد الصعوبات عندما تظهر التمزّقات العميقة، والثقوب الناتجة عن احتراق جهاز العرض؛ "عندما لا توجد صورة سليمة قبل أو بعد، لا يستطيع البرنامج إصلاح شيء" ، يوضّح المُرمم، مشيرًا إلى أن في هذه الحالات يُقصّ الإطار قليلًا للحفاظ على ما يمكن إنقاذه. وبعد الإصلاحات يبدأ التنظيف اليدوي الدقيق لكلّ سنتمتر من الشريط، ثم ترقيمه إطارًا بإطار باستخدام ماسح متخصّص. وتُلتقط كلّ صورة بعناية قبل معالجتها ببرمجيات الترميم، مع الإبقاء أحيانًا على بعض الخدوش؛ حفاظًا على أصالة العمل. وتُعالَج كلّ صورة على حدة، ثم تُراجَع يدويًا باستخدام اللوحة الرسومية؛ "24 صورة في الثانية الواحدة". وفي تجربة السينما–الحفل أُعيد تركيب الموسيقى الأصلية عبر فصل المسارات الصوتية. وذكّر جدواني بأهمية البحث الوثائقي المرافق لعملية الترميم؛ صور قديمة، مقالات، خطط أولية للصحراء... كلّها عناصر تُعيد رسم جزء من عالم طاهر حنّاش، وإلهامه. وفي ختام المحاضرة حذّر جدواني من التوجّه نحو الصور المُولَّدة بالذكاء الاصطناعي قائلا: "لن تُعوّض أبدًا البحث الحقيقي، ولا اللقاءات مع العائلات، ولا الوصول إلى الأرشيف الأصلي. يمكن الذكاءَ الاصطناعي إنتاج صور جذابة، لكنها لا تروي القصة الحقيقية للسينما الجزائرية".