الوقت يحتضر، لكن الساعة لا تتوقف، عقاربها تسير ببطء، ترتعش وترتجف كنبضات قلبه، يغلي ويبرد، حمى وألم، هيكل عظمي مقيد على سرير المستشفى، خمس سجانين ملوا الانتظار، لا زال حياً، يهمسون ويطلبون من الأطباء الإسراع في استدعاء العدم... سامر العيساوي يصيح لا زلت حياً، خرجت قبل قليل من لحظة الموت المفاجئة، ونظرت إلى ظلي المقطوع عن جسدي، ما أطول عمري، وما أبطأ مبضع الجلاد عندما جف من جسدي الماء، فانبهر من تدفق دمي، ومن روحي يرويها حلمي والقدس. سامر العيساوي: لا زلت حياً، قادر أن أصبر حتى تأتي لجنة تقصي الحقائق التي أقرها البرلمان الأوروبي لتراني، وقادر أن أشرح معنى القلق الإنساني الذي عبرت عنه ممثلة الاتحاد الأوروبي اشتون في تصريحاتها، وقادر أن أرجئ موتي الذي يأتي ويذهب، ولكني لن أودعه... بعد أكثر من تسعة شهور من الإضراب المفتوح عن الطعام، وهنا من على الكرسي المتحرك، لا أقدام أشعر بها، ولا أيدي أرفعها لأبصر قمر الليل، جسمي صدى، وتهمتي أني أكره السجن وأحب السفر من القدس إلى غدي، وأعود والغيم في يدي، أريد أن أرى الربيع في موعده، ولا أتأخر عن موعد الصلاة في الكنيسة أو تحت قبة الصخرة العنيدة. لا زلت حياً، أنتظر الرئيس الأمريكي أوباما ليزورني، ويسير معي في رحلتي كاملة الأعضاء، ربما لا يتأخر على الباب أو لا يعيقه السجانون، وربما سيضطر للوقوف قليلاً حتى أفيق من غيبوبتي، وربما يعود محافظاً على صفاء ذاكرته ولا يصاب بنقص الهواء، عندما يرى الجلاد في أنفاس الطريدة. لا زلت حياً، أروض الألم، وأخشى على السجانين من رائحة جوعي وأشباحي وارتفاع في نشاط روحي، وهم يهبطون إلى أسفل الدرك الأخلاقي والإنساني، وأنا أسكن على قمة بعيدة... رجفة في الركبتين، تشنج في البطن والعضلات، جفاف في الحلق وتراجع في البصر، أذوب مقيداً، أذوب علناً وفي فضاء الكون، أذوب أمام الكلمات والبيانات، ولكن أتجمد كثيراً أمام أمي، هي التي توجعني، وهي التي تنير ضوءاً إلاهياً حولي، أخاف عليها مني، فسامحيني لأني أنام الآن وتستيقظين فلا تجديني... أنا سامر العيساوي لا زلت حياً، أرفض المحكمة وسيناريوهات الإعدام، أرفض الإبعاد إلى المنفى خارج جاذبية القدس، وأرفض أي حوار بين جوعي ولائحة الاتهام، لأن الحرية لا تحتاج إلى حبل للنجاة. الحرية ليس لها إيديولوجيا، ولا تحتاج إلى مفاوضات، وهي أول السلام وآخر السلام، جرحي النازف لا يحتاج إلى قاض وقضاة منهكين من الحقيقة، كلما زاد جوعي استيقظ الغد، وتحرك الطير في الهواء، وبين موتي وحياتي أوصي أن لا يقف أحد على الحياد... سأقول للرئيس الأمريكي: كان يمكن أن لا أكون هنا في السجن مربوطا بجنون السياسة الأسرائيلية لو أن الاحتلال لم يتجاوز البحر ويعبر ألى غرفتي الهادئة لو أن الحاخامين لم يحملوا السيف باسم التوراة ويعلنوا الحرب على الناس والتاريخ والذاكرة... ربما لما احتاج السلام إلى مائة عام من القتل... ولما احتاج الزيتون أن يبكي طويلاً على غارسه... ولما انتشر الحراس حول خلايا النحل في بيت لحم والناصرة .