خرجت عصرا من الجامعة مرهقا ، كانت وجهتي مسرح عبد القادر علولة ، واقتادني الترامواي كالعادة إلى ساحة أول نوفمبر، فرميت بجسدي على أحد الكراسي، وسرعان ما استعدت قواي وانتعشت ، كأني لم يمسني التعب والنصب . . وأنا جالس ساهم ، قطع علي صديقي وحدتي ، ناشط جمعوي في البيئة ومختص في المساحات الخضراء ، سلم علي ، واسترسل في حديث طويل شبيه بمحاضرات بعد الزوال عن البيئة، وعن كل ما هو أخضر، ولم يستثن في كلامه عن هذا اللون سوى بلومي، الذي أفنى شبابه في البساط الأخضر، ولا يزال عوده رغم ثقل السنين أخضرا .. ولما استبان صديقي عدم تحمسي لحديثه، سألني عن وجهتي ، فأشرت إلى المسرح، عندها قرر في دخيلته استفزازي عبر مساءلتي: - يا أستاذ ، مالفائدة التي يجنيها الناس من ارتياد المسرح ؟ أدركت الغاية الخبيئة لسؤاله، فقارعته بسؤال جنيس : - ولماذا يقصد الناس المساحات الخضراء ؟ فأجابني بسرعة : للتمتع بجمال الخضرة واستنشاق الهواء النقي . . فقلت : كذلك المسرح . . نؤمه للتمتع بالجمال وتنشق اله... بفضاضة، قطع علي الكلام متسائلا : - كيف ؟ قررت في أعماقي أن أستدرج هذا الأخضر اليابس باتجاه بساط المسرح الأحمر، وعرضت عليه مرافقتي لمشاهدة عرض : متزوج في عطلة، فوافق من فوره . . فوجئ صديقي باصطفاف حشد كبير من الشباب و الشابات و المراهقين أمام الشباك لاقتطاع تذاكر الدخول لمشاهدة سمير بوعناني المتزوج في عطلته ،وعبرنا الباب معا بابتسامة عريضة ،كانت تذكرتينا للوصول إلى صالة المسرح.. بدأ العرض الذي شهدته مرارا ،وقضيت معظم فتراته أختلس النظر إلى صديقي في تفاعله وتواتره وتلقيه للعرض بفرح طفولي إلى حد الانغماس.. انقضى زمن التمثيل ،وأنيرت الأضواء في القاعة ،وقمنا لتحية الممثل ،ثم غادرنا بناية المسرح ،وصديقي يمشي مترنحا دون كلام، كالحالم ،فقطعت عليه نشوته سائلا: - كيف وجدت المسرح؟ تململ وهو يبادر إلى الإجابة : وجدت المسرح يا أستاذ..مثل الحديقة ،عثرت فيه على الراحة و السكينة ،والألوان الزاهية و الأضواء و المتعة ،والفرح.. وهل هكذا كان إحساسك يا أستاذ ؟ أومأت برأسي مؤكدا،وواصلت معه السير إلى شارع الأوراس ،حيث الباعة وصيحاتهم وتعليقاتهم ،محدثا إياه ببساطة وعموم عن المسرح بوصفه وسيط جمالي،في تماثل جانب منه مع الحديقة الغناء ، من حيث اشتماله على الألوان البديعة في حواراته ومونولوجاته، ومهارات التمثيل و الممثلين ،وبراعة الإخراج المسرحي وجمالياته ،من أزياء وأضواء وبهارج، توشح فضاء المسرح وتزينه.. ولما قصدت مصافحته وإنهاء الحديث ،سارع إلى مقاطعتي ليسألني عن الجانب الآخر للمسرح فقلت: المسرح والمساحات الخضراء رئتا المجتمع اللتين تؤمنان له الهواء، وسلاسة وحرية التنشق، لكي يتواصل نشاطه الحياتي بانتظام إلى وقت معلوم . . والمسرح – كما شهدناه اليوم – يشابه في موضوعاته وحيثياته حياة الواقع ، ولكنه لا يقلدها ، أو يجتر تفاصيلها فوتوغرافيا على الركح، بل يحاكيها، كواقع كائن، ينضح بشتى النقائص والمثالب المنهكة والرتيبة، ليسمو ويقفز عليها، ويتجاوزها جماليا، إلى ما ينبغي أن تكون عليه، ضرورة أو احتمالا . . فالمسرح يا صديقي فن الممكن، الذي يتيح لنا أن نتنشق في فسيح مساحاته ملء صدورنا نسائم الحرية، ونمتع أنظارنا ونشنف أسماعنا بلطائف الإبداع وعذبات الجمال، ونتشوف على صهوته آفاقا رحبة لا متناهية، تحرر عقولنا وأفكارنا من أدران وأدواء الواقع، لنرسم لأنفسنا بكل حرية، آمالا عريضة وسامقة، نستظل بظلالها الوارفة، وخضرتها ونضرتها الوافرة، من زعق وصخب وتلوثات الواقع . . نظرت من حولي إلى صديقي، فوجدته واجما متسمرا، فصافحته على أمل اللقاء في مساء آخر، وفي ساحة خضراء أخرى، ويجتذبنا البساط الأحمر إليه من جديد ، لنتتبع ونستمتع بأطوار مقطع حياتي جديد، في دثار بديع جميل، جمال الحدائق الغناء، والمنتزهات الأخاذة، والمساحات الخضراء...