من بين مختلف الأنماط الإبداعية التي تصنع المشهد الثقافي و التي انفرد بلقب الأب لها ، يبقى المسرح أكثر الفنون اقترابا و التحاما بالجماهير. وهذه العلاقة الوطيدة بين المسرح و الجمهور لم تؤسس من العدم و لم تفرضها ظروف خاصة وإنما هي قرابة وجدت منذ الوجود البشري. حيث و بفضل نعمة العقل التي ميزه الله بها عن سائر المخلوقات ، بدأ الإنسان في استخدام قدراته على التخيل، و تقليد أصوات الحيوانات و أصوات الطبيعة. وكانت تلك هي الخطوة الأولى في مسيرة فن التمثيل المسرحي. مسيرة بدأت بممثل و جمهور و استطاعت خلال قرون طويلة أن تقطع أشواطا كبيرة و تشهد تطورات عديدة، حتى وصلت إلى النسق التي هي عليه اليوم. و وجد الإنسان في الأداءات التعبيرية التي كان يلقيها و يتلقاها متنفسا لقضاياه المجتمعية التي كانت و لا زالت الجماهير تتأثر بها لما تحمله من أفكار جادة. طبعا حسن اختيار الأفكار أو المواضيع الجادة و التميز في طريقة طرحها يبقيان من العوامل الأساسية التي تعزز الرابطة بين المسرح و الجمهور. فهناك الكثير من المسرحيات الجادة التي تركت أثرها منذ القدم ، و لا تزال تحتفظ الجماهير بذاكرتها . و لأن الإنسان بطبعه كائن متحول و متطور فقد يتحول هذا النسق الحالي و يتطور إلى صور و أشكال أخرى في المستقبل. لكن الثابت في كل هذا هي العلاقة الأزلية بين الملقي و المتلقي، فالمسرح موجود بالممثل و الممثل موجود بالجمهور و لا يمكن تخيل المسرح خارج هذا النسق. فهذه العلاقة بعناصرها الثلاثة تلتقي لتشكل وحدة موحدة ، إذ أن كل طرف فيها يعتبر عنصر ضروري مكمل للمجموعة لا يمكن الاستغناء عنه، فالمسرح يحتاج إلى الممثل ليحول النص المسرحي إلى عرض بصري لكي يصل إلى المشاهد وإلى مستوى الفرجة . و الممثل يحتاج إلى الجمهور لتلقي رسالته و تشجيعه على الاستمرار في الإبداع و العطاء . و الجمهور يحتاج إلى المسرح ليأخذ بيده و يرتقي به إلى مصاف المجتمعات المزدهرة بحيث أن ازدهار المسرح يؤدي حتما إلى ازدهار المجتمع ، والعكس صحيح. فإذا غاب عنصر من هذه العناصر الثلاثة لا يصبح للعنصرين الآخرين جدوى في الاستمرار . لذا تجد الفاعلين في الحقل المسرحي في حركية مستمرة لمواكبة تطور المجتمعات و إثراء الأفكار و المواضيع الجديدة و المتجددة من أجل النزول عند الرغبة المشتركة في توثيق الرابطة بين المسرح و الممثل و الجمهور. هذه الأهمية تفرض على صناع الفرجة من كتاب مسرحيين و مخرجين و ممثلين اعتماد المواضيع النابعة من صلب المجتمع و الخوض في دراسات دقيقة للمجتمع و معرفة ميولاته و اهتمامته و كيف يمكن تلبية رغباته و الوصول إلى متطلباته. كلها أفكار و مواضيع يتم استخلاصها من المجتمع ليتم إلقاء الضوء عليها وبلورتها لتقدم إلى نفس المجتمع في أشكال و ألوان مختلفة. على هذه الصورة و النسق بدأ المسرح أول خطواته و عليهما سار إلى أن وصل إلى ما هو عليه حاليا، فهل سيستمر على نفس النمط أم للغد أمر آخر؟