كان عبد القادر علولة معلما كبيرا في المسرح، لكن قبل ذلك، في الحياة. كلما التقيت به مسرحيا أو حياتيا، شعرت بأني تعلمت شيئا جديدا. أولا كان رجلا مريحا، بسيطا أيضا، يمنح الكثير من الثقة والأمان والطمأنينة. بساطة لباسه تجعلنا نشعر بأن هذا العملاق المشهور، يشبهنا كثيرا. نادرا ما رأيت علولة بطاقم كما يفعل الكثيرون. حتى في الرسميات، كان يتحايل دائما لكي تكون ألفيستا من لون والسروال من لون آخر. ذاكرتي لا تحتفظ له اليوم إلا بهذا، أي في اللباس الذي يشبه فيه الجميع. أول لقاء به كان في بداية السبعينيات عندما رأيت أول مرة مسرحية الخبزة، التي كان قد أنجزها بعد العلق (1969). لم أرها في أول عرض لها على المسرح الجهوي بوهران في 1970، كنت ما أزال في تلمسان، في ثانوية بن زرحب. يومها عرضت في جامعة السانيا بوهران، في مدرج مدرج 8 مايو 1945 الكبير الذي امتلأ عن آخره. كان العرض متبوعا بنقاش حاد، تقاسمه الطلبة بمختلف التيارات بالخصوص الماركسية والإخوانية، التي كانت قد اتضحت على الساحة الوطنية بشكل واضح. كانت المسرحية مؤثرة جدا في المشاهد إذ جعلت المتفرج يشد بقوة إلى مأساة السي علي وحلمه في كتابة الجوع والحاجة، ليفوز في النهاية بالجائزة الأولى عن مؤلفه * الخبزة * الذي أصبح سريع الانتشار. عرض المسرحية في الوسط الطلابي خارج حيطان العلبة الإيطالية، كان جزءا من استراتيجية علولة، أن ألا يبقى المسرح حبيس الحيطان الأربعة، كما بين ذلك في اطروحته المسرحية التي اتضحت لاحقا بشكل واضح من خلال محاضرة وضح فيها تصوراته الفنية في العلاقة بالجمهور، القاها في برلين، في سنة 1987، في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح. عرض يومها عبد القادر علولة رؤيته المسرحية والظروف المحيطة التي ساعدته على اكتشاف الصدفة وفهم وترسيخ مسرح الحلقة، من خلال احتكاكه بالحياة اليومية للجزائريين، فهو في النهاية ابن هذه الحياة ويعيشها كما يعيشها الآخرون. وكما يقول، فقد وصل إلى نوع من الملل والقلق في منجزه المسرحي الذي اعتمد دوما العلبة الإيطالية المغلقة كمكان للعروض. لاحظ في جولات فنية كثيرة لتقديم العروض لطلاب الثانويات والجامعات، والعمال، والفلاحين، والعاطلين، والنساء العاملات، أن مسرح الحلقة أصبح أكثر من ضرورة لأنه الأقرب إلى روح الناس، والأكثر قابلية للتجاوب لأنه من صلب الحياة اليومية. من وراء ذلك قصد علولة تقريب المسرح إلى الشعب. والابتعاد عن الخطابات الجاهزة ذات الطابع السياسي والإيديولوجي. من بين ما قاله، في محاضرته في برلين: * اكتشفنا من جديد، حتى وإن بدا هذا ضربا من المفارقة، الرموز العريقة للعرض الشعبي المتمثل في الحلقة، إذ لم يبق أي معنى لدخول الممثلين وخروجهم. كل شيء كان يجري بالضرورة داخل الدائرة المغلقة (الحلقة). ولم تبق هناك كواليس. وكان يجري تغيير الملابس على مرأى من المتفرجين، وغالبا ما كان الممثل يجلس وسط المتفرجين بين فترتي إداء، لتدخين سيجارة دون أن يتعجب من ذلك أحد.* في مسرحية *الخبزة* التي عرضت يومها في المدرج، بذور وعلامات مسرح الحلقة التي بدأت تتجلى من خلال أداء الممثلين ومساحة التمثيل، يدعمها بقوة حوار شعبي بين الجد والقسوة والسخرية. شعرت يومها وأنا أشاهد المسرحية للمرة الأولى، بضرورة الكتابة عنها وأكثر من ذلك، محاولة الالتقاء بعلولة الذي كان فترتها يعيد تضبيط عروض مسرحيته* حمق سليم*، وان مان شو، التي لاقت اهتماما جماهيريا كبيرا يومها بحيث أبدع فيها إخراجا وتمثيلا أيضا، التي اقتبسها عن مذكرات مجنون، لغوغول (1972). عندما استأذنت رئيس التحرير في إجراء الحوار مع علولة، ضحك وقال: أنت تضيع وقتك، لن يقبل. نصنع أحيانا صورا للآخرين من محض خيالاتنا وما سمعناه عنهم. لم يكن الأمر صعبا. عندما جلست معه في مقهى مسرح وهران في ذلك الصباح الخريفي، برفقة ابن عمي، الطيب رمضان، ومحمد أدار، وتحدثت عن الخبزة التي كان قد مر عليها زمن، منذ عرضها الأول، كان سعيدا أن الجمهور الطلابي أحبها كثيرا. سألته عن السبب المتخفي لكتابة سيرة عمي السي علي الفنية؟ قال الخبزة بنت الكلب، هي الفقر والميزيرية وقسوة المجتمع، لكنها أيضا حلم نهاية المظالم. المسرح يمنح هذه الفسحة وغلا سنسقط في الظلام الكلي. على المسرح أن يساهم في تنوير الناس، وأن ما يحدث من حولنا ليس قدرا أبديا، وأن تغييره ممكن. على العكس من ادعاءات البورجوازية العايشة كالقمل والصيبان بدم الريسان. ثم واصل بصوته الجهوري: يا لافامي، نحتاج إلى مسرح جديد يستوعب ما نصبو إليه. اندماج الجمهور مع المسرحية يعني التماهي بأن ما تقوله المسرحية هو معني به بقوة. وعي المسرح هو وعي المجتمع. لهذا يختلف عن الفنون الأخرى، لأن الكائن الحي ليس لغة مثل الأدب ولكنه بني آدم يؤدي دورا حيا شبيها بما يدور في الحياة، لهذا قوته أرسخ وأعمق.. لم يكن بعد مسرح الحلقة ولعبة الفرجة، قد تحولا إلى انشغال مسرحي حقيقي عند علولة، لكن الإشارات الأولى كانت واضحة. قبل أن يهرب نحو عرض حمق سليم، سألته هن رضاه عن الخبزة وعن العلق، وعن المسرح السياسي. ضحك محولا حاجبيه وكأنه يتهيأ لأداء دور مسرحي: السياسة موجودة في كل مكان. حتى في الماء الذي نشربه أو المرأة التي نحب. ثم لما لا نسرق منهم خطاباتهم الجافة والفارغة ونحولها إلى مادة مسرحية؟ لقد سمم السياسيون العقول، دعنا نعيد لها قليلا من إنسانيتها. صحيح أحيانا يبقى الخطاب على السطح وفي أحيان أخرى يتصاعد عاليا حتى يصبح جزءا من اللعبة الفنية. الخبزة موجهة اللي يشتاقوا للخبزة ويدافعون عنها باستماتة. ليست مسرحية ثقافية تأملية ولكنها مسرح القاع الذي لا نراه أو لا نريد رؤيته. نريد أن نشترك في هذه التحولات لبناء مسرح وطني حقيقي. وأنا أتابعه في كلامه، أحسست أن علولة كان مشبعا بأيديولوجية الحق والعدالة والاشتراكية. لكن في الوقت نفسه كان يقف ضد نظام جعل من الاشتراكية وسيلة للسرقة والنهب والفساد. لم يغرق في التصفيق للنظام، فقد حافظ على هامشه المسرحي الحقيقي. الناقد بلا هوادة. عندما انتهينا من المحاورة الخفيفة،استأذنته بنشر الدردشة في الجمهورية. ضحك وقال: * يا ودي انشر إذا حبوا ينشروا. هما مرة على مرة تنوض فيهم المعزة، ويعادونا بلا سبب، من ساعة اللي تضامنا مع الصحفيين الفرانكفونيين المطرودين. وقفنا مع كلمة حق مش ضد التعريب. ضد الإرهاب اللغوي الذي يرمي جزائريا في الشارع فقط لأنه لا يتحدث لغتك؟ فكرة الترجمة مليحة. وخير منها، تأسيس جريدة وطنية بالعربية وترك La République (الجمهورية) التي تعودنا عليها كما هي، بالفرنسية.* ضحكت وقلت، وكان قد وقف للتوجه إلى المسرح: نحط هذا الكلام. ضحك وقال: * أنت راح تحمضها على روحك في الجريدة، على حساب ما راني نشوف، سيوقفون التعاون معك. وسيرفضون لك المقالة كلها بسبب جملة. السلطة حساسة من كل شيء حتى من الهواء والماء. دبر راسك يا حبيبي. حمق سليم راه يستنى فيّ* أنهيت الفترة الصباحية كلها في صياغة الحوار في مكتب قسم تحرير الجريدة. لم يكن مخطئا في النهاية. فقد نزعت الفقرة الخاصة بالتضامن مع صحفيي الجمهورية بإشارة من رئيس التحرير، بحجة أنها تقع خارج الحوار وترك الفقرة الخاصة بالخبزة والحوار. ربما كان محقا لأن فكرة التضامن كانت خارج سياق المقالة. لكني في أعماقي لم أقتنع بالسبب.