أكنّ للجزائر وتاريخها العريق تقديرا خاصا..وكل الاحترام لجاليتها    حنكة دبلوماسية..دور حكيم ثابت وقناعة راسخة للجزائر    مهرجان عنابة..عودة الفن السابع إلى مدينة الأدب والفنون    إبراز البعد الفني والتاريخي والوطني للشيخ عبد الكريم دالي    التراث الثقافي الجزائري واجهة الأمة ومستقبلها    المسيلة..تسهيلات ومرافقة تامّة للفلاّحين    مطالبات بتحقيقات مستقلّة في المقابر الجماعية بغزّة    تقرير دولي أسود ضد الاحتلال المغربي للصّحراء الغربية    استقالة متحدّثة باسم الخارجية الأمريكية من منصبها    ثقافة مجتمعية أساسها احترام متبادل وتنافسية شريفة    العاصمة.. ديناميكية كبيرة في ترقية الفضاءات الرياضية    حريصون على تعزيز فرص الشباب وإبراز مواهبهم    وكالة الأمن الصحي..ثمرة اهتمام الرّئيس بصحّة المواطن    تكوين 50 أستاذا وطالب دكتوراه في التّعليم المُتكامل    تحضيرات مُكثفة لإنجاح موسم الحصاد..عام خير    تسهيلات بالجملة للمستثمرين في النسيج والملابس الجاهزة    استفادة جميع ولايات الوطن من هياكل صحية جديدة    بن طالب: تيسمسيلت أصبحت ولاية نموذجية    الشباب يبلغ نهائي الكأس    بونجاح يتوّج وبراهيمي وبن يطو يتألقان    خلافان يؤخّران إعلان انتقال مبابي    قال بفضل أدائها في مجال الإبداع وإنشاء المؤسسات،كمال بداري: جامعة بجاية أنشأت 200 مشروع اقتصادي وحققت 20 براءة اختراع    بعد إتمام إنجاز المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: سيساهم في تعزيز السيادة الرقمية وتحقيق الاستقلال التكنولوجي    سوناطراك تتعاون مع أوكيو    الأقصى في مرمى التدنيس    حكومة الاحتلال فوق القانون الدولي    غزّة ستعلّم جيلا جديدا    الأمير عبد القادر موضوع ملتقى وطني    باحثون يؤكدون ضرورة الإسراع في تسجيل التراث اللامادي الجزائري    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    جراء الاحتلال الصهيوني المتواصل على قطاع غزة: ارتفاع عدد ضحايا العدوان إلى 34 ألفا و356 شهيدا    هذا آخر أجل لاستصدار تأشيرات الحج    أمن دائرة عين الطويلة توقيف شخص متورط القذف عبر الفايسبوك    سيدي بلعباس : المصلحة الولائية للأمن العمومي إحصاء 1515 مخالفة مرورية خلال مارس    جامعة "عباس لغرور" بخنشلة: ملتقى وطني للمخطوطات في طبعته "الثالثة"    رفيق قيطان يقرر الرحيل عن الدوري البرتغالي    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    "العميد" يواجه بارادو وعينه على الاقتراب من اللّقب    المدرب أرني سلوت مرشح بقوّة لخلافة كلوب    أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاصد الحج ومنافعه
نشر في الحياة العربية يوم 29 - 06 - 2022

إنَّ مما شرعَه اللهُ لعباده لِحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ سامية، وغاياتٍ نبيلة: «الحجُ إلى بيتِه العتيقُ».
قال تعالى ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 27 – 29).
﴿رجَالًا ﴾: أي «مُشاةً على أرجلِهم مِن الشَّوق»، ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾: «أي: ناقةٍ ضامر، تقطعُ المهامِهَ والمفاوز»
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28]: ما أعجبَ هذه الكلمة، وما أوجزَها وأجمعَها! تُرى ما هي المنافع التي يشهدُها حجاجُ بيتِ الله الحرام؟
معاشر المسلمين: إنها منافعُ الدِّينِ والدنيا، فمنافعُ الحجِّ تفوقُ الحصرَ، ولا يُحصيها العدُّ، وما نجهلُه منها أكثرُ مما نعلمُه. فالحجُّ أعظمُ مجَامِعُ المسلمين، يلتقونَ فيه متجردينَ مِنْ كلِّ آصِرَةِ سوى آصِرَةِ الإسلام، عرايا مِنْ كُلِّ شيءٍ إلا ثوبَ الإحرام.
التقوى لباسُهم، والتلبيةُ شِعارُهم، ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138]، يتذكَّرون في تلك العرَصَات اجتماعَهم يومَ الحشرِ بين يدي فاطرِ الأرضِ والسماوات، وقد نبَّه اللهُ تعالى على هذا المشهدِ العظيمِ بقولِه: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].
بذلك الجمْعِ المهيبِ، التائبِ المنِيبِ، يُبَاهِي اللهُ ملائِكتَه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللُه فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟»، رواه مسلم.
وأيُّ منفعةٍ أعظمُ مِنْ أن يرجعَ العبدُ مِن ذنوبِه كيوم ولدتْه أمُّه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، رواه البخاري. «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ»، رواه البخاري ومسلم.
فمغفرةُ الذنوبِ وتكفيرُ السيئاتِ مِنْ أعظمِ منافعِ الحج.
وفي الحَجِّ: تجديدُ التوحيدِ، وتحقيقُ التجريدِ للحميدِ المجيدِ، فتتجدَّدُ عقيدةُ التوحيدِ بمشاهدةِ البيتِ العتيقِ الذي بُنِي لذلك الأمرِ الرشيدِ، ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].
وفي الحَجِّ: تهذيبٌ للنفوس مِن الاختلافِ في الآراء، وتطهيرٌ للقلوب مِن الأحقادِ والأهواء، ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
وفي الحَجِّ: تظهرُ للمسلمين وحدتُهم، وتتجلى ألفتُهم، ولهذا «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلّاَ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ »، رواه مالك في «الموطأ».
قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا في وسطِ أيام التشريق، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى»، رواه أحمد.
إنها الترجمةُ العمليةُ للوحدةِ والاجتماع، ونبذِ الفرقةِ والاختلاف، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103] [آل عمران:103]، ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
إنَّه الحجُ إلى بيتٍ نسبَه اللهُ إلى نفسِه العليَّة تشريفًا وتكريمًا وإجلالًا، ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ [الحج: 26].
وقد جمعَ اللهُ تعالى للحجِّ حُرمتين:
«حرمةَ الزمانِ، وحرمةَ المكان»، ليقوى الشعورُ بحرمةِ هذا الركن العظيم مِن أركان الدِّين، وليكون الحاجُ في جميع أحوالِه مستشعرًا قُدسيةَ الزمان والمكان، ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].
وأما حُرمةُ المكان، فقد جاء أيضًا في القرآن: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 91].
وعن أبي بكْرةَ رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ. فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
ولذلكم كانت المعصيةُ في الحرمِ أغلظ، والظلمُ فيه أشد، حتى إنَّه ليُعَاقبُ العازِمُ على الشرِّ وإن لم يفعل، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
معاشر المسلمين: هل نعي أسرارَ الحجِّ ومنافعَه، وآثارَه ومقاصدَه؟ فإنَّ إدراكَ ذلك يتركُ في النفس أعمقَ الأثر. ففي كل عملٍ مِن أعمالِه تذكرةٌ، وفي كل نُسكٍ مِن أنساكِه تبصرةٌ.
وقد ذكر اللهُ تعالى أحكامَ الحج في سورة البقرة، بعد أحكام القتال في سبيل الله، فإنَّ الحجَ أحدُ الجهادين، كما روى البخاريُّ عن أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنه أنَّها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ».
فإنَّ جهادَ الكفار طريقُ بناءِ الأمة، وحفْظِ وجودِها، وإرساءِ كيانِها. وأما الحجُّ فهو سبيلُ توحيدِ الأُمَّة ولَمِّ شتاتها وجمْعِ كلمتِها. وبعد ذلك أعقبَ اللهُ تعالى بذِكْرِ النفاقِ وعلامات المنافقين تحذيرًا للأُمةِ مِن مكائدِهم ودسائسِهم، إذ ليس كالنفاقِ أشدُّ خطرًا على الأُمَّة في تقويضِ بنائِها، وبعثرةِ جهودِها، وعرقلةِ سيْرها.
﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 27 – 29].
معاشرَ المسلمين، أيها الشباب: تعجلوا إلى الحج، فإنَّ أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له؛ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ، هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا».
فإنَّ الحجَ إلى بيتِ الله الحرامِ فرضٌ على الفور، لا يجوزُ تأخيرُه بعد البلوغِ للقادرين، فعن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: «مَن أطاقَ الحجَّ فَلم يحُجَّ، فسواءٌ عليهِ يهوديًّا ماتَ أو نصرانيًّا».
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى عمر».
وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: «لَقد همَمْتُ أنَّ أبعثَ رجالًا إلى هذه الأمصارِ فيَنظروا كلَّ مَن كان له جِدَةٌ فلَمْ يحجَّ، فيضرِبوا عليهم الجزية، ما هم بمُسلِمين، ما هم بمُسلِمين».
وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم يحج، فيضربوا عليهم الجِزْية، ما هم بمسلمين. ما هم بمسلمين».
عباد الله: إنَّ تأخيرَ الحج بلا عذرٍ شرعي خطرٌ عظيمٌ، وتفريطٌ كبير، أفبعد قول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، يتباطأُ المستطيعون، ويتساهلُ القادرون، ولهذا لما فُرِضَ الحجُ بادرَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدون تأخير، وخرج معه المسلمون، ووافاه في الطريق خلائق لا يُحصون، وكانوا عن يمينه وشماله، وبين يديه مدَّ البصر.
ولقد خرَجت أسماء بنتُ عميس – زوجُ أبي بكرٍ رضي الله عنه – حاجّةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فور فرضيةِ الحج فولدت بذي الحليفة- ميقات أهل المدينة، فأمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسلَ، وتستثفر، وتُحرِم، وتُهل.
فأين ما يتعلل به الكثيرون منَ الأعذار الواهيةِ مِن حال تلكم المرأة الحبلى، وما تبِعَ وضعها مِن عناء الطريق، ووعثاء السفر، وبُعد الشُّقة – رضي اللهُ عنها وأرضاها ؟
إنَّ الفرصَ إذا أُتيحت للإنسان فأضاعها، عوقِبَ بالحرمانِ منها، ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46].
إنَّ كثيرًا من الأعذارِ لا قيمةَ لها، ولا يعبأُ اللهُ بها. فمن استطاع ببدنِه وماله وجبَ عليه البدارُ. وحقٌّ على الأبِ أن يُعين ولدَه إذا أطاقه، وليتخير له صحبةً صالحة، تُذكرُه إذا نسي، وتعينه إذا ذَكر، ليبقى في تلك العرصات المباركات، ويجتني من تلك الثمرات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.