إن الخسارة الكبرى هي في تضييع الحياة في المُشتهيات والملذَّات، والإعراضِ عن العملِ للدار الباقيةِ، فالحياة، التي هي السعادة الحقيقية هي لمن أصلح وأخلَص، والشقاء الأكبر لمن أعرض وأدبر. فهلا قرأت معي هذه الآيات: قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)}. سورة الشعراء. روي أن خامِس الخلفاء الراشِدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، كان كُلَّما دخل إلى مكان تَسْيير الأمور يتْلو هذه الآية.. قال ابن كثير رحمه الله: أي: لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم . ألا يا رعاك الله إنَّ الفقر الحقيقيّ هو الفقر مِن العمل الصالح، وأنَ الغِنى الحقيقيّ هو غِنَى العمل الصالِح، فتزود من التقوى، وتذكّر على الدوام إن كنت متمتعا في هذه الحياة الدنيا، قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}. سبأ:54. ولا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، وقد علمت أن الموت يأتي بغتة، وما يتذكَّر إلا أولو الألباب. كل حيٍ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت أعود إلى الآيات فأقول: نعم... يا رعاك الله، هذه الآيات صدّعت قلب ميمون بن مِهران، وذلك حينما ذهب إلى الحسن البصري يلتمس منه الموعظة، فقال له: يا أبا سعيد: إني آنست في قلبي غلظه، فاستلِنْ لي، أي قل لي شيئا يلينه فتلا عليه الحسن هذه الآيات من آخر سورة الشعراء: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}. فلما سمعها ميمون أُغشِيَ عليه، فلما أفاق وخرج مع ابنه عمرو. قال عمرو لأبيه: يا أبت أهذا هو الحسن لم يقل شيئا، وكان عمرو يتصور أن الحسن سيلقى خطبة عصماء على ما هو مشهور من كلام الحسن البصري، الذي قال فيه بعض أهل العلم: أن كلامه يشبه كلام الأنبياء.. قال عمرو: فضرب أبي صدري بيده، وقال: يا بني لقد تلا عليك آيات، لو تدبرتها بقلبك، ألفيت لها كلومًا فيه، كلومًا جمع كلم وهو الجرح ، أي هذه الآيات لو تدبرتها بقلبك لا تغادر سمعك إلا وقد جرحت هذا القلب لقوتها.. لَلَّه ما أطهر هذه القلوب، ولَلَّه ما أزكى هذه النفوس، فخذ منها أعظم الدروس!!.. عش ما بدا لك سالما * في ظل شاهقة القصور يسعى عليك بما اشتهيت * لدى الرواح وفي البكور فإذا النفوس تقعقعت * في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا * ما كنت إلا في غرور أعد قراءتها رعاك الله بتأن، وتدبرها جيدا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ . فاللهم ارزقنا اليقظة بعد الغفلة، ووفِّقنا للتوبة النصوح والعمل الصالح قبل النقلة، وارزقنا اغتنام الأوقات وقت المهلة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.