بقلم: مدى الفاتح الانقسام الذي حدث وسط الأمريكيين إبان حادثة اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في العاشر من سبتمبر الماضي الذي بدأ منذ الساعات الأولى متنوعاً بين إظهار الحزن والمبالغة في الفرح وإظهار الشماتة لم يخمد بعد. أمريكا الرسمية ما تزال منشغلة بالدخول مع أولئك الشامتين في مواجهات على نطاقات مختلفة على رأسها حالات الفصل من الخدمة العامة التي شملت كل من تفاعل بسخرية أو كتب مجرد تعليق رأت السلطات أنه غير مناسب. اللافت هو أن تلك الحالة من الانقسام لم تقتصر على أنصار اليمين واليسار في الولاياتالمتحدة ففي دول الجنوب أيضاً كانت هناك ردود فعل متباينة ظهر في بعضها الاستنكار والحزن على فقدان رجل كان يقود معركة شجاعة تهدف لحماية الأسرة التقليدية كما أظهر قسم آخر منها الكثير من اللامبالاة معتبرين أن الشاب الذي كان معادياً للمهاجرين خاصة للعرب والمسلمين الذين يعتبر أنهم يمثلون خطراً على الثقافة الأمريكية لم يكن بأي حال من السياسيين الذين يمكن الرهان عليهم. ذلك الحدث يشير في الواقع إلى معضلة يعرفها كل مقيم في الغرب وهي أنه يجد نفسه بين خيارين لا يمثل أي منهما مصلحته بشكل كامل. الخيار الأول هو أن يقدم دعمه وصوته لليمين بما يجعله يستفيد من نضال أولئك ضد المعارك الليبرالية المتعلقة بإعادة تعريف الأسرة التي باتت تشكل هاجساً ليس فقط للمهاجرين من أصول محافظة وإنما لكثير من الغربيين أيضاً خاصة أن الأمر بات أقرب لمحاولة فرض واقع اجتماعي جديد. هذا يفسر لماذا دعم ناخبون كانوا يصوتون في الماضي بشكل تقليدي للحزب الديمقراطي كالجمعيات العربية والإسلامية والأخرى الممثلة للسود أو للأمريكيين من أصل افريقي دونالد ترامب إبان الانتخابات الأخيرة. كان أولئك يعلمون خطورة ما يمثله الرئيس اليميني وما يطرحه من خطط وبرامج في مواجهة الأجانب لكنهم كانوا يرون مع ذلك أنه الخيار الأقل سوءاً. تكمن المفارقة في أن يكون اليمين الذي يمثله ترامب وغيره من المتشددين الذين يرون على سبيل المثال أن من واجبهم تقديم الدعم غير المشروط لكيان الاحتلال الإسرائيلي هو الخيار المفضل للمهاجر العربي أو المسلم إلا أن هذا يظل مفهوماً إذا تذكرنا أن الناخب من أصول مهاجرة لا يملك بين يديه في الواقع الكثير من الخيارات. الخيار المقابل هو التصويت لليسار وهو خيار كانت تميل إليه أجيال من المهاجرين من أصول عربية أو مسلمة من الذين كانوا يعتبرون أن تلك الأحزاب اليسارية تقدم بديلاً داعماً لهم لكن أولئك سرعان ما انتبهوا إلى أن الأمور لا تسير وفق هواهم فاليسار الليبرالي إنما يدعم المهاجرين ضمن سياسته العامة لدعم الأقليات وإحياء التنوع. هذا يشمل الأقليات العرقية والتعاطف مع أصحاب البشرة السوداء ولكنه يشمل أيضاً الأقليات الفكرية والتوجهات الجنسية المثلية أو المنحرفة التي تُعتبر وفق هذه النظرة محمية لكونها مجرد حق من الحقوق الاجتماعية للإنسان. هكذا يجد المهاجر نفسه بين مطرقة يساريين يعرّفون العلمانية على أساس أنها ملاحقة لكل مظهر متدين لاسيما لو كان من خارج إطار ما يعتبرون أنها ثقافة غربية وسندان يمينيين محافظين يرحبون بالدين في النطاق العام بشكل أكبر لكن من دون أن يشمل ذلك بالضرورة حرية مطلقة للأديان المغايرة خاصة الإسلام. *الشخصية المثيرة للجدل اغتيال كيرك الرمز المحبوب الذي تصل فيديوهاته إلى ملايين المشاهدات والذي كانت شعبيته مفيدة لكسب أصوات داعمة للرئيس ترامب يعيد للأذهان الاغتيالات السياسية الأمريكية الكبرى كاغتيال مارتن لوثر كينغ والرئيس كينيدي كما يذكّر بمئات السياسيين الذي نجوا من عمليات مشابهة لإطلاق النار. من جهة أخرى فإن هذه الشخصية المثيرة للجدل تعتبر مثالاً جيداً على المعضلة التي نتحدث عنها فهي تجمع بين أشياء قد تعجب المنحدرين من أصول محافظة كالسعي لوقف تمدد الاتجاهات الجندرية وتقنين دعم المتحولين والرفض التام للإجهاض ولمظاهر الانحلال الأخلاقي لكن هذه الشخصية في الوقت ذاته وكغالب الجمهوريين لا ترى غضاضة في الحديث بعنصرية عن السود مثلاً. حادثة الاغتيال تزيد الأمر تعقيداً فهي تثبت أن تلك الصورة الذهنية التي تربط اليسار بالتحضر والعقلانية والانتماء للحزب الديمقراطي بالانفتاح في مقابل معسكر الجمهوريين الذي كثيراً ما يوصف بالتعصب والنزوع إلى العنف هي مجرد صورة خادعة. أشار ترامب الذي لم يتردد منذ اللحظات الأولى في اتهام الديمقراطيين بالوقوف خلف هذه الحادثة على الرغم من إدانة رموز ديمقراطية كثيرة لها إلا أن الديمقراطيين كانوا يصفون الجمهوريين بالنازيين والمجرمين من أجل التنفير منهم وأن تلك اللغة العدائية هي من تسبب في ولادة ذلك النزوع للإرهاب. هذه الحادثة تقدم دليلاً واقعياً على أن الأمور ليست بذلك الوضوح الذي يجعل المقابلة محصورة بين متحضرين وبرابرة بل إن بإمكان اليساريين الذين كانوا ينتقدون حادثة اقتحام أنصار ترامب الرافضين لنتيجة الانتخابات لمبنى الكابيتول على اعتبار أنه عمل عنيف وغير حضاري أن يميلوا إلى العنف وأن يستخدموا القوة في سبيل إزاحة كل المنافسين المحتملين وهو ما يذكر بمحاولة اغتيال دونالد ترامب نفسه. يمكن المضي لأكثر من ذلك بالقول إنه حتى في ما يتعلق بتقبل الآراء المخالفة فإن الديمقراطيين لا يقدمون مثالاً جيداً فالجامعات التي يسيطرون تقريباً عليها لا ترحب بأي أحد يحاول انتقاد الأفكار اليسارية وهو ما يشتكي منه طلاب محافظون معتبرين أن هذا يتعارض مع حرية التعبير والحرية المطلوبة للنقاشات الأكاديمية. أما بالنسبة للنزوع نحو العنف فالواضح أنه لا يقتصر على فئة دون أخرى حيث يشير استبيان ظهرت نتائجه مؤخراً إلى أن نسبة مقدرة من الطلاب الجامعيين الأمريكيين لا يرون بأساً في التخلص من منافسيهم عبر التصفية. هذا يعبر عن ضيق أفق بلا شك فمواجهة رجل مثل كيرك الذي كان شعاره هو الدعوة للحوار: أثبت أنني على خطأ بالاغتيال أثناء محاضرة ولقاء مع الطلاب هو تأكيد على العجز عن المنازلة الفكرية. الأخطر من هذا هو أن هذا الاغتيال ربما يحرض الطرف المقابل على الرد باغتيال قيادة شابة أو معروفة من الديمقراطيين. *المعركة بين اليمين واليسار الأمريكي ما يقلق المراقبين اليوم هو أن تنتقل المعركة بين اليمين واليسار الأمريكي من ميدان السياسة والإعلام وبرامج التواصل الاجتماعي إلى ساحة العنف والاغتيالات ما يهدد بانزلاق البلاد نحو هاوية مليئة بالفوضى لاسيما مع وجود نزوع للعنف متأسس على تجارب مرتبطة بولادة الولاياتالمتحدة وما خاضته من حروب قاسية ساهمت في تشكيل أمريكا التي نعرفها والتي تتجاوز فيها اليوم أعداد قطع السلاح أعداد السكان. الأمر المقلق الآخر هو أن يستمر استغلال الإدارة الجمهورية الحالية لحادثة الاغتيال هذه من أجل ملاحقة جميع المعارضين لسياساتها وكذلك لتشديد القبضة على المهاجرين المتهمين بمعاداة الأفكار اليمينية وهو ما سيشمل بالدرجة الأولى الأمريكيين من أصول افريقية أو مسلمة والذين هم بلا مكان في أمريكا الجديدة المتخيلة والتي هي مسيحية وبيضاء. المفارقة هي أنه وفي الوقت الذي يزداد فيه الاحتقان الداخلي تصعّد السلطات الأمريكية حملتها في مواجهة المهاجرين والمقيمين غير الشرعيين وكأنها تتهمهم بأنهم السبب وراء كل شيء.