صدَّق أصحاب النوايا الطّيبة، التصريحات الفرنسية التي أعقبت حادثة شارلي إيبدو، حين سارع المسئولون الفرنسيون إلى التأكيد على أن هناك فرْقًا كبيرًا بين الإسلام والإرهاب، وثمة مسافة كبرى بين المسلمين والإرهابيين، غير أن المسلمين راحوا- منذ اللحظة الأولى- ضحايا الخلط المُتعمَّد بين المُسمَّيْن أو المُصطلَحيْن، على الرغم من أنهم جاهروا بإدانتهم لذلك الفعل الشنيع، الذي وقع لأنْفُسٍ حرّم الله أن تُقتَل، لأنهم يعلمون أن الإسلام يؤكّد أنه مَن قتل نفسًا واحدة، فكأنما قتل الناس جميعًا، ولم يكتفوا بالقول بل تجاوزوه إلى الفعل فانضموا إلى تلك المسيرة التي قادتها فرنسا ضد الإرهاب، وإن تقدّمها الصهيوني بن يامين ناتنياهو كبير الإرهابيين، وزعيم الإرهاب الدولي، وزايد بعضهم حتى على ما ذهب إليه اليمين المُتطرِّف، بل يكون بعض الشواذ المستلبين ممّن يُحسَبون على الأمة، قد استثمروا في تلك المناسبة الأليمة، ليزدادوا تقرُّبًا من الغرب بقصفهم الإسلام من الداخل، مُدَّعين كذبًا أنه يحمل الفكر المتطرِّف . لم تستطع فرنسا الانسجام مع تصريحات مسئوليها، فقد أصبح كل مسلم فرنسي مُشتبَهًا فيه، وعليه أن يُثبِت براءته، أما مسلمو الدول "الصديقة" فيُستقبَلون بالإهانة عبر مطارها الدولي، ويُحْجَزون في زنزاناته، ليُعادوا على أول رحلةٍ إلى بلدانهم، كما حدث لأكثر من عشرين شابًّا جزائريًّا، يحملون تأشيرات الدخول، ولديهم حجوزات فنادقهم، أو شهادات إيواء من أقارب لهم في مدنٍ فرنسية، وهكذا تحوّلت الحادثة الحزينة، إلى هَجْمةٍ- يبدو أنها مدروسة- على المهاجرين المسلمين، أو الذين تعود أصولهم إلى بلدانٍ إسلامية، ولم يَسْلم منها حتى المسلمون ذوو الأصل الأوروبي، ممّا يُثبِت أن الإسلام هو الهدف النهائي من هذه الضوضاء، مهما قيل ويقال، وإلا كيف نُفسِّر حالة الكَلَب، التي أصابت المؤسسات الفرنسية ذات الصلة، وما معنى أن تتكفّل الحكومة الفرنسية، ماليّا وتوزيعًا بإعادة نشْر الرسومات المسيئة للنّبي محمد صلى الله عليه وسلم، في أكبر عملية طبْع، لصحيفة كانت مُهدَّدة بالإفلاس، وكأنه رسول للإرهاب، ولم يكن رسولا لإسلامٍ جاء إلى البشرية كلها ؟ وقد انساق الرأي العام الفرنسي المُخدَّر بما يُروِّجه الإعلام المُتصهيِن، وراء فكرةٍ خبيثة : كل المسلمين إرهابيون، فأكثر من مائة اعتداء وقعت منذ السابع من شهر يناير، على بعض المساجد والمصليات، وراح ضحيتها قتلى وجرحى، دون أن تستطيع فرنسا التفريق عمليًّا- بما كانت تدّعيه- بين الإسلام والإرهاب . إن ما تقوم به فرنسا إزاء مسلميها، قد زرع الخوف في باقي مواطنيها، مما جعل بعضهم يُقدِم على تسريح عُمّاله المسلمين، باعتبارهم قنابل موقوتة، يمكن أن تنفجر في أية لحظة، وقد انتقلت عدوى معاداة المسلمين هذه، إلى بعض الدول الأوروبية كاسبانيا مثلا، وهو ما جعل الحَبْر الأعظم بابا الفاتيكان، يُندِّد بالحملة التي يتعرّض لها المسلمون دون غيرهم، ويُعيب على العالم "المُتحضِّر" الخلط بين الإسلام وما يُسمَّى الإرهاب، مُستنكِرًا في نفس الوقت، توظيف حرية التعبير في ازدراء الأديان والاستهزاء برموزها، إلا أن ترسانة القوانين الطارئة الخانقة للحريات، باسم الدفاع عن حرية التعبير، لن يكون من ضحاياها إلا المسلمون، وهو ما سيُعزِّز »الفكر الداعشي«، ويجلب له المزيد من الأتباع والمريدين، من شبابٍ يجد نفسه فجأة ضحية قوانين دولة القانون، وربما يصل إلى الحقيقة الصادمة، وهي أن المُستهدَف هو الإسلام، كما جهر بذلك النائب البلجيكي فيليب دي وينتر الذي رفع نسخة من القرآن الكريم، في قاعة برلمان بلجيكا وهو يقول : »إنه- أيْ القرآن- مصدرٌ لكلِّ الشرور والأزمات التي تمس العالم« وإلا بماذا تُفسَّر كلُّ تلك الدواعش وهي تعصف بالبلدان العربية والإسلامية وحدها، بينما تعيش أوروبا وأمريكا ومعهما ربيبتهما إسرائيل في أمان، إلا ما تصنعه من خوفٍ تُفزِع به مواطنيها، من أجل توريطهم في حربها الظالمة، وتُهدِّد به المسلمين، كي يستبقوا سقطوهم، فيظلوا الحلقة الأضعف في مسار العلاقات الدولية ؟. صحيح أن عددًا من الأوروبيين، دخلوا الإسلام بعد "واقعة" شارلي إيبدو، ولكن المسلمين عليهم أن يُعيدوا قراءة واقعهم قراءة صحيحة، تبدأ- في اعتقادي- باستعادة ما اكتسبه الفكر السلفي المُتطرِّف، من شرائح واسعةٍ من المجتمع الأميّ، وتصحيح بعض الأفكار التي جعلها المتشدِّدون وكأنها »معلومة من الدِّين بالضرورة« لقطع الطريق على النخب المُتطرِّفة، سواء كانت دينية أو علمانية، لأنها تعيش خارج الزمن، حيث تعمل الأولى على إرجاع الأمة إلى الوراء، عشراتٍ من القرون، وتدعو الثانية إلى القفز في المجهول، من خلال فصل الأمة عن كل أسباب مدَدِها الحضاري، بالارتماء المُخزي في أحضان الغرب، ثم تجديد العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع هذا الغرب، تُبنَى على أسسٍ جديدة، قِوامها احترام خصائص الآخر وقيّمه، وإذا كانت الأنظمة الحاكمة قد انبطحت، فعلى المجتمع المدني غير المُنبطِح، أن يتبنَّى العملية ويعمل لها، والتي أرجو أن تبدأ بحملة مقاطعة السفر إلى فرنسا أولا- باعتبارها عرّابة ما يجري- لمدة عام على الأقل، حتى وإن أبَى أذنابُها والمتحالفون معهم، ويومها قد يعود لفرنسا الرسمية رشدها، فتستطيع التفريق بين المسلمين وغيرهم، ممَّن يعج بذكرهم القاموس السياسي والإعلامي، من متشدّدين ومتطرِّفين وأصوليين وإرهابيين .. [email protected]