كيف تطلب من الله العوض على فضله؟! يقول ابن عطاء الله السكندري: ”إذا أراد أن يظهر فضله عليك، خلق فيك ونسب إليك ” إن الذي أراه الأنسب في التعبير عن عموم فضل الله وشموله للناس جميعاً، لا سيما في هذا الذي ينبه إليه ابن عطاء الله، إطلاق بيان هذا الفضل الرباني في عموم الأحوال، وبالنسبة للناس كلهم، وعدم تقييده بإذا المنبئة عن وجود فضله هذا في حالة دون أخرى، وفي حق أناس دون غيرهم. ذلك لأن هذا التفضل الرباني سارٍ للناس جميعاً على اختلاف أحوالهم.ألا ترى أنه سبحانه وتعالى ينسب إلى الناس كلهم ما يصدر عنهم من طاعات وقربات، على الرغم من أنه هو الخالق لها والموفق إليها، ففضله في ذلك شامل للناس جميعاً، وهوظاهر وبيِّن في سائر الأحوال. ألا ترى إلى قوله عز وجل:”ادخُلُوا الجنَّةَ بما كُنُتُمْ تَعْمَلُونَ”(النحل)فقد نسب الطاعات التي كان وفقهم إليها وأقدرهم على أدائها، وخلقها فيهم، كما مرّ بيانه، نسبها على الرغم من ذلك إليهم.والخطاب، كما تعلم، لعموم من شملهم هذا التوفيق. ألا ترى إلى قوله تعالى في الآية الأخرى:”من ذا الذي يقرِضُ اللَّهَ قرضاً حسَناً فيُضاعِفَهُ لهُ أضْعافاً كَثِيرَة”(البقرة)؟إنك لتعلم أن المال مال الله وهو المالك له وللشخص الذي يرى نفسه مالكاً له، ولكن الله مع ذلك ينسب ماله هذا لعبده الذي أكرمه ومتعه به، ويسأله سؤال المستجدي، أن يقرضه منه شيئاً مؤكداً أنه سيوفيه ما أقرضه منه، مضافاً إليه أضعافه. إذن فهي سنة ربانية ماضية في عموم عباده الذين يوفقون لأداء الطاعات والقربات، يخلق فيهم تلك الطاعات التي عزموا عليها، وينسبها إليهم ليظهرهم في مظهر المستحقين لأجورها وما علق من أنواع المثوبة عليها. ولا يفوتنك أن الحديث هنا موجه إلى من تولاهم الله بالعناية والتوفيق، ولا التفات فيه إلى من وكلوا إلى نفوسهم الأمارة، فلم يجر الله على أعضائهم ولا على ألسنتهم شيئاً من الطاعات التي وعد عباده بالمثوبة عليها. ثم إن هذه الحكمة سيقت مساق الإجابة عن سؤال مؤداه أن ما قاله ابن عطاء الله في الحكمة السابقة التي شرحناها، يتعارض مع التزام الله بتقديم العوض على الطاعات التي أنجزها عباده المؤمنون على الوجه المطلوب.وذلك في مثل قوله تعالى:”إنما توَفَّونَ أُجُورَكُمْ يومَ القِيامَةِ”(آل عمران)وقوله:”فاستَجابَ لهُمْ ربُّهُمْ أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ”(آل عمران).فهذه الآيات-ومثلها في القرآن كثير-واضحة في بيان أن الله قد ادخر لعباده العوض على الطاعات التي أنجزوها على الوجه المطلوب، فأين هو وجه الخطأ في أن يطلب العبد ما قد وعد به له الرب جل جلاله؟ والجواب عن هذا السؤال، ما يقوله ابن عطاء الله هنا، إن ما ينسبه الله إليك من الطاعات، إنما برز منك وظهر فيك بخلق الله له متلبساً بك ومنسوباً إليك على وجه التفضل عليك والتحبب إليك. فكيف تجعل من هذا الذي هو مظهر تفضل الله عليك، سبباً لاستحقاقك الأجر والعوض عليه؟ وما ينبغي أن تتيه عن هذه الحقيقة التي من شأنها أن تشكر الله على فضله، بدلاً من أن تطالبه بأجر أو عوض، بسبب ما قد وعدك به من الأجر على طاعاتك.فينسيك ذلك هذه الحقيقة، وتقيم نفسك منه مقام من أنجز المطلوب على وجهه السليم، فاستحق بذلك العوض الذي وُعِدَ به. وليت شعري، كيف يستحق العبد المملوك الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولا يستطيع أن يعتمد على ذاته في إنجاز أي شيء، أن يطالب سيده عما يتوهم أنه أسداه إليه من خير أو عون؟.. ولا حاجة إلى أن أفيض لك في بيان هذا الأمر، فقد سبق أن شرحته مفصلاً في أكثر من مناسبة، ولكن فلتعلم أن كل ما ذكرته لك مفصلا في بيان هذه المسألة من قبل، تتجمع عصارته في هذه الحكمة البليغة:”من تمام فضله عليك، أن خلق فيك ونسب إليك” وسل نفسك الآن:أفمن مقتضى هذا الفضل الإلهي عليك، ان تطلب منه العوض على فضله، أم تؤدي الحق المترتب عليك في تكرمه عليك بهذا الفضل؟. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)