عادت الأخبار إذن عن سوريا الميدان الحربي والموت اليومي بعدما احتكرت أخبار موجات المهاجرين واللاجئين وخلافات أوربا بشأنها الساحة الاعلامية الأوربية والعالمية لأسابيع. وتناوبت عواصم غربية على اطلاق تصريحات يشوبها الإرتباك حول التسويات المحتملة، تتفق في معظمها على استعجال وقف الحرب وإن ترتب عن ذلك ”تضحيات وتنازلات قاسية”، أهمها على الإطلاق تجاوز شرط رحيل الرئيس بشار الأسد. فمن برلين إلى لندن مرورا بباريس وبروكسل قدم زعماء الدول اجتهادات تلو الاجتهادات حيّدت موقفا صمد أربع سنوات يعتبر الأسد جزء من الأزمة واستبعد أي احتمال ليكون جزء من الحل، في خلاف جوهري مع الروس الذين لا يرون أي حل بدونه. وتكررت عبارة ”لا مكان للأسد في سوريا المستقبل” مئات وربما آلاف المرات على ألسنة المسؤولين وفي وسائل الاعلام. لكن في لحظة تحول دراماتيكية تغير المشهد وصار بشار الأسد طرفا مقبولا بل وعند البعض مطلوبا للتسوية السلمية. فما الدوافع التي جعلت الأوروبين يتراجعون عن موقفهم السابق؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتطور هذه التحولات لبلورة الشق السياسي من الحل في سوريا؟ تظافرت عوامل عديدة بعضها طارئ والبعض الآخر نتيجة تراكمات فرضت قراءة مغايرة للوضع فأفرزت في مجملها هذا التحول. أما الطارئ في الموضوع فيمكن اختصاره في عاملين أولهما تغير الموقف الأمريكي الذي شكل على الدوام قاطرة الموقف الأوروبي والغربي عموما لاسيما حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. فأمريكا هي واجهة الغرب في مواجهة الخصوم منذ الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من مخطط مارشال والحاجة إلى القوة العظمى لمواجهة قوة عظمى أخرى هي الاتحاد السوفييتي. وفي دور روسيابسوريا المتعاظم بسوريا اليوم تذكير بوضع الحرب الباردة وضرورة انسجام موقف الغرب واصطفافه وراء واشنطن. والعامل الثاني هو هذه الموجة المفاجئة من المهاجرين واللاجئين الذين تدفقوا على أوربا، وما انجر عنها من التزامات أثقلت كاهل دولها إلى درجة نشوب خلافات بينها هددت استقرار الاتحاد بعد عصيان ”الكتلة المتصلبة” في شرق القارة ورفضها القرار المشترك بتوزيع اللاجئين. ويمكن العودة بخصوص إثر موجة اللاجئين على الموقف الأوروبي إلى تصريح أدلت به القاضية ديل بونتي ممثلة الإدعاء في المحكمة الدولية قالت فيه ”إن آلاف اللاجئين السوريين الذين دخلوا إلى أوروبا سيًعجّلون بالحل لأن الدول الأوروبية تواجه مشكلة يجب عليهم حلها على وجه السرعة”. وهو ما حدث بالفعل حيث اكد رئيس الوزراء البريطاني ديفد كامرون أن أهم ما يجب فعله هو إيجاد حل للمشكلة السورية حتى يعود السلام ويستقر الناس في بلدهم وتختفي أسباب طلب اللجوء. ولقد صار الهاجس الأكبر للاوربيين هو هذه الامواج البشرية التي تصل من البر والبحر وتملأ الطرقات في أكبر نزوح تشهده القارة بعد الحرب العالمية الثانية. وفضلا عن الاصطفاف وراء أمريكا وموجة الهجرة واللجوء، ثمة عوامل آخرى انضجتها ظروف الميدان بعد سنوات من حرب اتضح أنها لا يمكن حسمها عسكريا لأي طرف. واكتشف الغرب وحتى بعض الدول الإقليمية أن قراءة الواقع لابد أن تكون ديناميكية تخضع للتغيرات وليس لأحكام وشروط ثابتة تجاوزها وضع حرب تشعبت أطرافها وتعددت ولا يبدو في الافق اي مؤشر لنهايتها. وكلما طال امدها وجد المهتمون بالوضع السوري انفسهم امام تحديات جديدة. فثمة رأي واسع في أوساط الباحثين والمحللين ورجال الحكم يفيد بأن القوة الوحيدة التي يمكن أن تقف في وجه تمدد تنظيم ”الدولة الإسلامية” هي الجيش السوري النظامي. ولا توجد قوة بديلة على الأرض يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هدفين يطمح إليهما الغرب وهما إسقاط النظام ومنع داعش من وراثته. هذا لم يعد ممكنا، فبديل النظام القائم جاهز وهو داعش ولا قوة غير داعش. لذلك تبلورت أفكار جديدة أدرجت الأسد ضمن مكونات حل الازمة وربما استمرار وجوده في مرحلة انتقالية تضفي إلى التاسيس لحكومة تمثل فيها كل الاطراف. وقد اعترف مسؤولون غربيون أن تقدير بلدانهم لقدرات المعارضة إن كانت سياسية أم عسكرية أكبر بكثير من حجمها الحقيقي وقدرتها على حشد التأييد وتحقيق النصر العسكري. وكشفت حادثة حصول ”جبهة النصرة” على الأسلحة الأمريكية التي قدمتها لتشكيلة دربتها وترى فيها بديلا ”مثاليا” و”معتدلا” للنظام هشاشة تحليلات الدول الغربية وقلة اطلاعها على تفاصيل موازين القوى على الأرض، حتى أن بعض التحليلات في أوروبا وأمريكا تكاد تتطابق مع الموقف الروسي الذي يرى أن نظام الأسد هو الطرف الوحيد الذي يتوفر على قدر كاف من الثقة بعدم الانزلاق إلى المعسكر الإرهابي. ويكون تقدير الأوضاع على هذا النحو العامل الذي دفع انجيلا ميركل وديفد كامرون وحتى فرانسوا هولاند ورجب طيب أردوغان اللذين لا يذكران الأسد إلا مسبوقا بوصف الديكتاتور، يصرحون جميعا بإمكانية أن يكون شريكا في الحل. ولا غرابة مع هذه المستجدات وما حملته من مخاوف أن يصوت الفرنسيون بأغلبية مريحة في استبيان حول سوريا على أن الأولوية لمحاربة داعش وليس لرسقاط النظام. وحين تقول الحكومة السورية على لسان بثينة شعبان ”إن الوضع في سورية يتجه نحو مزيد من الإنفراج”، وتتحدث عن ”تراجع في المواقف الغربية”، وعن ”تفاهم ضمني بين الولاياتالمتحدةوروسيا من أجل التوصل إلى الحل في سوريا”، فإنها تعكس ارتياحا بالقياس إلى ما كان عليه الوضع سابقا، وتكرس اعتقادها هذا بتصعيد على الأرض من خلال استعمال طائرات بلا طيار لأول مرة لاستهداف مواقع عسكرية للجماعات المسلحة التي تواجهها. وبعد الطلعات الأولى مباشرة أعلنت عن تقديم طلب رسمي للتدخل الروسي المباشر عبر طيرانه الحربي. وهو ما قدم عناصر حاسمة لتغيير المعادلة على الأرض. فالروس لم يقتصروا على دك مواقع داعش وباقي أطراف المعارضة المسلحة من الجو بل أسسوا حلفا موازيا للحلف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة، اعتمادا على إيران والعراق والنظام السوري وحزب الله بالإضافة لقوة احتياط كبرى هي الصين. وكانت روسيا قد دعت على الدوام لضم نظام الأسد إلى قوة الحلف الدولي لمحاربة داعش. وراهنت كثيرا على هذا الأمر كون دخول بشار الأسد في الائتلاف الدولي ضد الإرهاب يعني تزكيته ودعمه وتحضيره ليكون لاعبا أساسيا في أي عملية سياسية مستقبلية. وفي ظل هذا المناخ الجديد الذي أنعش آمال النظام في دمشق، أعلن وليد المعلم في خطاب الجمعة الماضي بمقر الأممالمتحدة استعداد حكومة بلاده الدخول في لجان العمل الأربع التي حددها الوسيط الاممي ستيفان ديميستورا للتقدم في الحل السلمي عبر المفاوضات وتحديد آليات تجسيد الاتفاقيات التي تتوصل اليها الأطراف وتشكيل الهيئات الانتقالية. وهو مؤشر آخر لدخول النظام السوري في سياق التسوية. الزعيم الجديد بيد أن تغير الموقف الأمريكي ومن ثمة الأوروبي والتقارب مع الموقف الروسي بشأن مكان الأسد في حل النزاع السوري لا يعني بأية حال من الأحوال عودة النظام إلى الشكل الذي كان عليه قبل الهزة الكبرى في ربيع 2011. فهذا قد لا يرضي حتى روسيا. وفما هو شبه مؤكد أن بشار الأسد لن يستمر رئيسا لسوريا في فترة سلم قادمة لأن التغييرات المطلوبة بعد الحرب ستتجاوزه مثلما تتجاوز وضع الحرب. هو سيرحل بالتأكيد لكن ذلك سيكون نتيجة مفاوضات طويلة وشاقة وشديدة الحساسية بين القوى الكبرى التي صارت تحكم الوضع السوري. فروسياوإيران وحتى الصين التي دخلت المعترك مؤخرا للتأثير في ميزان القوى دبلوماسيا على الأقل ستجعل من رحيل الأسد ”تضحية” كبرى حتى تكسب أوراقا تواصل بها اللعب في المنطقة. وستنزل عند رغبة الرئيس باراك أوباما الذي يرى أن سوريا والانتصار النهائي على الإرهاب يحتاجان زعيما جديدا. لكن هذا الزعيم غير متوفر حتى الآن بين قوى المعارضة. قد يكون من النظام نفسه ربما من الصف الثاني أو الثالث يجري الاتفاق عليه بين روسيا وأمريكيا ويتم تحضيره بالتوازي مع مفاوضات التسوية. وهو حل وسط ستقبل به كل الأطراف الإقليمية والدولية ويفرض على المعارضة التي يعنيها بالدرجة الأولى وقف الحرب والمشاركة في بناء سوريا ما بعد الأسد. ولقد كشفت أجهزة الاستخبارات الغربية وكذا وسائل الاعلام عن تلميحات روسية تقبل بالتخلي عن الأسد الشخص ربما مع حاشيته المقربة إن كان ذلك سيدفع إلى تسوية بما يحفظ هيكل النظام السوري مع بعض التنقيح والتهذيب بكونه الشرط الأساس للحفاظ على مصالحها الكبيرة في سوريا ممثلة خاصة في استثمارات تفوق العشرين مليار دولار وقاعدة طرطوس البحرية التي تمكنها من التواجد في البحر المتوسط، وقواعد عسكرية وهيئات مختلفة تبقيها على صلة بصراع الشرق الاوسط، فضلا عن كونها أهم حليف في المنطقة يمكن الاعتماد على خدماته في حالة نشوب نزاع مع الغرب. إن أبعد نقطة وصلت إليها روسيا حتى الآن في سياق تعاطيها مع المطالب الغربية هي قبول الأسد بتقاسم الحكم مع معارضيه من غير الإرهابيين، وشطب ”الجيش الحر” من قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية واعتباره طرفا في حل الأزمة، إلا أنها ستكون أكثر سخاء حين يتم الاتفاق على توزيع المصالح بين الأطراف وتنال حصتها كاملة. وعندئذ لن يكون لوجود الأسد أي معنى على أن تكون الاتفاقيات شاملة ونهائية لاطعن فيها تفاديا لتكرار ما حصل بعد اتفاقيات دايتن التي أنهت الصراع في يوغسلافيا وكان سلوبودان ميلوزوفيتش رئيسا وهو من وقع الاتفاقيات لكنه وقع تحت طائلة المحكمة الدولية واعتقل وسجن حتى مات في زنزانته.. وبحسب الوضع الميداني وانقسام ساحة العمليات بين معسكرين يضربان عدوا مشتركا ولكل منهما حليف عدو للآخر، سيكون الاتفاق صعبا ويحتاج لوقت أكبر، لكنه سيحصل في النهاية ويمكن تصور بنوده على الشكل التالي: 1 الاستمرار في محاربة دولية شاملة لتنظيم الدولة وباقي المنظمات الارهابية على اساس قائمة تتفق عليها الاطراف. والخروج من المأزق الحالي الذي خلقه توسيع روسيا لضرباتها إلى منظمات اخرى غير داعش والنصرة. 2 بقاء الأسد في مرحلة المفاوضات للمشاركة في تصور الحل والآليات، ثم يرحل ويغيب نهائيا عن الساحة مع كوكبة من اقرب مقربيه في الحكم مباشرة بعد تعيين هيئة حكم انتقالية ممثلة لمختلف الاطياف. 3 اعتلاء شخص من النظام ربما من الصف الثاني أو الثالث سدة الحكم في مرحلة انتقالية فعلية تبني فيها القوى السياسية المختلفة كياناتها وتبلور برامجها استعدادا لمرحلة الاستقرار والتنافس والتداول على السلطة وإعادة البناء. 4 عدم متابعة الرئيس الأسد ومعاونيه في المحكمة الدولية بأية تهم تخص الحرب وفترة حكمه. 5 بقاء المصالح الروسية على حالها وانفتاح سوريا على بقية العالم.