كلما جالست وزيرة التربية، السيدة نورية بن غبريط، كلما خرجت بقناعة أنها ”الرجل” المناسب في المكان المناسب. ففي ظرف سنة ونصف سنة، تمكنت السيدة من الإلمام بكل مشاكل القطاع التي تتخبط فيها المدرسة الجزائرية منذ عقود، ليس فقط فهما، بل أيضا لأول مرة أحس أن هناك بداية حل حقيقي لأزمات المدرسة الجزائرية المتكررة. والفضل يعود لشخصية الوزيرة العنيدة المثابرة التي لا تريد أن تركع أو تنكسر أمام رياح نقابات لا هم لها إلا المصالح المادية للأستاذ، نقابات تلاعبت سنوات بمصير التلاميذ ورهنت من خلالها مصير البلاد. لكن الوزيرة لن تتمكن بمفردها من مواجهة هذه الجبال من المشاكل، ومن تلاعب الأسرة التربوية التي، على حد قولها، فيها الكثير من الناس الطيبين، الإيجابيين الذين يعملون في صمت بعيدا عن أعين الإعلام الذي لا ينقل - للأسف - إلا السلبيات. الوزيرة بحاجة إلينا جميعا، مؤسسات وأولياء وإعلام، وخاصة الإعلام الذي من واجبه أن يقف إلى جانبها في الحرب التي تخوضها ضد لا أقول النقابات وإنما ضد منظومة القيم التي انهارت في المجتمع الجزائري، فانهارت معها المدرسة وانهار التحصيل العلمي والمعرفي الذي جرجر المدرسة والجامعة الجزائرية في ذيل ترتيبات المدارس والجامعات العالمية. الحل إذا هنا، والمشكل تم تشخيصه بدقة من هنا أيضا، فمشكلة المدرسة الجزائرية ليست برامج وليست فقط نقص الإمكانيات، وليست غياب سياسة تربوية أو أن الإصلاحات التي باشرت بتطبيقها منذ عقد من الزمن لم تعط ثمارها، بل المشكلة مثلما أسلفت، ومثلما تؤكد عليه السيدة الوزيرة تكمن هنا، غياب المعالم، للمدرسة وللمجتمع أيضا، ومن دون إعادة المعالم إلى الطريق، فلن تفلح أية سياسة تربوية. ولابد إذا البدء من هنا، من إعادة أخلقة وأنسنة المدرسة، ولهذا تم وضع ميثاق أخلاقيات للمنظومة التربوية يكون الجميع شركاء فيه، الإدارة والإطار والنقابات، وحتى لأولياء التلاميذ دور فيه، فمشكل الغش الذي عانت منه الامتحانات وقصصها المثيرة مع نهاية كل سنة، حيث يتفنن التلاميذ والأولياء وحتى بعض الإطارات في ابتكار أساليب جديدة للغش، ومشكل الدروس الخصوصية وأداء الأمانة العلمية، ومشكل العنف بشتى أنواعه في المحيط المدرسي، حلها كلها يكمن في هذا الميثاق الذي يعول عليه لإعادة المدرسة الجزائرية إلى دورها ولأداء رسالتها التربوية والثقافية، وحتى الهوية، لأن الإصلاح، أي إصلاح لن يعطي ثمارا في ظل غياب المعايير وغياب الأخلاق والإيمان بالرسالة التربوية. ثمار الإصلاحات سيطول موسم جنيها، لكن مع ذلك تقول السيدة الوزيرة إنها بدأت تلاحظ تحسنا نوعيا في النتائج منذ جلوسها على رأس القطاع 18 شهرا مضت، وتقول بتواضع إن هناك بداية تحسن، لكن هناك أيضا إصرارا على رفع التحدي، فللسيدة ما يكفي من المعرفة وقوة الشخصية لتخلص القطاع من الركود ومن الانهيار الذي عانى منه منذ عقود، بل بالأحرى منذ الاستقلال. مشكلة المدرسة - قلت - ليس برامج، وإنما الرهان عليها، والرهان عليها تقول السيدة الوزيرة يتطلب إعطاء الأهمية للمنتوج الوطني، فلم نكن نعطي في برامجنا مكانة للمنتوج الوطني، والآن تسهر الوزارة على إعطاء مكانة لهذا المنتوج باللغات الثلاث، العربية والأمازيغية والفرنسية، وهذا كفيل بخدمة جانب الهوية الوطنية. ومن يدري فقد لا يحدث خلل في الأسئلة مثلما حدث في امتحان الأدب السنة الماضية واللخبطة بين نزار قباني ومحمود درويش. فقد حان الأوان لإعادة المكانة للشاعر والأديب الجزائري التي كانت غائبة في مدرسة تائهة بين المشرق والغرب. السيدة الوزيرة تقول، وأصدقها، إنها تعرف الآن المدرسة في العمق، أصدقها لأنها كباحثة ومتخصصة، عرفت كيف تضع التشخيص الصحيح لأمراض المنظومة التربوية، وأصدقها أيضا وأثق بها لأنها ستعرف كيف تجد الدواء، وقد وجدت بداية العلاج، لكن النجاح لن يتوقف عندها وحدها ما لم نقف وراءها جميعا، فمصيرنا كمجتمع وكأسرة وكبلاد مرهون بمصير المدرسة. وقد وجدت السؤال الذي يجب أن نطرحه جميعا على أنفسنا ”هل نحن متفقون جميعا حول مدرسة نوعية؟!”. وكان الجواب نعم، حتى النقابات التي كانت تضع دائما العراقيل في الطريق قالت نعم! فلم يبق إلا تجسيد هذه الإرادة في اتفاقية مشتركة للذهاب بالمدرسة نحو المستقبل، وهذا يتطلب نوعا من الاستقرار، تقول الوزيرة. والكرة الآن في مرمى الكل، ومرمى النقابات أولا، فعليها يرتكز استقرار المدرسة. فهل ستسير النقابات، كل النقابات خلفها لتجسيد حلمنا جميعا في مدرسة نموذجية متفتحة على الحضارات وراسخة في هويتنا الوطنية، أم ستخذلها وتخذلنا جميعا! لنقف كلنا إلى جانب هذه السيدة فهي صادقة وتملك من الإرادة ما ينقص الكثير من الرجال!