كتبت هذا قبل أربع سنوات. وأرى أنه لا يزال صالحا وساريا. كتبته في العهدة الأولى لما بعد اضطهاد الدستور وأذكّر به ونحن في العهدة الثانية بعد الاضطهاد. لا شيء تغير سوى أن فخامة برميل النفط كان بقيمة 150 دولار حين كتبت وصار اليوم بأقل من ربع هذه القيمة. ”مع أن معظم الجزائريين لا يهمهم ما يجري داخل الأحزاب ولا مكانتها ولا تصريحاتها ولا حتى بكاءها، فإن وضعها من حيث هي مادة إعلامية مثير ويسيل اللعاب. فحمى ”التصحيحيات” هذه الأيام تعكس واقع الفعل السياسي في الجزائر.. تعكس بحسب ما يسجل من مواجهات وعنف لفظي وجسدي.. بؤس النخبة وقحط الفكر. هذا هو المبرر الوحيد الذي يجعل الصحفي يكتب وينقل هذا الواقع، فهو مؤشر عن هذا الانحدار السياسي الرهيب إلى حيث لا ندري. فلماذا لا تجتمع الأحزاب لتناقش أسباب نفور الناس منها؟ لماذا لم تنظم مؤتمرات وندوات ولقاءات صحفية لعرض برامج تدخل بها عقول وقلوب الناس؟ لماذا يتعارك قادة واتباع حزب كسب اغلبية مقاعد البرلمان بعد ايام من تحقيق الإنجاز ويمرغ بعضهم البعض في التراب؟ لماذا يبكي قادة وأتباع في حزب آخر على المقعد البرلماني كما يبكي الأطفال على لعبة أو قطعة شوكولاطة ولا يبكون لأن الناس لا تريدهم؟ هل في الجزائر أحزاب حقيقية تحمل مشاريع؟ هل تعترف هذه المجموعات التي يطلق عليها عادة اسم ”الطبقة السياسية” التي لم تَستَمِلْ مجتمعة إكثر من 44 بالمائة من الناخبين حسب الرقم الرسمي؟ إنها مجرد إقليات منها الكبير بحجم 1.3 مليون صوت من أصل 22 مليون مسجل على قوائم الانتخاب و40 مليون تعداد سكان البلد ومنها الصغير الذي جمع بضعة آلاف من أصوات العائلة والعشيرة والطامعين وصار له مقعد أو حفنة مقاعد. وإن الحزب الذي يحق له أن يعتبر نفسه أغلبية هو الذي لا يأبَه بها جميعا. في كل حزب زعامات وفي كل حزب معارضات وعند كل مناسبة انتخابية تحدث مجازر سياسية وانشقاقات وحروب تبدأ داخل المقار وتخرج في كثير من الأحيان إلى الشوارع. هل يحمل من يتعاركون مبادئ أم يلهثون وراء مصالح؟ تساؤلات نطرحها في الصحافة وربما تداولها أخصائيون ومتتبعو الشأن السياسي، لكن بالتأكيد بالنسبة لأغلب الناس لا تعني شيئا لأنها ببساطة لا تُغيّر وموضوعُها مستهلَك، وأداؤها هزيل. وحتى الأحزاب التي تأسست حديثا لن تستوعب التجارب ولم تقرأ الواقع، راحت تزاحم من سبقها على ذات الخطاب وذات المسار سعيا لمكاسب آنية تتجسد في مقاعد وفترات ظهور على الصحافة. ربما ستكسب في الانتخابات المقبلة مقاعد لكن بالتأكيد لن تغير في الأمر شيئا. فهي لا تراعي أن التغيير يتطلب نخبة شجاعة قادرة على الترفع عن اللعب وقطع الحلوى. القوى السياسية في الجزائر على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها المفترضة لا تستثمر في التكوين ولا في الإعلام ولا في التثقيف.. هي تبخل في الزرع وتريد محصولا وفيرا. طبيعي إذًا أن يدفع شح الأفكار والخيال إلى العراك وإلى عبادة المصالح الصغيرة بشكل راتب نائب في البرلمان أو سهولة الولوج إلى مجال القروض الميسرة الضيق أو تأمين مستقبل الأولاد والأحفاد بما هو غير متاح إلا لمجموعات المصالح. أما من تحركوا في أحزابهم لتقويم اعوجاج وتصليح انحراف فهم قليلون جدا وربما صاروا أكثر عندما يزيد عدد المتحمسين للجواب عن الأسئلة المطروحة قبل قليل”. نصر الدين سعدي ************
على أبواب محمية نادي الصنوبر
”نعم سنتوجه إلى نادي الصنوبر، لكن اسمعني سيدي الرئيس، الثورة الزراعية ليست الإنجاز الذي تعتقد. هل تدري أنك لما بنيت القرى النموذجية أو بالأحرى الألف قرية فلاحية التي تغنى بها المطربون، ”ألف قرية فلاحية حقيقة ما فيها شك”، أنك بهذا ألحقت ضررا بالفلاحة. صحيح أنك أردت أن تخرج الفلاح من عيشة الڤربي وتسكنه مسكنا لائقا نظيفا، وضعت المدرسة والمستوصف والمسجد والمقهى وكل المرافق في متناوله، فكانت النتيجة أن المرأة التي كانت تعمل في الحقل تحجبت في بيتها ولم تعد تخرج، والشباب تخندق بالمقاهي، والرجال صاروا يرمون الفؤوس ويلتحقون بالمساجد مع كل آذان، وشيئا فشيئا أطلقوا اللحى مثلما رموا الفؤوس!”. هيا إلى نادي الصنوبر قلت لك! ”نعم هيا إلى نادي الصنوبر”، يرد السائق على مرافقه الآتي من العالم الآخر، ”لكن، أحذرك، نادي الصنوبر لم يبق تلك المنطقة الهادئة الجميلة، هنا أيضا ذبلت الورود، وتحولت المساحات الخضراء إلى محميات يتقاسمها ذوو اليد الطولى. صار المكان عبارة عن إمارة صغيرة، هي حكومة ورئاسة وبرلمان واتحاد العمال وذوو النفوذ من أصحاب المال. هنا السلطة وهنا المعارضة. كلهم اجتمعوا هنا ليكونوا في مأمن عن الأمراض التي تعانيها الجزائر. هنا الموالاة وهنا المعارضة، يتراشقون التهم والانتقادات على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيونات، ويلتقون مساء متحابين، متصالحين، يقتسمون بالليل ما كسبوا من غنائم النهار. فلا تصدم سيدي الرئيس، إن كانت الوجوه هناك تحمل ملامح غريبة عما رأيته ولاحظته في شوارع الجزائر، وفي جنازة المرحوم الدا الحسين، نساؤهم لا يشبهن وجوه من شاهدتهن هذه الأيام، وشبابهم لهم أحلام حقيقية يسهر أهلهم على تحقيقها بشتى الطرق. نعم، لهم أحلامهم الخاصة، ومسابحهم وشواطئهم وملاهيهم الخاصة. هنا صورة مصغرة لهرم السلطة، هنا طبقية بحدودها المرسومة في الأذهان، لا أحد يجرؤ على تجاوزها، المقامات هنا تقاس بقياس الفلل، لما تكون الفيلا كبيرة، يعني أن من يقطنها كبير في عين النظام، ومن فيلته صغيرة يعني أنه في ذيل الترتيب” - يضحك السائق - ويضيف ”هنا أيضا بناءات فوضوية، فوضوية وعشوائية، لم يتسبب فيها من نزحوا من الأرياف إلى المدن مثلما تعتقد، وإنما كبار القوم، هنا أيضا بنيت المحلات وسط مساحات العشب الأخضر، وهنا احتل الإسمنت محل الفل والياسمين، نزع القرميد الأحمر اللامع الجميل وحل محله طوابق أخرى ما زال بعض حديدها مرتفعا في السماء على أمل إضافة طوابق أخرى، ها أنا حذرتك، وسنواصل الطريق إن شئت!”. يلتفت من جديد إلى الرئيس، الذي يبدو أنه لم يكن يستمع إلى كلام مرافقه، ما زال ذهنه غارقا في الكلام الجارح وما قاله محدثه عن فشل الثورة الزراعية وكل السياسات الأخرى التي وئد بعضها في المهد. لم يعلق على الصورة المزرية لنادي الصنوبر، وإن كان الرجل لم يقل شيئا عما يحدث هناك. هناك أسرار لا يجرؤ أحد على إخراجها من أسوار هذه المحمية، التي يلهث الكثيرون ليكونوا من سكانها، معتقدين أنها جنة الله في أرضه. مازالت السيارة تسير ببطء، الزحمة كبيرة اليوم مثلما هي عليه كل أيام الأسبوع، وعلى الخط الآخر من الطريق السيار توقفت السيارات على جانب الطريق، لتفسح المجال إلى موكب مسرع تسبقه الدراجات النارية وأصوات منبهات وصراخ من الحرس مهددا السائقين ممن لم يلتزموا بالتحذيرات وعطلوا سير الموكب. ”هذا إحدى الشخصيات الهامة سيدي الرئيس، متجه إلى مكتبه، يبدو أنه من قمة الهرم، حسب درجة صراخ حرسه، وحسب عدد السيارات التي تسبقه، والتي تغطي سيارته من الخلف. لم أتمكن من رؤية وجهه، فزجاج سيارته داكن. على العموم لا يهم، فستعرف من الأخبار أهم نشاطات الكبار لهذا اليوم، ومنها ستحزر من كان في الموكب”، يعلق السائق مرة أخرى، ومرة أخرى يبقى الرئيس متدثرا في برنوسه الأسود، وصمته المقلق، لا ندري إن كان الموكب ذكره بأيام عزه، أو أن اقترابه من ”جنة” نادي الصنوبر حركت فيه حنينا ما، وأحاسيس مثل تلك التي راودته كلما اقترب من قصر المرادية، فنادي الصنوبر وإن تغيرت ملامحه وغزته مظاهر الريف مثل كل المدن والأحياء التي كانت راقية لا يزال الجزائريون يرهبون السلطة، عندما كانت الرهبة والرعب من المستعمر محفورة في أذهانهم، وقتها لم يكونوا يجرؤون على اقتلاع وردة من بستان، ولا رمي فضلات الشمة والبصق في الطرقات والأرصفة. نادي الصنوبر وإن تغير في شكله، ما زال ذلك المكان المخصص للكبار، ولمن ترضى عنهم السلطة، تماما مثلما كان ذلك زمن المرحوم العائد، هذه الأيام، مازالوا يمتلكون الفلل هنا، وفي ملحقة موريتي التي كانت على درجة أقل من الفخامة، كانت مخصصة لخدم وحشم السلطة. فالسائق لم يأت بجديد وهو يحاول نقل الصورة المبتذلة لهذا المكان، مكان يُصوره الإعلام مثل قصور الحكايات في ”ألف ليلة وليلة”، بجواريها وغلمانها - الكلام على قصص ألف ليلة وليلة هنا. رغم قصر المسافة من ”تلي ملي” إلى نادي الصنوبر، إلا أن ”الدي أس” السوداء قطعتها في أكثر من ساعة. ومع الاقتراب من بوابة المحمية، التي تقدمت مئات الأمتار عن البوابة الرئيسية الموروثة عن الحكم الاستعماري، وأكلت من البساتين والحقول مساحات واسعة، خرج الرئيس من صمته من جديد، منبها مرافقه بتنهيدة عميقة، تنهيدة حارقة: ”ياه! لم يعد للزمن معنى عندي، لكن للمكان معان كثيرة، نادي الصنوبر ها أنت هنا أمامي وهذا بحرك الصافي كدموع العينين، كم جلست قبالتك، وجالست أمواجك، ها هي روائح الملح تنبه حواسي الميتة من جديد، وها هي نوارسك تحوم فوق مبانيك مثلما تحوم الغربان على الأطلال، هل تحول المكان إلى أطلال؟”، يتساءل الرئيس محادثا نفسه، كممثل بارع على خشبة مسرح. يقطع عليه السائق حديثه المشحون بالشجن والحنين معلقا: هو أطلال في أذهان البعض، أولئك الذين أجبروا على ترك المكان، نعم عندما تغضب السلطة على من عصوا، فهي لا تعطيهم أدنى مهلة، ليجدوا أغراضهم مرمية على الرصيف. الانتساب إلى المكان، موقع بالولاءات، ليس يسكن نادي الصنوبر من يريد، هو مثل الكنز في روايات الخيال، يسكن على فمه ثعبان بسبع رؤوس، والذي يعثر على الكنز عليه أن يعلق في رقبته التمائم، ويقرأ المعوذتين، وإلا لدغه الثعبان، وتحول الكنز إلى رماد، هنا للمكان طقوسه، شمس نادي الصنوبر، ليست كالشمس التي تطل على باقي مناطق الوطن، ما أن تجلس تحت أشعتها ويصطبغ جلدك بوهجها، حتى تتحول إلى إنسان آخر، حتى الكلام على لسانك يخرج مختلفا، لطيفا مهذبا، تماما مثل المعوذتين أمام الكنز الخرافي، أعتقد أنك تفهمني جيدا، فالطقوس هي نفسها لم تتغير، فقط تغيرت الوجوه والأسماء. بل حتى الأسماء أحيانا لم تتغير، فكم هم الذين ورثوا مجد آبائهم وما زالوا يستلقون كل صيف على رمال شاطئ الأحلام في نادي الكبار”! ما زالت السيارة تسير ببطء على مقربة من المدخل، ليس بسبب الزحمة، فلا زحمة هنا، وكأن للمعوذتين مفعولهما على المكان أيضا، بل لأن السائق يتفرس وجوه الحراس من رجال الدرك على مدخل المحمية، لعله يجد أحد معارفه هناك، ليسمح له بالدخول، فلا يدخل نادي الصنوبر إلا بتوصيات ووساطات وبطاقات انتساب للنمونكلاتورا الحاكمة، أما الآخرون فبتوصية من جهة ما وبعد تأكيد عن طريق خطوط هاتف خاصة، موصلة إلى كل البيوت، أو عندما يستغلون فرصة مأتم ما لتقديم العزاء، نعم هنا أيضا يزورهم الموت من حين إلى آخر، فأمام الموت يتساوى الجميع حتى وإن كان بعضهم يدفن في مقابر خمس نجوم. - يتبع -