وزير السكن والعمران والمدينة،طارق بلعريبي: سنطلق قريبا برنامج جديد للسكن الترقوي العمومي    تنظيم احتفالية الخميس المقبل لإحياء ذكرى تأميم المناجم وتأسيس شركة سونارام    لايمر: نريد الذهاب إلى ملعب ويمبلي    وفاة المدرب سيزار لويس مينوتي    الإطاحة بشبكة إجرامية وطنية من 3 أشخاص    هذه توجيهات بلمهدي..    المعركة ضد التّطبيع متواصلة بالمغرب    العدوان الصهيوني على غزة: الإحتلال يشن سلسلة غارات على مناطق متفرقة من رفح    إضرابات متزامنة في كليات الطب والمستشفيات بالمملكة    بلعابد يستقبل رئيس الاتحاد الدولي للرياضة المدرسية : إنجازات الرياضة المدرسية في الجزائر "استراتيجية وقوية"    "الجزائر شريك استراتيجي في التعاون الإفريقي: الفرص وآفاق التعزيز" محور ملتقى بالجزائر العاصمة    50 مصمّمة تعرضن الأزياء الجزائرية.. هذا الخميس    توقيف صاحب فيديو المناورات الخطيرة بالقالة    "الطيارة الصفراء".. إحياء لذاكرة المرأة الجزائرية    توالي التحذيرات الدولية من مخاطر اقدام الاحتلال على شن عملية عسكرية في رفح    زيتوني يبحث مع رئيس مجلس إدارة غرفة قطر تعزيز التعاون الإقتصادي والتجاري    المرصد العربي لحقوق الإنسان: إجتياح جيش الإحتلال الصهيوني لرفح "جريمة بحق الإنسانية"    الأسرى بين جحيم المعتقلات وانبلاج الأمل    كريكو تبرز جهود القطاع في تعزيز المرافقة النفسية لذوي الاحتياجات الخاصة خلال امتحانات نهاية السنة    عطاف يستقبل رئيس المجلس الوطني لجمهورية الكونغو    سيدي بلعباس.. رهان على إنجاح الإحصاء العام للفلاحة    الصناعات الصيدلانية : الإنتاج المحلي يلبي أزيد من 70 بالمائة من الاحتياجات الوطنية    وزير الصحة يشرف على آخر لقاء لفائدة بعثة حج موسم 2024    دراجات/طواف الجزائر-2024/: عودة نادي مولودية الجزائر للمشاركة في المنافسة بعد غياب طويل    كرة القدم داخل القاعة-تصنيف الفيفا: البرازيل يحتل صدارة الترتيب عند الرجال والسيدات    الصحافة كانت مرافقة للثورة في المقاومة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي    القشابية .. لباس عريق يقاوم رياح العصرنة    جيدو/الجائزة الكبرى لدوشانبي: ميدالية برونزية للمصارعة الجزائرية أمينة بلقاضي    المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية سيساهم في تعزيز السيادة الرقمية    ندوة تاريخية إحياءً لرموز الكفاح الوطني    إشادة بلقاء قادة الجزائر وتونس وليبيا    المنتجات الجزائرية تعرف رواجا كبيرا في موريتانيا    500 موقع للترويج لدعاية المخزن    بلمهدي يحثّ على الالتزام بالمرجعية الدينية    وزير الداخلية يبدأ زيارته إلى خنشلة بمعاينة فرع كوسيدار للفلاحة    بأوبرا الجزائر بوعلام بسايح..المهرجان الثقافي الدولي للموسيقى السيمفونية من 16 إلى 22 ماي الجاري    في دورته التاسعة.. "الفن موروث ثقافي حافظ للذاكرة" شعار الرواق الوطني للفنون التشكيلية    قدمها الدكتور جليد قادة بالمكتبة الوطنية..ندوة "سؤال العقل والتاريخ" ضمن منتدى الكتاب    وزير الداخلية يشرف على مناورة دولية للحماية المدنية    في دورة تكوينية للمرشدين الدينيين ضمن بعثة الحج: بلمهدي يدعو للالتزام بالمرجعية الدينية الوطنية    الجزائر تدفع إلى تجريم الإسلاموفوبيا    ثبات وقوة موقف الرئيس تبون حيال القضية الفلسطينية    إشادة وعرفان بنصرة الرئيس تبون للقضية الفلسطينية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي    يقرّر التكفل بالوضع الصحي للفنانة بهية راشدي    50 مشاركا في صالون التجارة الإلكترونية بوهران    خبراء جزائريون يناقشون "الهندسة المدنية والتنمية المستدامة"    مهنيون في القطاع يطالبون بتوسيع المنشأة البحرية    انتشال جثة شاب من داخل بئر    دليل جديد على بقاء محرز في الدوري السعودي    "الكناري" من أجل مغادرة المنطقة الحمراء    عمورة في طريقه لمزاملة شايبي في فرانكفورت    تعريفات حول النقطة.. الألف.. والباء    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر محمد الأخضر عبد القادر السائحي للنصر
نشر في النصر يوم 05 - 09 - 2011

لم أندم على أي قصيدة كتبتها وإغفال النقاد لشعري لا يقلقني
لم أتخصص في إبراز الشاعرات ولكني كنت أميز بينهن صاحبة النص الواعد
أجرى الحوار يوسف وغليسي
على مشارف الثمانين (التي سيبلغها بعد حولين اثنين إن شاء الله) ولا يزال في عزّ عطائه الإبداعي ونشاطه الثقافي.
هو ثاني اثنين شاع اسماهما وذاع في عالم الكتابة الشعرية والأدبية من ضمن عائلة جنوبية عريقة تَسمّى جميع أفرادها باسم محمد الأخضر السائحي، وقد خُصّ باسم (السائحي الصغير) تمييزا له عن ابن عمّه السائحي الكبير (1918 -2005) ...
وحده الآن ينافح عن تاريخه الأدبي العريق، ويدافع عن شرف (قبيلة أولاد السائح )، ويرافع على تراث أهله وصحبه من الكتاب والشعراء الذين عاصرهم وصادقهم ثمّ رحلوا دون أن يتركوا من آثارهم المطبوعة ما يدلّ عليهم ...
بدا قلمه ينبض شعريا سنة 1953 ، ولم ينقطع مذ ذاك ما أمر القلب به أن يوصل !
في جعبته نحو 25 كتابا، نصفها في الشعر بشتى موضوعاته وقضاياه، ومختلف أطره وأنواعه وبناه؛ فقد كتب الشعر العمودي ثمّ تحرّر منه ثمّ راوح بينهما، وكتب الأوبرات والملحمة والقصيدة الغنائية، كتب للكبار والصغار دونما تعصّب لهذا النوع أو ذاك الطابع ...
كثير من الأصوات الفنية الجميلة التي تغنّت بأحلى الكلمات لم تنس نصيبها من دنياه الشعرية كصليحة الصغيرة ومحمد راشدي وعلي الرياحي التونسي ونازك اللبنانية ...
سألناه في قسنطينة، فأجابنا في العاصمة، ثمّ اتّفقنا على اختيار (النصر الثقافي) منبرا لنشر أسئلتنا وإجاباته فكان هذا الحوار.
فضّلت أن تكون ثمرة نضالك الأدبي الأولى نثرية لا شعرية، وحمّلت كتابك الأول ما لا طاقة له به؛ أعني (مأساة الإنسانية في الجزائر) 1957م، ثم جاءت الباكورة الشعرية الأولى متأخّرة بأكثر من عشر سنوات كاملة (ألوان من الجزائر) 1968م. فهل كانت هذه البدايات تؤشِّر على صراع الشاعر والناثر في أعماقك؟
لم يكن الأمر في هذا الفضاء أصلا، رغم أن الواقع يقدِّم الحجة الملموسة لما حدث، ويجعل الباحث اللّماح يظن أن هناك صراعا داخليا بين أدوات التعبير لدى المبدع، وأيّها يفضِّل لهذا الحدث أو ذاك.
إن الجيل المخضرم الذي نشأت في دائرته الزمنية والمكانية لم يعش صراعا بين أدوات التعبير، لأنه كان محظوظا جدّا جدّا بمعايشة فطاحل الشيوخ المتمكِّنين من ناحية اللّغة العربية شعرا ونثرا، وكان المطمح لكل واحد من جيلي أن يقترب ما استطاع من الذي اتخذه قدوة ومثلا أعلى، عليه أن يسعى بكل ما لديه من معرفة مكتسبة إضافة إلى ما لديه من موهبة أساسية منحه الله إيّاها لكي يصقل الموهبة. ورغبة جامحة تنطلق من محاولات النثر الصحيح السليم لغة وقواعد إلى النثر الأدبي البليغ وصولا إلى النثر الفني البديع.
خلال هذه المحاولات الجادة والتلقائية في أغلب الأحيان تُطلّ الومضات الشعرية والدفقات الخطابية – نظرا لمعايشتنا فترة النضال والكفاح السياسي المعتمد على الكلمة-إذا كان للكلمة دورٌ فعال هيّأ الظروف لأن تصبح الكلمة – أثناء الكفاح المسلح – تمتلك قدرة الرصاصة والقنبلة، وأحيانا تتفوق عليها لأنها –الكلمة- هي الحاملة للإشعاع العريض الواسع، والتبليغ المهول لأي عملية حربية في الجبال أو الأدوية، أو عبر الأزقة والشوارع والدروب داخل المدن والقرى.
أمّا كيف حدث أن ظهر عملي النثري قبل المجموعة الشعرية، فليس هذا من باب أنِّي فضّلت هذا المسار على غيره، ولكنها ظروف خارجة عن نطاق التفضيل والاختيار، خاصة في التباعد الزمني، إذ فصل بين نشر كتابي (مأساة الإنسانية في الجزائر) وأول مجموعة شعرية لي (ألوان من الجزائر) عشر سنوات كاملة، وحتى المكان إذ صدر كتاب النثر عام 1957م بتونس والثورة التحريرية تملأ أخبارها أجهزة الاعلام في العالم كله بما لها وما عليها. وصدرت المجوعة الشعرية عام 1968م وقد استراح الشعب الجزائري من عناء الحرب ومعاناة مآسيها البالغة الخطورة العميقة الجراح الثخينة الغائرة المستعصية على الشفاء الكامل والاندمال التام. فكانت الأولوية للنثر لانسجامه مع الزخم الإعلامي الذي تحظى به الثورة الجزائرية آنذاك. لهذا فإنني حين قدمته لأستاذي أبي القاسم محمد كرُّ ليكون سلسلته التي أنشأنها بعنوان (سلسلة كتاب البعث) نصحني – لأنّ حجمه أكبر من الحجم المقرّر لسلسة (كتاب البعث) بصفته (كتاب جيب) – بأن أقدّم كتابي إلى دار نشر كبرى مثل (مكتبة النجاح.
عملا بالنصيحة قدّمت كتاب (مأساة الإنسانية في الجزائر)إلى الصديق الأستاذ الهادي عبد الغني صاحب (دار مكتبة النجاح للنشر والتوزيع) رحّب بالكتاب وطبعه في نفس العام دون تردّد. والحمد لله
هنا لابد أن أجيبك عن سؤال لم يلق، ولكنه يدور في خلد كل من يتصفح قائمة ما نشر لي من أعمال وطرحته أنت بصيغة تفضيل "أن تكون ثمرة نضالي الأدبي نثرية وليست شعرية"
أؤكد مرّة أخرى بأنه لا تفضيل ولا خيار، ولكن حدث أنني قدّمت مجموعتي الشعرية إلى صديقي التونسي الأستاذ أحمد بالخوجة الذي أنشأ (دار نشر) وفضّلت أن أساعده بأول مجموعة شعرية لي لأنه ذوّ اقة للشعر ويهتم بعدد من زملائي الشعراء بيد أن الأقدار شاءت ألا ينجح مشروعه ولم أجد القدرة على سحب مجموعتي وصبرت حتى يئس هو من مشروع (دار النشر) وأعاد إلي المجموعة بعد سبع سنوات
ليس هذا غريبا عن مجموعاتي الشعرية فمجموعتي (بكاء بلا دموع) ظلت نائمة في أدراج قسم النشر للشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائرية المأسوف على تفكيكها
أولا ثم قتل الجناح الخاص بنشر الكتب الأدبية والثقافية (المؤسسة الوطنية للكتاب) ثانيا فقد كانت شرا لابد منه –عشر سنوات لقد وضعت مجموعتي: (واحة الهوى) و(بكاء بلا دموع) عام 1971م فصدرت (الواحة ) عام 1973م ولم يصدر (البكاء) إلا عام 1980م.
بقيت نقطة واحدة ليس لي جواب عليه. وهي كيف تصورت – يا صديقي – أنّي حمّلت كتابي (مأساة الانسانية في الجزائر) ما لا طاقة له به؟.
إلا إذا أقنعت تحليلي للبعد الذي كان جيلي والجيل السابق علينا للكلمة منطوقة ومكتوبة، فصيحة و(ملحونة). إنه السلاح الذي صنعه الشعب الجزائري طيلة قرن وثلث من الزمن في صراعه الطويل المرير مع الاستعمار الفرنسي.المتوحش الضاري الذي لم ينته بعد إلا في أذهان الشذج الذي لم يخبروا أساليب الاستعمار التي يزرعها في بقاياه من الأذناب والطفيليات التي مازالت تعيث فسادا في كل أرض ودنستها أقدام الاستعمار بجميع ألوانها سوداء والتي لا لون لها كالسم الناقع. وتنكأ الجراح في جميع الشعوب التي ابتلاها الله بشروره وويلاته. إنها ألغام وقنابل موقوتة تؤرقنا ... تؤرقنا ما لم نفنها الفناء الذي لا حياة بعده.
في كتبك (أدمغ) و(كان الجرح ... يا مكان) و(الشاعر الزنجي وأخواتها) ممارسات سردية على غير عاداتك الشعرية.
فكيف تسلل الشاعر فيك إلى عوالم القصة والرواية والمسرحية؟
وهل ترى أن عدم رغبتك في تكرار الهجرة إلى تلك العوالم هو اعتراف بأنها "هجرة غير شرعية؟"
ليس هو تسللا ولكنه توجه ثابِت أصيل لأن بداياتي الأدبية الناضجة كانت نثرا فيه نفحة شعرية أو لمسات شعرية قبل أن يشدني فيض الشعر إلى بحوره وأوديته، فكتاباتي في حصة (دروس الإنشاء) كان شيوخي في (الزيتونية) يلاحظون هذه النفثات الشعرية التي تطبعها فينوهون بها ويباركون، وأذكر أن حصّلت على مرتبة جيدة في مسابقات مجلة (قصص) التي كانت تصدرها (دار الهلال) المصرية، ومنها أن المجلة كانت تصلني بالبريد بصفتي أحد الفائزين لمدة نصف سنة 1952م. وهذا يؤشر على أنه لم أفارق عالم السريات أبدا، ولكن ظروف الطباعة والنشر تدخلت مرة أخرى فكما أظهرت أن أول دخول لي إلى عالم النشر على قطار النثر فإنها ألحت أن تكون المواصلة الأدبية على أجنحة الشعر بصورة مكثفة غطت على الجانب الآخر الذي ظل يسير بواسطة القطار.
هل أقول إن الموهبة استأثرت بالبوح الشعري. أما التعليم والتكوين والتجربة فإنها أخذت الطريق العادي طريق البلاغ بأساليب السرديات التي تتيح القدرة الكافية على إيصال الفكرة والمعلومة ووجهة النظر، واختلاف الآراء بكل أبعادها وتفاصلها وحتى متناقضاتها الحتمية في بعض الأحيان.
حاكيت رائعة (خبز وحشيش وقمر) لنزار قباني في قصيدتك (خمر ونساء وفراغ) ... وحاكيت (إلياذة الجزائر) لمفدي زكريا في مطويتك (معلقة الجزائر) ... وحاكيت (الراعي وحكاية الثورة) للسائحي الكبير في قصيدتك (حكاية ثورة) فإلى أي حدّ شكل هؤلاء الشعراء مرجعيتك الشعرية الأولى؟!
بين (خبز وحشيش وقمر) و(خمر ونساء وفراغ) محاكاة صادقة أنتجتها نفس الظروف والأوضاع فقد عايش الشاعر العربي الكبير نزار قباني المتميز بمنهج لم يشاركه فيه غيره مشاركة تذكره أوضاع الأمة العربية في جناحها الشرقي وصورت في قصيدتي أوضاعها في الجناح الغربي.
أما بالنسبة لإلياذة مفدي زكريا ومعلقتي فليس هناك محاكاة وإنما هناك مواجهة إبتداء من العنوان (إلياذة) و(معلقة) وانتهاء بأسلوب (الأناشيد) و(القصيدة) ذات البحر الواحد والقافية الواحدة، إنها مواجهة بين لباس الغرب ولباس العرب.
أما ما بين (الراعي وحكاية ثورة) وعملي (حكاية ثورة) فهو توارد خواطر في (العنوان) وتطابق في الموضوع وليس محاكاة لأن عمل الشيخ السائحي الكبير هو نوع من (الأوبرات) في جزئه الخاص ب (الراعي والأميرة) في حين أن عملي هو نوع من (التركيب الشعري) القريب من الاستعراض المسرحي. فقد لملمت فيه مقاطع من عدد من النصوص التي كنت أواكب بها الحركة الوطنية وثورة التحرير منذ إرهاصاتها الأولى إلى انتصارها المادي المتمثل في تحقيق الجزء الأول من الأهداف التي سطرها (بيان أول نوفمبر 1954م = 06 ربيع الأول 1374 ه).
نعم إن هؤلاء الشعراء الكبار ثلاثتهم يمثلون –مع محمد العيد آل خليفة وسليمان العيسى وعبد الوهاب البياني وأبي القاسم ألشابي ومصطفى خريف – مرجعيتي الأولى من الشعر العربي الحديث مع الموروث العربي الضخم من جاهليته وإسلامه وأندلسه ونهضته المعاصرة وطنا ومهْجرا.
في مقدمة أعمالك الشعرية الكاملة اعتراف صريح بأنك –طوال رحلتك الشعرية الطويلة – لم تندم يوما على أي نص قلته أو كتبته! وأنت تذكر جيدا أنك عازف (موشح قابض الضرائب) والمبشر ب (الربيع الجديد) في زمن الثورة الزراعية والعهد الاشتراكي! وصاحب قصيدتي (التاسع عشر يونيو) و(في ذكرى 19 جوان) اللتين تتغنيان بالتصحيح الثوري، وتمتدحان الانقلاب العسكري "البومديني" ضد بن بلة وصاحب نشيد (الوئام) أليس في بعض هذه التجارب الشعرية ما يستحق بعض الندم؟
أبدا .. ولو عادت الأوضاع لأعدت نفس النصوص ذلك أنني لم أكتبها رغبة أو رهبة وإنما كتبتها من إحساس مسيّج بإيمان صادق بأن الحركية التاريخية تتطلب ذلك الحدث. والآن وقد تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ظهر لمن ينظر بعين الباحث النزيه أن الخلل لم يكن في الأحداث ذاته أو في الفاعلين الحقيقيين فيها أو الآمرين بها وإنما في التطبيقات التي تولاها من ليسوا أهلا لها، بل الأدهى أن أغلبهم تولوا عملية التطبيق وهم عازمون على الإفشال والإفساد والوصول بالأمور إلى ما لم يقرر لها، لأنهم ساروا بها إلى الوجهة العكسية تمام عن قصد وسبق إصرار على الشر والإفلاس وهو ما وصفته قبل قليل ببقايا الاستعمار وطفيلياته وأذنابه ومن إليهم.
في (ألوان من الجزائر) تجربة حرّة قديمة عنوانها "حنين" تمتد إلى أفريل 1953م، إذا صحّ أنها قد نشرت في ذلك التاريخ فلا شك أنها أول عهد الشعر الجزائري بقصيدة التفعيلة. فهل حدث ذلك؟
وكيف فكرّت في كتابة قصيدة من ذلك النوع آنذاك، بمعنى ما هي المرجعيات الشعرية والتاريخية التي استندت إليها يوم استبذ بك ذاك (الحنين)؟
إنّ عادتي في تسجيل تاريخ الفراغ من أي نص كتبته ومكانه عادة مترسِّخة لازمت كل أعمالي إلا القليل النادر منها. كما أن أول نشر للقصائد في الخمسينيات كان إلقاؤها في قاعات المحاضرات التي تنظمها الجمعيات الثقافية في المهرجانات والنشاطات الأسبوعية التي كانت تعج بها الحياة الثقافية طيلة الموسم الثقافي دة مرات والتربوي. وهذا النص (حنين) قد ألقي عدة مرات بكل تأكيد على الشعراء الشباب جزائريين وتونسيين دون تمييز، لأن الحركة نفسها في المشرق العربي كانت تبعث بإشعاعها ومستجداتها إلى بلدان المغرب العربي.
لقد كنت أحد أعضاء هذه الحركة الناشطين وصوتا واضحا بينهم يعتز بحمله لواء الشعر الحديث المتأصل الذي يحافظ على قواعده الثابتة والرافضة في نفس الوقت للجمود والتحجر.
كيف تنظر إلى مؤسسي الحداثة الشعرية الجزائرية الأوائل (سعد الله، خمار، الغوالمي، باوية ...) ومن منهم الأقرب إلى ذوقك الشعري؟
كان أبو القاسم سعد الله في القاهرة، ومحمد أو القاسم خمار في سوريا ومحمد صالح باوية في في بغداد ثم في بلغراد بيوغوسلافيا. والغوالمي في قسنطينة وكنت في تونس. لم يكن التواصل إلا بين الأخوين سعد الله وباوية. أما البقية فليس بيننا سوى السماع والاعتزاز بأن هناك بعض الجزائريين يكتبون الشعر بالطرق الحديثة.
إن الدافع الأول للانتماء إلى حركة التجديد الشعري – بالنسبة لي – هو التطلع إلى إثبات صوت الجزائر العربية المسلمة الواقفة في وجه المسخ الاستعماري البشع.
وأنها لم تفقد أصالتها وامتدادها العربي رغم المحاولات الجهنمية القاتلة بكل ما تملكه القوى الاستعمارية الماحقة الخانقة الماسكة بكل ما يجري في الجزائر.
إني أعتقد بأن نفس الدافع يكون قد خالج الإخوان الآخرين سواء في المشرق العربي أو في المهجر الأوروبي، وهو أمر طبيعي لأن المنطلق بالنسبة للجميع واحد فكلنا يسعى لأن تكون الجزائر حاضرة بصورة مشرفة، معبِّرة عن حقيقتها الراسخة وليس عن صورة ما يدعيه الاستعمار الفرنسي.
من هنا كنا نسير في نسق واحد حسب اطلاعي على ما كتبه سعد الله وخمار ورباوية أما الغوالمي فلم يكن لدي سابق إطلاع على أعماله، إني لا أستطيع أن أجد أحدهم أقرب إلي من الآخر ولعلنا نمثل سيمفونية متوازنة كل حسب آلته التي يعزف عليها والمقطع المطلوب منه القيام به.
ومن يستهويك من شعراء الجزائر اليوم؟
عند كل شاعر أو شاعرة جزائر اليوم أجد لونا أو نصا يشدني إليه أكثر، أما الأشخاص فجميعهم أحبابي رغم أنف بعضهم، ورغم أنفي أنا أحيانا، إذ أنفر من سلوك مّا – ميوعة أو تهورا – ذلك أمر يحدث للناس جميعا، والشعراء أقرب الناس إلى الاحساس الذي لا تفسير له إلا بكونهم شعراء، ولهذا فواجبي أن أضعهم في قلبي وعلى رأسي إكراما للشعر، وليس للطين.
جيلك من الشعراء كان أنانيا إذ لم يهتم إلا بنفسه وقصائده في أحسن الأحوال، بخلافك أنت الذي اهتمت بشعرك وشعر (الجزائر في العصر الحاضر)، وأهديتهم روحك، وجمعت أشعار العمودي ومحمد الصالح رمضان وعثمان بوقطاية...، وكتبت شعرا ونثرا عن معاصرك أحمد الطيب معاش وكتبت عن غيره كتبا ومقالات ... ما السرّ؟
السر هو ما قلته في الفقرة السابقة، وأضيف أني أحيانا أتناسى شاعريتي و ألبسها إلى الآخر حتى أوفر له كل ما أحب أن يتوفر لي شخصيا فإذا فرغت من ذلك عدت إلى نفسي وشاعريتي بأنانيتها. ولكن يكون وقت البخل قد فات (سبق السيف العدل) وأصبح العمل ملصقا بي وعلي أن أتقنه أو على الأقل أن أبذل فيه ما في قدرتي وملكاتي دون تقتير أو شح رغم الأنانية والحساسية المفرطة لدى أغلب الشعراء.
إن هذا سلوكي مع جميع بني الإنسان فلست قادرا على عدم احترام أي كان من البشر دون أن أرجو معاملة بالمثل. فقط لا أحتمل أن يتحوّل التهور وسوء السلوك إلى احتقار و إهانة. فبعد ذلك يكون الرد أشد وأقسى.
شكلت تونس مسقط قلمك الأدبي، كنت خلال الخمسينيات جزءا لا يتجزأ من الحركة الأدبية هناك، من خلال حضورك في (رابطة القلم الجديد)و(أسرة القلم الواعي) و(صوت الطال) و(جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين) ... ومع ذلك فإن حضورك في كتاب (النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس) وكتاب (الأدب الجزائري في تونس) نادرا جدا، كأن الأمر مقصود؟ !
شكك في محله تماما، وليس له من سبب الأسوء تقدير من صديقنا الأستاذ محمد الصالح الجابري إذ ظن احتفائي بمُواطنه الشاعر الأستاذ الشاذلي زوكار رحمهما الله جميعا أنه تمييز وتحيزا إلى مجموعة هذا ناسيا أن علاقتي بزوكار سبقت معرفتي له بسنوات. إذ كنا من مؤسسي حركة التجديد الأدبي والتحديث الشعري في تونس قبل دخول الجابري الساحة الأدبية. وكانت لنا زمالة الدراسة في جامع الزيتونة، ولعله شعور منه كما هو شعوري الصادق بأنني لست مهاجرا في تونس ولكنها جزء من وطني الواسع العريض.
لهذا أكرمته عند دراسته في جامعة الجزائر بواسطة صديقنا المشترك الروائي الجزائري خلاص الجيلالي وذلك بإسكانه في بيت كان لي حق التصرف فيه مدة أشهر. وبكل صدق أيضا فإن عدم اهتمامه بي لم يفسد الود بيني وبينه فحافظت على زيارته كلما أتيحت لي فرصة زيارة تونس، بل وأضعه في رأس قائمة من ينبغي الاتصال بهم بعد أساتذتي الذي أصبحوا أصدقائي مثل:
الشيخ عبد الستار الهاني والدكتور الحبيب بالخوجة و الأديب الأستاذ محمد العروسي المطوي رحمه الله والأديب الباحث الإذاعي الشاعر محمد المرزوقي وأبو القاسم محمد كرو وشيخ الأدباء التونسيين زين العابدين السنوسي والشيخ محمد بالأخوة والاستاذ المناضل القاص الطاهر قيقة والبشير العربي والهادي حمّو والشاذلي بالقاضي وبعض آل النيفر.
أو من زملائي في الدراسة والحركة الثقافية ومنهم الإخوة:
الدكتور علي الشابي وجمال الدين حمدي (بن حميدة) وأخيه صلاح الدين والأستاذ محمد بن منصور بن يحمه والدكتور محمد بو الأحفان وعلي شلفوح وبرنان السعدي والشاعر الإذاعي منور حمادم والأحبة في قليبية الدكتور نور الدين حمود والحبيب الجناحي وعز الدين المدني ومحمد الصادق عبد اللطيف الذي لم ينقطع التواصل بيننا إلى الآن والميداني بن صالح ومحمد حفظي وحميدة الصولي.
ولن أنسى أحبتي في نابل ورأس الجبل ورفراف والمتالين وبنزرت وجربة.
كما أنه لا بد أن أسجل بعض الزملاء الأصدقاء في الإذاعة التونسية مثل:
الإذاعي الكبير عبد المجيد بن جدو رحمه الله ومنير شماء وعبد العزيز العروي والشيخ اللقاني بن السائح ومجيد المحرزي ومصطفى الفارسي وأحمد العموري وآل .......... مختار وتوفيق ومختار سحنون وأحمد صنديد وعبد العزيز الرياحي ومحمد علي بالحولة وعز الدين الملوح وعبد العزيز قاسم وعبد الوهاب الرزقي وحمادي الجزيري وحمادي بكار السيدة مليكة بن خاسة والأديبة ناجية تامر والشاعرة زبيدة بشير ونجوى إكرام (من آل العقبي) وهما من أصول جزائرية مهند عزوز والسيدة كلثوم والزهرة فائزة (أمي تراكي) أما مجموعات الفنانين طربا وتمثيلا وتلحينا فلا أستطيع إلا ذكرهم بالجملة مثلهم مثل مجموعة التقنيين والمكتبيين والإداريين والفراشين والسائقيين فلكل واحد أو واحدة منهم فضل علي في تكويني أو في نجاح عملي فلهم جميعا خالص تقديري وصادق اعتذاري عن عدم ذكرهم واحدا واحدا.
رغم أنك كنت كنت أكثر الشعراء الجزائريين حضورا، وكنت تعيش حالة من الازدهار الشعري حين كان المرحوم صالح خرفي ينجز كتابه /أطروحته (الشعر الجزائري الحديث)، ورغم أنه أثنى على الأخضر واليابس من شعرنا وشعرائنا هناك إلاّ أنه تجاهل تجربتك الشعرية تجاهلا مريعا، وحتى الاشارة الوحيدة التي كان ينبغي أن تدل عليك في كتابه أخطأتك! لأنه نسب فيها قصيدتك (هل أموت؟) إلى غيرك!
أليس في الأمر (إن)؟ !
كل ما هنالك أن الدكتور صالح خرفي ليس في ذهنه شاعر جايله إلا صالح خرفي نفسه. ولو وجد سبيلا إلى أن يكون الشاعر الوحيد في الجزائر لفعل سامحه الله وغفر لنا وله.
تناول شعرك بالدراسة والنقد أمثال: عاطف يونس ومحمد ناصر وعبد الملك مرتاض وعمر أزراج وشلتاغ عبود شراد وحسن فتح الباب ومنصور عبد الحق بوناب (الذي خصك برسالة ماجستير ثم أطروحة دكتوراه كاملتين) ... وقد تباينت آراؤهم في شعريتك تباينا كبيرا. فكيف ترى نفسك في هذه المرايا النقدية؟ ومن تعتقد أنه أنصفك؟ ومن تجنى عليك؟
وغيرهم كثيرون وكثيرات أيضا وجوابي قد سجله عملاق الشعر العربي في عصوره المختلفة أبو الطيب المتنبي رحمه الله معبِّرا عن قيمة الكلمة الشعرية الحق التي كادت تلامس مقام الوحي الإلهي لأنبيائه ورسله:
" أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم".
تخصصت في كتابة مقدمات "تجميلية" جميلة لبعض المجموعات الشعرية النسوية، وكنت صاحب يد بيضاء على كثير من الشاعرات الجزائريات (نورة سعدي، الوازنة بخوش ...)
أليس كذلك؟
ليس هو تخصصا يا دكتور يوسف، ولكنها يد أشكر الله على أن منحني نظرة صادقة لتمييز صاحبة النص الواعد من صاحبة النص الخادع، ومنهن من اعترفت بهذه اليد شاكرة وموفقة وعازمة على مواصلة الطريق، ومنهن قليلات أخذهن غرور اللهث وراء الأنا المنتفخة بالإطراء الحمّال للوجه الزائف البرّاق. فتكمن كلمة الحق فانتشر الزبد والغثاء بدلا من الجهد والصبر في رحلة الإبداع.
ما هي مشاريعك الكتابية القادمة إن شاء الله؟
هناك مجموعة مشروعات – إن مد الله في العمر – وسمحت حافة الثمانين بتحقيق بعضها.
العناية بما لم ينشر من قصصي وأشعاري وكتابة روايتي الثانية التي أعددت مسودتها الأولى على سرير المعالجة سنة 1964م حين رفضني الموت ثانية بعد إصابتي باختناق الغاز وبقي الماء الساخن يسيل على ساقي اليسرى حتى كاد ينضجها وكنت فاقد للوعي تماما. وحين استعدت الوعي في مستشفى (القطار) بمدينة الجزائر ولم يكن لي أثناء ايام النقاهة من سلوى ممتعة غير كتابة يوميات وبكائي على العجز المادي المفروض علي طيلة أشهر دون حراك.
هذا من جهة الابداع واعطاء. أما من جهة النشاط الثقافي و إثراء الحركة الأدبية والمكتبية فإنني سأواصل المساهمة – قدر المستطاع – في تسيير الجمعية الوطنية الثقافية محمد الأمين العمودي عبر فروعها المنتشرة في جهات الجزائر، توجيها ومحاضرا ومرشدا وجاذبا للراغبين في تحريك الميدان الثقافي بين مناطقهم وبعونهم.
ومن جهة ثالثة سأنجز بعض الأعمال التي شرعت فيها ولم أتممها منها:
1 -كتابي عن الشاعر المظلوم العاثر الحظ مصطفى بن رحمون حتى يتبؤأ مكانته بين كبار شعراء الجزائر ضمن طبقته الثالثة في ترتيبي الخاص لطبقات شعراء الجزائر حسب ظهورهم الزمني سنا وإثبات وجود في ساحة الشعر الجزائري.
2 -إعداد الأعمال النثرية الكاملة التي طبعت منذ الكتاب الأول (مأساة الإنسانية في الجزائر) إلى الكتاب الأخير الذي سيضم مجموعة قصص ومسرحيات التي لم تنشر سابقا.
ختاما أشكرك يا دكتور يوسف على هذا الحوار الذي دغدغ مشاعري دغدغة لم أستطيع التخلص منها حتى أكتمل الحوار وبالله التوفيق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.