المجلس الأعلى للشباب ينظم ورشة تكوينية حول "الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات الرئاسية"    اجتماع تحضيري لرؤساء فروع البعثة الجزائرية استعدادا لبدء مشاعر الحج    الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية: تسجيل 414 ألف مشروع مؤسسة مصغرة    حمدان: حماس تتعاطى بإيجابية ومسؤولية مع مقترح بايدن ولا نستبعد التوصل إلى اتفاق    عرض فيلم التحريك ثلاثي الأبعاد "الساقية" حول أحداث ساقية سيدي يوسف بالجزائر العاصمة    البرلمان العربي يستنكر محاولة الاحتلال الصهيوني تصنيف وكالة الأونروا "منظمة إرهابية"    تصفيات مونديال 2026 : "الخضر" يباشرون التحضيرات لمواجهتي غينيا و اوغندا    قسنطينة.. 10 جرحى في حادث مرور بالخروب    أزيد من 800 ألف مترشح يجتازون ابتداء من غد الاثنين امتحان شهادة التعليم المتوسط    الديوان الوطني للحج والعمرة: رقمنة خدمات الحج سهّلت الإجراءات على ضيوف الرحمن    تمنراست: جثمان الوزير السابق محمد حميدو يوارى الثرى    الزراعات الاستراتيجية: توفير جميع شروط المرافقة والدعم للإستثمار في الصناعات التحويلية    إطلاق البرنامج الوطني الأول للتكوين في مجال الصيدلة الإشعاعية خلال الدخول الجامعي القادم    لاعبون جزائريون مطلوبون في الميركاتو    قضايا الشعوب تشكل المبدعين وتعيد تكوين مشاعرهم    اتصالات الجزائر تتكيّف    وزير الداخلية يؤكّد القطيعة الجذرية    الرئيس فتح أبواب العمل السياسي أمام الشباب    الدبلوماسية الجزائرية استعادت فعاليتها    الجزائر حققت خطوات عملاقة    مُترشّحون للبيام والباك يطرقون أبواب الرقاة    تحقيق في حريق وادي ميزاب    شهداء الجوع يتزايدون    لا تتبرّكوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب..    غنائم الحرب: الاعتراف الأوروبي الجنايات طرد السفراء المظاهرات...    جامعة جنت .. برافو    خنشلة.. شاهد على الوفاء بالوعود    1,5 مليون هكتار عقار مؤهل للاستصلاح الزراعي في الجنوب    على المجتمع الدولي تحمّل مسؤوليته لوقف إبادة أطفال فلسطين    هذه كيفيات منح امتياز تسيير المناطق الحرّة    تسجيل 133 مشروع مؤسسة ناشئة بجامعة قسنطينة (2)    تزيين المنازل وبحث عن كبش سمين    تحسيس بمخاطر الغرق الجاف    معرض "الوريدة" يستقطب 130 ألف زائر    ولفرهامبتون الإنجليزي يسعى إلى ضم بديل أيت نوري    قندوسي ينتظر قرار مدرب الأهلي المصري    عمورة ضمن أفضل ثلاثة هدافين عرب بأوروبا    الإيداع الفوري للمتلاعبين بنزاهة "البيام" و"الباك"    وصول أزيد من 11300 حاج جزائري إلى مكة المكرمة    دعوة إلى إنشاء مخبر للبحث حول منطقة الونشريس    انطلاق الطبعة 12 لمهرجان "القراءة في احتفال"    رغم العقبات.. ستمطر يوما ما"    هوية وتاريخ بتقنية "البيسكال"    وزير الفلاحة : تحويل نحو450 ألف هكتار إلى ديوان تنمية الزراعة الصناعية بالأراضي الصحراوية    البطولة الوطنية للصم للشطرنج فردي بتيسمسيلت : تتويج كيزرة عطيفة وكلباز محمد    معسكر.. عروض مسرحية للطّفل طيلة جوان    نحو تسجيل "قصر لندن" في قائمة الجرد الإضافي    لإحياء ذكرى وفاته.. معرض للكتب وآخر تشكيلي محاضرة حول " الشيخ الابراهيمي مهندس لفظ وفيلسوف معنى"    محرز يرد بشأن غيابه عن المنتخب الوطني: " لست المذنب"    تمويل التنمية في افريقيا : اديسينا ينوه بمساهمة الجزائر النشطة    غيابات بارزة في تصفيات مونديال 2026.."الخضر" يلتحقون بمركز سيدي موسى    "لكل طفل كل حقوقه" شعار احتفالية اليوم العالمي للطفولة ببومرداس    أرضية رقمية للتكفل بحجّاج الجزائر    248 حاجاً يغادرون بشار    فضل الأضحية وثوابها العظيم    هذا حُكم الاستدانة لشراء الأضحية    جبر الخواطر.. خلق الكرماء    ليشهدوا منافع لهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثية الشمال لمحمد ديب بالعربية
نشر في النصر يوم 09 - 01 - 2012

أنهى الروائي والمترجم محمد ساري ترجمة ثلاثية الشمال لمحمد ديب إلى العربية، ترجمة يمكن وصفها بالحدث الأدبي لعدة اعتبارات، في مقدمتها تأخر ترجمة أعمال هامة لروائي كبير إلى العربية إلى جانب ما يمكن أن تحدثه هذه النصوص من تغيير لصورة نمطية بائسة ارتبطت بمحمد ديب بين قراء العربية في الجزائر والعالم العربي، صورة كاتب ثلاثية الجزائر التي تجاوزها الكاتب منذ بداية ستينيات القرن الماضي، فضلا عن رفعها للسقف الفني أمام الرواية المكتوبة بالعربية.
النصر تحتفي في هذا العدد من كراس الثقافة بالترجمة بنشر ثلاثة مقاطع من الثلاثية، خصنا بها الدكتور محمد ساري إلى جانب مقال عن رحلته مع محمد ديب من الدار الكبيرة إلى التحول الكبير الذي انجب بنات الشمال الفاتنات، وكذا حوار مع المترجم.
كيف اكتشفت روايات محمد ديب؟
محمد ساري
اكتشفت روايات محمد ديب في السنة الأولى ثانوي عبر دروس اللغة الفرنسية. كانت رواية الحريق ضمن برنامج المطالعة مع رواية نجمة لكاتب ياسين وجرمينال لإميل زولا. أتذكر أن أستاذ اللغة الفرنسية ما فتئ يحثنا على قراءة كامل هذه الروايات وعدم الاكتفاء بالمقتطفات المقترحة في المنهج الدراسي الرسمي. كنت آنذاك تلميذا بالقسم الداخلي بثانوية مصطفى فروخي بمليانة، والتي تحوي مكتبة ثرية في جميع أصناف الآداب والعلوم. كانت تقع بالطابق الثالث والأخير، فاصعد إليها في أوقات الراحة، لأكتشف الكنوز المخبأة بها. كنت أسميها: مغارة علي بابا والأربعين كتابا. هناك استعرت، احتراما لتوصيات الأستاذ، الدار الكبيرة. فعشت مع شخصية عمر ساعات رائعة من الأحاسيس الجياشة، بحيث كشف لي المدرسة الاستعمارية التي لا أعرف عنها شيئا. التحقت بالمدرسة بعد سنة من تاريخ الاستقلال، ولا يوجد في مدرستي أبناء المعمرين مثلما كان العهد مع عمر. ولكنني تألمت كثيرا للوضع الاجتماعي المتأزم الذي كانت عائلات دار اسبيطار تعاني منه الأمرين: الفقر والقمع الاستعماري. كما أحببت كثيرا شخصية لالة عيني التي تذكرني بأمهاتنا، لأنني أنا أيضا عشت في حي شعبي تعرف نساؤه تلك العلاقات المتشابكة المتناقضة من المحبة والتضامن تارة والتغاير والتصارع تارة أخرى. كما أحببت شخصية حميد سرّاج الذي رأيت فيه والدي المجاهد وجميع المناضلين الذين ملأوا طفولتي بحكاياتهم عن الثورة التحريرية ومآسيها وأحلامها العظيمة التي تترقرق في عمق عيونهم. للنظام الداخلي بالثانوية فترتان مسائيتان للمراجعة. الفترة الأولى من الخامسة إلى السابعة، أخصّصها للدروس. أمّا الفترة الثانية التي تمتد من الثامنة إلى التاسعة، كنت أنزوي في مقعد خلفي، وأخصّصها للمطالعة. طبعا القانون الداخلي للثانوية لا يسمح بقراءة كتب خارج البرنامج. ولكن من حسن حظي أنّ المراقب كان هو أيضا من هواة المطالعة، فكان يغضّ البصر، بل أصبحنا أصدقاء، نتبادل المعارف حول الأدباء والروايات والأشعار التي قرأناها. وبما أنني كنت قارئا نهما، فكانت تلك الساعة، وطوال السنة، مخصصة للقراءة. فبعد الدر الكبيرة، انكببت على رواية الحريق، وكم بقيت شخصية الكونمدان ماثلة في ذهني ولسنوات عديدة. كما أحببت رحلة عمر وزهور إلى الريف. ورأيت في ذلك السفر أروع رحلة حب بين فتيين تنفتح أمامهما أبواب العواطف الرقيقة النبيلة واكتشاف الطبيعة الريفية في أحلى أثوابها وأروع لحظات انتشائها. إن الربيع في الريف الجزائري من أجمل وأمتع الفصول على الإطلاق. كما تحمست لإضراب العمال الزراعيين ونضالهم من أجل حقوقهم والتخلص من الاستغلال العُبودي الذي كان المعمرون يمارسونه عليهم. وكنْت في سنٍّ تسمح لي بالتواصل الفكري والسياسي مع نضال شخصيات هذه الثلاثية الرائعة، ذلك النضال المستميت ضد القمع الاستعماري، وعلى مستويات عديدة، من الاجتماعي والثقافي والسياسي. تواصلت رحلتي الاستكشافية مع محمد ديب بقراءة رواية «الصيف الإفريقي» ومجموعته القصصية «في المقهي»، ليتضاعف شغفي وتعلقي بهذا الكاتب الواقعي العظيم. ومع قراءة محمد ديب، تدحرجت الروايات الأخرى لمولود فرعون ومالك حدّاد وأسيا جبار ومولود معمري وألبير كامو. وبعد كل هذه الرحلة الممتعة في الروايات الواقعية، أصِبْت بخيبة أمل حينما بدأت قراءة «الركض في الضفة المتوحشة» لأنني لم أفهم الشيء الكثير. أصبحت اللغة أكثر غرابة، والعوالم التجريدية غريبة لم أتمكن حينها من القبض عليها. فتركت الرواية دون إتمام قراءتها. كما قمت بمحاولات لقراءة بعض دواوينه الشعرية، فاستعصى عليّ فهمها لاستغلاق لغتها وصورها البيانية وشخصياتها الرمزية التجريدية. لا أخفي أن خيبتي كانت صاعقة، فاعترفت بعجزي لأستاذي في اللغة الفرنسية الذي كان يعزني كثيرا لأنني وأنا في القسم الرياضي أتفوّق في مادة اللغة الفرنسية وآدابها على جميع الأقسام الأخرى ومنها الأدبية، فكان يتناول ما أكتبه من «تحرير» rédaction فيقرأها على أقسامه جميعا. فطلب مني أن لا أتعب نفسي الآن بقراءة قد تنفرّني من أدبه، وانتظار سنوات قليلة، لأجد متعة لا تضاهيها متعة في الولوج ثانية إلى نصوص محمد ديب. وهذا ما فعلته بالضبط. فعُدت إليه بعد سنوات دون أن أتوقف عن إعادة قراءة كتاب الثلاثية والصيف الإفريقي خاصة. فعدت إلى محمد ديب عن طريق رواية «سطوح أرْسول» و»غفوة حواء» و»ثلوج من رخام» والL'infante maure (الأميرة الموريسكية)، أو ما أصبح يُعرف بثلاثية (أو رباعية) الشمال. فاكتشفت محمد ديب آخر تماما، محمد ديب الشاعر الإنساني المتصوّف الذي يحكي لنا عن شخصيات ذات بعد كوني في لغة شاعرية رقيقة وأحاسيس نبيلة وتواصل بشري يخترق اللغات والأديان والأعراق والجغرافيا. وهو تعبير عن سموه بالإنسان إلى مصاف الأنبياء والحكماء، حيث يحلقون في عوالم ظلت حلم البشرية بأكملها، عوالم خالية من الحروب والضغائن والصدامات، عوالم يملأها الحب والجمال والسخاء، حيث يتجرّد فيها الإنسان من جميع المعيقات التدميرية، سواء منها الذاتية أو الجماعية. كان محمد ديب في هذه المرحلة من حياته الإبداعية كاتبا متصوفا، ذا بعد إنساني، حلمه الكبير تصوير الإنسان في بعده الكوني، ينتقل بسهولة ودون حواجز من صقيع ثلوج الشمال إلى رمضاء صحاري الجنوب.
إلى يومنا هذا، ما زلت أحنّ إلى كتابات ديب الأولى، فأتناولها بين الآونة والأخرى، وأغرق في لغتها السلسة برفقة شخصيات أعتبرها جزءًا من حياتي، لأنّها عاشت معي وآنستني ذات سنة في مدينة جئتها غريبا طالبا للعلم، فاحتضنتني وملأت الفراغ الذي تركه الانفصال عن عائلتي ومسقط رأسي. فكانت روايات محمد ديب من الحوافز الراسخة التي نمّت موهبتي وصقلت قلمي ليخطّ أولى الأشعار وأولى النصوص السردية.
ثلاثة مقاطع من الثلاثية
ترجمة محمد ساري
سطوح أٌرْسول
ها قد رجعتُ. لم أنتظر طويلا لأعود إلى الفندق، لم أطالب بشيء. على كل حال، لم أعرف ما أفعله غير هذا، ولم تخطر ببالي فكرة ما. فأطرح على نفسي السؤال وأُعيد طرحَه: ماذا حدَث؟ ما الذي حدث كي يستوجِب القصّ، ويمكن قوله؟ في المحصلة لا شيء؛ ربّما كان سؤالا إضافيا أشوّش به ذهني؟ أشوّش به ذهني فقط، من أجل لا شيء. يا للمهزلة ! سوف لن أبقى جالسا هكذا، وأطرح على نفسي السؤال تلو الآخر. سيتّضح لي الأمر، ولكن ليس الآن، سأعرف إنْ كنْت على شفا حفرة من الجنون، ومعي الكون أيضا، أو أنها المدينة، أعرف أن ذاكرتي ستنفتح بعد قليل، وسيعود إليّ صفائي. ولكن ليس الآن. في هذه اللحظة، أنا بحاجة إلى الهدوء. هذا ما أنا بحاجة إليه. أن أتجاوز هيجاني يمشي على ضفة دياجير الكون لأن النور رمى بلحمه في النار، إنّه لعنته ولعنة أيامه، فأبعَد عينيه عن كل الأشياء التي ينيرها كي تتّضح رؤيتي، كي أحدّد لنفسي خط سير، أقرّر شيئا. يا للمهزلة، لم أتلقَ في حياتي صدمة مماثلة. إنّي مُسترخٍ على أريكتي، أحاول اسْترجاع هدوئي، وسأسترجعه، أو على الأقل أحاول، أفكر. أقول إنّني أحاول، أفكّر: سينتهي بي المطاف إلى إيجاد تَفسير لكل هذه البلبلة؛ بطريقة أو بأخرى، أنا بحاجة إلى تفسير.
أقول: «أنا بحاجة إلى تفسير...» في اللحظة نفسها، أنسى حاجتي، ولا أعرف ما قلته؛ حينئذ، أقول: «الهدوء. الهدوء.»
بعد ثلاث ساعات، أجد نفسي لا أزال أكرّر: «الهدوء. الهدوء.»
أية ليلة هذه الليلة التي قضَيت ! عاجّة بالضوضاء، بالصخب، برقصات الوحوش، ولم أبحث عنها بعيدا هذه الوحوش، في الشوارع القريبة فقط. كانت تتلوّن، تتحرك، تسقط على ركابها، فتتحوّل تمارينها إلى رقصات توسّل، ثمّ تتغيّر مباشرة إلى سباق جنوني، سباق كنت أنا فيه الصيّاد، قبل أن أتفطّن أنني أصبحت الطريدة. وقد تواصل هذياني هذا الصباح؛ كنت جالسا في الأريكة نفسها، تائها في الاحتمالات، مع أنّي لم أحتفظ ولا بواحد. وهذا الاسم الغريب في رأسي: الهرْج والمرْج ! ربّما يوجد ما هو أفضل من هذا: الخروج وزيارة المدينة، تستحق أن نتعب من أجلها ولو قليلا. هكذا أظن. ولكن هل يَسمَح الهياجُ الذي أنا فيه وحالتي النفسية المنهارة بالاختلاط بالناس، مع كل هذا الازدحام؟ لا، من الأفضل استعادة الأشياء منذ البداية ومباشرتها بالترتيب: سؤال يتطلّب إجابة شيء يريده بعناد ولو مقابل هموم ومصائب لا حد لها؛ شيء أدرك فحواه أخيرا، وعليه أن يضحي بالنفس والنفيس، أن يترك كل ما بيديه، ويغادر حقل حقيقته الخاصة، أن يتحمّل الثقل، وأن يكابد عذاب ذلك الذي أصبح ضحية له، وينغّص أيامه، تلك الحقيقة التي أصبح مهووسا بها، تلك الحقيقة التي سُلِبت منه قبل أي شيء آخر: هل رأيت فعلا ما رأيته أم لا؟
أنّي رأيت، أمر لا ريب فيه: لقد عُرضَت تلك البشاعة، أو أيّ اسم آخر تستحقه، على عينيّ بشكل كاف كي أزعم أنّي رأيت فعلا، وأصرخ فوق السطوح، أصرخ إلى حدّ إصْمام العالم. أربع وعشرون ساعة، نعم أربع وعشرون ساعة مرّت وأنا ما زلت مهزوزا، مريضا. مَن أكون بالضبط: آه، من أكون بالضبط ! أنتَظر أنْ يُخبرَني به أحد، أنْ يُعلِمَني به أحد. أعترف، لقد ابتعدت نوعا ما وبسرعة عن ذلك المكان، لقد تنازلت بسرعة، ليس لحركة هلع، وإنّما لرفض قبول معقولية مشهد، فابتلعْت بشاعتَه بلا حراك وبلا قناعة. يا له من مكان ملعون ! ملعون ألف مرّة وإنْ بقي واحد في الكون ! إنّ الذكرى التي أحتفظ بها شبيهة بهذه الليلة: غامضة بشناعة، محتفظة بكل أنواع التهديدات، بوحوش مستعدة للانقضاض على وجهك. نعم على وجهك، من تلك الهزائم التي تجعلك تتراجع هاربا، ولا تشرّف الإنسان، كما لا تشرّف قوة طباعه، وصلابته، ولا قدرته على التخلّص من ورطة بكيفية مشرّفة.
حان الوقت لأستعيد رباطة جأشي. سأعود إلى تلك الأماكن. تلك الأماكن نفسها، لا يمكنني البقاء دون التأكد من وجودها مرة أخرى، شيء في غير محلّه، ومع ذلك يسمح لنفسه بأن يكون دنيئا. يا له من اسم حقير، لا توجد أشياء أمقتها كما أمقت هذا النوع من الأسرار. ومع ذلك تسمح لنفسها بأن تكون دنيئة بشكل مُخجل. سأسترشد بالمعالم، عمارات وأكشاك جرائد وأضواء الواجهات والنصب التذكارية وملصقات السينما؛ وأشياء أخرى قد لا أدركها الآن، جميع تلك الأشياء التي تكون قد جلبت انتباهي في هذه المدينة الجديدة عليّ والمجهولة تماما لديّ، ثمّ سنرى: مِن المدهش أنْ لا أعثر على طريقي بعد كل هذا، الطريق الذي أوصلني إلى غاية هنا.
إنّ الوضع أبشع مما كنت أتصوّر، قذارة بطمّها وطميمها، لقد عُدت منه للتوّ. من الأمور المستحيلة. من جديد، أغلقت على نفسي في الفندق، وليس لديّ خيار أفضل. في الذهاب، توجّهت مباشرة نحو المحيط، في أقصى استقامة ممكنة، لأنني تخلّيت عن فكرتي الأولى، المتمثلة في الاسترشاد بذاكرتي، مُقتنعا بأنّ معالمها ستتجلى لي لا محالة، ولكنّي لم أرتكب هذه الحماقة. دفعني إلهامُ آخِر دقيقة إلى الاعتماد على أفضل مرصَد ممكن: فندقي؛ إنه جاثم على مرتفعات جرفير. من شرفتي، تُقدَّم لي المدينة كما على طبق. يا لها من نظرة ! رأيت طريقي مُسطّرا قبل حتى أن أضع قدميّ خارج الفندق. فبادَرت مباشرة إلى الدخول وسط شبكة شوارع المخطط الأول، المنتشية بالحركة، والالتحاق بالأحياء السفلية بأزقتها الرمادية، الملتوية: يستحيل تجنّب عقدة الثعابين الخشنة تلك، ومع ذلك يجب سلكها. فلم أتردّد، ولكن هنا يصبح عدم الانحراف عن الطريق مخاطرة أكيدة. خطر آخر للمواجهة. كنت متأكدا أنّي في الوجهة الصحيحة.
غفوة حواء
لقد خيّم الليل. أنا هي: فايْنَة. إنّني معك يا صٌلْح، في انشغالاتك، في همومك، وراحتك وأحلامك... وأغصان الزَيْزَفون. الزيزفون الذي ينتصب أمام نافذتك في كليرفال. وقد حدّثتَني عنه مرارا. أنا المسماة فايْنَة. لقد سكتْت، ولكن صوتي لا، غير مهم، الصوت الذي يقول أنا ويواصل الكلام. الصوت الذي يستَفهم ولا يتحادَث إلا مع ذاته. كلام يتحدّث وحده مُخاطبا إياها حيث تكون. أهمل رأسي فوق ركبتيك، وأتعلّم وجهك بأصابعي. هل تبحث عني من جانبك؟ إنّي هنا، بداخل توازن سماجات الأعمال المنزلية الصغيرة. شقّة والديّ، ليس إلا. كل شي عملي، بالنسبة إليهم. الأيقونة المغلّفة بالسلّوفان كي لا تتّسخ، وفي المطبخ عشرة قفّازات من مختلف المظاهر والأعمار، لأنه من السهولة بمكان صنع واحدة بمجرّد استعادة قطعة قماش، وجبال من العلب الفارغة، وورق التغليف. وماذا أيضا؟ لا شيء يُرمى. ولكن الغريب في الأمر أن لا شيء يُشتَرى أيضا. إنه تكويم لهبات الأصدقاء، سقط متاع جلبته وفاة أقرباء. لماذا أُعِدّ لَك جَميع هذه الأشياء؟ ربّما لأن لهذه الأشياء سلطة حماية شبه سحرية عليّ. لا ألاحظ مظاهرها. أكلّمها كما تفعل أنت مع زيزفونك، وهي تكلّمني. كلام يتحدّث وحده حيث يكون.
أنا مُتعَبَة.
إلى الغَد.
يوم جديد منذ وصولي إلى «بوهجان»، وكم من ذهاب وإياب للأصدقاء، للأقارب ! خالتي، ابن خالي، معرفة عائلية قديمة، الخياطة. هكذا يُحْتَفى بعودتي. زيادة إلى مُهاتفة «تولي». ثرثرت طوال ساعة كاملة. وقت أحبك فيه صُدَيْرية.
إنّ هذا الفراق يؤلم قليلا في البداية. قمت بزيارة صديقتي «مايجا لينا» مساء أمس. ضمُرَت بعشرة كيلوغرامات، ولكنها لا تزال في صحة جيّدة، بل واستعادت ثقتها بنفسها قليلا. قالت بأنّ البحث الدائم عن رجل شيء محزن، خاصة إذا عرفنا أن حظوظ الخطأ أكبر بكثير من حظوظ إيجاد صديق حقيقي. ينتهي بنا الأمر إلى إيجاد العزاء في كمية الطوابع التي يضعها فوق بطاقته شبه الفارغة بعد ذهابه: (Just greeting from... Yours : X.)
الجوّ جميل. درجات قليلة تحت الصفر وشمس ساطعة. ولكن لا أثر للثلج. بعد لحظات، سنذهب، أمّي وأنا، للقيام بجولة في المقبرة.
ها أنا معك من جديد، يا صُلْح. الجوّ بارد اليوم نوعا ما. حينما خرجت قبل قليل، كانت هناك عاصفة صغيرة.
مشيت طوال تلك الشوارع المجاورة لفندق أكاديمكا والتي تعرفها جيدا. لا تزال دائما مكْفَهرة ومغبّرة. يتحوّل الثلج المتساقط إلى غبار أبيض ويواصل رقصته على الإسفلت. الزاوية الأكثر عرضة للريح: - محل الرخامي، هل تتذكّره؟ كانت الساعة الثامنة مساءً، مع قليل من الناس في الخارج. إحساس بمدينة أفرغَت من سكانها.
بالأمس، بدت لي المقبرة حيث رافقت أمّي فارغة تماما. وصغيرة أيضا بشكل مثير للسخرية. ربّما لأننا نستطيع الرؤية من طرف لآخر، عبر ممرات أشجار البتولا الخالية من الأوراق.
كل شيء يجرحني في محيطي ولا أعرف السبب. طول الانتظار؟ ربّما. أم غيابك. أم تغيير الإقامة بمجرّد الشعور بالألفة في واحدة.
كما حساسية الروح التي لا تخفّف عنها الكتب ولا الأحاديث. أنا بحاجة إلى صبر أكثر ورسالة منك. بعد ذلك، سأجد نفسي في حالة أحسن.
أقبلك في طرف قدميك، حيث أنت في نوم المياه السوداء الذي أنت فيه. لا أريد إيقاظك، أجلس إلى جانب سريرك وأبقى ساهرة عليك بكل حناني.
رغبت في رؤية صوره ثانية. حنين مرعب. ولكنّي أعرفها أكثر من اللازم، فلا داعي. على كل حال، أعثر على يديه من جديد بالإمعان في يديّ، وعلى قدميه حينما أتفرّج على قدميّ. إنّه بداخلي، قريب جدا حتى أتمكن من النظر إليه – وفي الوقت نفسه أراه. إنّي ممتلئة، إنّي مغطاة بصُلح.
بي رغبة رهيبة للنعاس، رغبة ليلة حيث أحب ضم صلح إلى صدري.
هذا الصباح، قمت بزيارة إلى عيادة الولادة. تلك التي سألد فيها. وبما أنها تقع في وسط الريف، رأيت لأوّل مرّة ثلجا سليما هذا الشتاء.
لا تتصوّر يا صلح تلك السكينة التي تغمرنا في هذه الكثافة المبطّنة. بدءًا تجعلك أصمّ. إنّ الضوضاء القليلة التي تصل إلى أذنيك ليس لها منابع واضحة المعالم، ولا تعرف إنْ كان المتزلّج يمر قريبا منك أم بعيدا، إن كانت الطيور المحلقة توجد خلفك أم أمامك. ويبقى صرير الأحذية الخشنة التي تغوص في الزغب الليّن الصوت الوحيد الذي يسهل التعرف عليه.
أفكارك تقترب منك، تلتصق بك، ولست بحاجة إلى الكلام. إلى أن تتكلّم بصوت مرتفع. ولكنك تتكلّم. يوجد كل شيء ملفوفا في هذه الكتلة البيضاء المتلألئة. لا يوجد إلاك، تتحرّك وتتكلّم.
وهناك الرائحة. يكون البرد القارص والقاطع مشرّبا بعطر خفيف من الصنوبر المَصْقوع والأزوت المحلق. يمنحك النور الذي ينفذ إلى أعماقك رغبة في شرب نقاوته، كما الأطفال حينما يأكلون الثلج. لا يأكلونه لأنهم يشعرون بالعطش أو الجوع، ولكن لأنه نقي ولامع وعصي المقاومة.
إذا حدث أنْ وضعت حدا لحياتي، سيكون في مثل هذا اليوم، بداخل غابة يغطيها الثلج الساطع. سأذهب لأمْنَح نفسي للثلج، سأتركه يغطيني. ربّما كانت مسألة رائحة. أُفضِّل نقاوته على رائحة الهواء والماء والتراب.
ربّما أردت أنْ أَقول شَيئا آخر يا صُلح، ولكنّي قلت هذا الكلام.
ثلوج من رخام
من الأفضل أنْ أتوجّه إليكِ مباشرة، لييلتي، بسبب الأشياء الكثيرة التي أودّ أنْ أبوحها لكِ، ولكن ليس الآن: ربّما ذات يوم. ما تعلّق بالجُزُر، نعم، وزيادة. بجَزيرة بعينها. يجب أنْ تَسمعي هذا. ولكنّك ستسألين لماذا كل هذا الدوران وهذا التريّث؛ فيما بعد؛ ستفهمين فيما بعد. أتمنّى ذلك. مثلما يحدث لي أنْ أفهم الحكايات، لمْ تٌروَ لي وإنّما قيلت أمامي منذ سنوات عديدة، منذ قرون، عندما كنت في سنّكِ. نسيتها طوال هذا الوقت، تلك الحكايات، ما عدا واحدة، تنبثق بلا سبب ظاهر في لحظة أو في أخرى داخل رأسي وفجأة أمسك بالخيط، أرى المعنى، الذي لم يكن ليَهُمّني في ذلك العهد، ليس بعد، ربّما مثل هذه الحكاية التي ستسمعين والتي لم توجَد لتجلب اهتمامك. ولكنّني أفترض أنك ستحتفظين بها خلف الأذن. إنها نفس الحكاية إذا ذكّرَت نفسَها إليك ذات يوم، والتي ستعلّمك أشياء حول أبيك. سوف لن أكون في ذلك الوقت، ولكن هذا غير مهم. اسمَعي وبالأخص كوني بلا خوف: هذا ليس اعترافا، إنّها حكاية، زيادة على أنها غريبة الأطوار.
تخيّلي صيفا باهرا، مثل هذا الصيف تماما، لا يعرف سرّه إلا بلدك. تخيّلينا متراكمين داخل مركبة فيما توشك الظهيرة على نهايتها: أنا، أمّكِ – أمّكِ افتراضا، استباقا للزمان، لم تكوني قد ولدت بعد- ومعنا شاعر اسمه طاليلو، وشاعر آخر، أظن، لست متأكّدا جيدا، موسيقار يشدّ إليه قيثارته أكثر مما يشدّ زوجته، الطويلة القامة، سمراء وجميلة، وهو شيء نادر في هذه الأقاليم. خلاصة القول: كانت تسافر معنا أيضا امرأة تشتغل في الإذاعة. إنّ الشخصية الأكثر أهميةً في جماعتنا هي هذه المرأة الأخيرة. بالفعل، كنّا نبحر على مياه زرقاء اللون، لطيفة، ترتجف بخفة، أكاد أقول عاشقة، من أجل هدف واحد، الذهاب عندها، بعد أن قامت بدعوتنا منذ عدّة أيام. إنّها فنلندية شكلا ومظهرا. وكانت شابة أيضا. وسيّدة جزيرة، الجزيرة التي سنكتشفها بعد لحظات، تلك اللحظات العظيمة. تصوّري أنّني كنت أجهل ذلك. تملك جزيرة كاملة لها وحدها ! هل تدركين هذه الروعة؟ أما زوجها الذي يشتغل معها في الإذاعة فسيصل بعد ساعتين في باخرته الخاصة. لم تكوني قد ولدت بعد، لم نكن لنتركك وحدك ونذهب للاحتفال. ماذا يمكن أن نفعل في جزيرة غير الاحتفال؟ ولا أنكر أننا أخذنا معنا بضعة قنينات خصِّيصا من أجل هذا.
لم تكن لديّ ساعة. لذلك لا دراية لي بالوقت الذي دام فيه عبورنا ! لنقل تعليقنا بين سماءَين، بين روحين نورانيين. وقد وصلنا، ونزلنا على رصيف صغير، فاستعدنا استعمال سيقاننا وكامل أعضاء أجسادنا، ولاحظنا، في اندهاش وحيرة، أنها لا تزال تشتغل، آهٍ بنيّتي، يا لها من صعقة قلب. كانت رؤية تلك الجزيرة ابتهاجا يسخر من اندهاشي الأول، ولكن اندهاشي تضاعف بوفرة تلك الأزهار البرّية، أكثر مما نأمل. سواء وجّهتَ نظرك إلى اليمين أو إلى الشمال، أو إلى أيّ اتجاه آخر، يقابلك شلال من الألوان الزاهية. وتلك البرودة المنعشة التي يسبح داخلها كل هذا الجمال الفتّان. يجرفك هذا الجمال بأريحيته وشفافيته العطرة. الأشجار أيضا لا تنقص برغم قلّتها، تائهة في هذا الفيض. أشجار صنوبر مثلما أتصوّرها، جاثمة فوق الصخور والمنحدرات. ومع ذلك لا يمكن لهذه الكلمات أن تصف تلك الروعة التي غمرتني في ذلك اليوم، بُنيّتي. يمكن لي أن أواصل الوصف إلى ما لانهاية، ولكن كيف لي أن أجعلك تشعرين بما أحسَستُ من سعادة إزاء تلك المناظر، وذلك الابتهاج، والاعتراف، والسكينة، وأن ينتقل كل هذا إليكِ: كيف أقدر على ذلك؟ يخنقني البكاء، كما لو أنّه لم تمر سنوات كثيرة منذ تلك الظهيرة الفاتنة. والتخوّف أيضا. يوجد شعور من هذا القبيل أيضا. دعَوت كي لا يكون كل هذا حلما سأستيقظ منه بعد قليل. ولكن الجزيرة موجودة فعلا، وبما أنها توجَد، أتمنى أن يسعفك الحظ بزيارتها يوما. ستتذكّرها أمّك، وربّما ستحدّثك عنها، ستسمِّيه لكِ إنْ كان لها اسم. إنْ رضيَت أنْ تكلمك عنها، أنْ تسمّيها لكِ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.