هجرة غير نظامية: مراد يشارك بروما في اجتماع رفيع المستوى يضم الجزائر، إيطاليا، تونس وليبيا    لعقاب : الانتهاء من إعداد النصوص التطبيقية المنظمة لقطاع الاتصال    أكثر من مليون ونصف مترشح لامتحاني شهادة البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط دورة يونيو 2024    الجزائر/موريتانيا : افتتاح الطبعة السادسة لمعرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط بمشاركة 183 عارضا    الجزائر تؤكد من نيويورك أن الوقت قد حان لرفع الظلم التاريخي المسلط على الشعب الفلسطيني    لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي ويكشف: نحو تنظيم دورات تكوينية لصحفيي الأقسام الثقافية    "تحيا فلسطينا": كتاب جديد للتضامن مع الشعب الفلسطيني    سليمان حاشي : ابراز الجهود المبذولة لتسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    دراجات/الجائزة الكبرى لمدينة وهران 2024: الدراج أيوب صحيري يفوز بالمرحلة الأولى    وفاة 8 أشخاص تسمما بغاز أحادي أكسيد الكربون خلال شهر أبريل الماضي    وزير الصحة يشرف على افتتاح يوم علمي حول "تاريخ الطب الشرعي الجزائري"    قسنطينة..صالون دولي للسيارات والابتكار من 23 إلى 26 مايو    مجمع الحليب "جيبلي": توقيع اتفاقية اطار مع وكالة "عدل"    اجتماع الحكومة: الاستماع الى عرض حول إعادة تثمين معاشات ومنح التقاعد    الفنانة حسنة البشارية أيقونة موسيقى الديوان    التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة يوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    اليوم العالمي لحرية الصحافة: المشهد الإعلامي الوطني يواكب مسار بناء الجزائر الجديدة    معادن نادرة: نتائج البحث عن الليثيوم بتمنراست و إن قزام ايجابية    السيد عطاف يجري بكوبنهاغن لقاءات ثنائية مع عدد من نظرائه    معرض الجزائر الدولي ال55: نحو 300 مؤسسة سجلت عبر المنصة الرقمية الى غاية اليوم    حوادث المرور: وفاة 62 شخصا وإصابة 251 آخرين خلال أسبوع    رالي اكتشاف الجزائر- 2024 : مشاركة 35 سائقا اجنبيا وعدد معتبر من الجزائريين    اليوم العالمي لحرية الصحافة: الصحفيون الفلسطينيون قدموا مئات الشهداء وهزموا رواية الاحتلال الصهيوني الكاذبة    فلسطين: ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة إلى 34 ألفا و 596 شهيدا    منظمة العمل العربية: العدوان الصهيوني دمر ما بناه عمال غزة على مر السنين    المصلحة الجهوية لمكافحة الجريمة المنظمة بقسنطينة: استرجاع أزيد من 543 مليار سنتيم من عائدات تبييض الأموال    في انتظار التألق مع سيدات الخضر في الكان: بوساحة أفضل لاعبة بالدوري السعودي الممتاز    رئيس الجمهورية يحظى بلقب "النقابي الأول"    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    بخصوص شكوى الفاف    تدعيم الولايات الجديدة بكل الإمكانيات    بداية موفّقة للعناصر الوطنية    العلاقات بين البلدين جيدة ونأمل في تطوير السياحة الدينية مع الجزائر    انبهار بجمال قسنطينة ورغبة في تطوير المبادلات    الجزائر في القلب ومشاركتنا لإبراز الموروث الثقافي الفلسطيني    اجتياح رفح سيكون مأساة تفوق الوصف    إطلاق أول عملية لاستزراع السمك هذا الأسبوع    تكوين 500 حامل مشروع بيئي في 2024    حملة وطنية للوقاية من أخطار موسم الاصطياف    البطولة الإفريقية موعد لقطع تأشيرات جديدة لأولمبياد باريس    المجلس الشّعبي الوطني يشارك في الاجتماع الموسّع    الجزائريون يواصلون مقاطعة المنتجات الممولة للكيان الصهيوني    أوغندا تُجري تجارب على ملعبها قبل استضافة "الخضر"    بولبينة يثني على السعي لاسترجاع تراثنا المادي المنهوب    دعم الإبداع السينمائي والتحفيز على التكوين    تتويج إسباني فلسطيني وإيطالي في الدورة الرابعة    روما يخطط لبيع عوار للإفلات من عقوبات "اليويفا"    دعوة للتبرع بملابس سليمة وصالحة للاستعمال    263 مليون دينار لدعم القطاع بالولاية    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    خنشلة: الوالي محيوت يشرف على إحياء اليوم العالمي للشغل    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحياة الثانية ليمينة مشاكرة
نشر في النصر يوم 20 - 05 - 2013

رحلت الروائية يمينة مشاكرة أمس الأول عن 64 عاما تاركة روايتين: المغارة المتفجرة و آريس
طفلة مسكيانة التي درست الطب وتخصصت في الأمراض العصبية، اختفت مبكرا من الساحة الأدبية تحت تأثير مرض كثيرا ما ساعدت الناس على تجاوزه، في هذا العدد من كراس الثقافة نحاول استعادة الكاتبة عبر كتاب اهتموا بكتابتها و حاولوا الاقتراب منها ودراستها. كما نترجم المقدمة الشهيرة التي قدم بها كاتب ياسين رواية المغارة المتفجرة، وننتزع شهادة من ابن أخ الفقيدة الذي ينتمي بدوره إلى السلالات الكاتبة .
هذا الكراس هدية لروحها واحتفاء بحياتها الباقية.
ابن أخ الكاتبة شوقي مشاكرة يتذكر
كانت تعالج مرضاها بالمجان وجدي غضب يوم زارها كاتب ياسين في البيت
كشف ابن الأخ الأكبر للأديبة مشاكرة زميلنا الصحفي شوقي مشاكرة مدير جريدة " Le provincial " للنصر أن الفقيدة تركت ثلاثة أعمال أدبية مخطوطة قبل وفاتها و أن وزارة الثقافة وعدت بنشر إحداها و هو رواية سيرة ذاتية للكاتبة الطبيبة النفسانية.
وقال الإعلامي الصحفي شوقي مشاكرة أن عمته يمينة مشاكرة تركت لديه ذكريات لا تنسى من طبيعة شخصيتها و بساطتها و تواضعها، و تذكر في دردشة مع النصر مساء أمس و هو ينتظر طائرة العودة إلى عنابة بأن الطبيبة الأديبة الباحثة يمينة مشاكرة كانت تميل الى الحديث و الجلوس مع الصغار و لا تجد ما تتقاسمه مع الكبار و قال كانت تجلسنا في فناء المنزل الريفي الكبير " الحوش" عندما نذهب في أيام العطل المدرسية إلى دار جدي و تطلب منا نحن الصغار أداء أنشودة "هذي دبزة زوفرية" التي قال شوقي انه حفظها و عمره سبع سنوات بفضل عمته التي توفيت أمس الأول بالعاصمة.
البنت الرابعة لعائلة بلقاسم ترعرعت في منزل ريفي بسيط كان على محطة لعلاج المصابين من ثوار حرب التحرير الوطنية و قد رأت الصغيرة يمينة بعينيها إصابات و جروح و معاناة المجاهدين، مما جعلها تكسب شخصية إنطوائية و ترفض الحديث بسبب ما شاهدته من عنف في تلك الفترة و قد زادت صدمتها عندما دخلت المدرسة بمسكيانة و رأت ما يعرضه الجيش الاستعماري الفرنسي من جثث تم التنكيل بها للثوار الذي يلقي عليهم القبض.
كانت الكتابة وسيلة التعبير المناسبة التي قامت من خلالها يمينة مشاكرة بالتعبير عما يدور في نفسها من خواطر و قد بدأتها في سن الخامسة عشرة على مقاعد ثانوية الحرية التي دخلتها.
يتذكر شوقي أن جده كان حريصا على تعليم أبنائه و بناته جميعهم و قد واجه في ذلك صعوبات ومتاعب منها أنه كان يضطر إلى تأجير سيارة كل بداية أسبوع تقف أمام بيته في مسكيانة على الساعة الخامسة صباحا و يرافق الجد بلقاسم بناته الأربع و من بينهم يمينة إلى قسنطينة بعدما يكون قد ادار اتجاه المرآة العاكسة كي لا ينظر السائق إلى وجوههن.
من الحوادث الطريفة التي حدثت في مسكيانة في السنوات الأولى للإستقلال و شهدها زميلنا شوقي زيارة قام بها الأديب العالمي الكبير كاتب ياسين رفقة زوجته و ابنه إلى بيت يمينة مشاكرة. حين وصل كاتب ياسين في سيارة بيجو 204 إلى مدخل مدينة مسكيانة و جد العربات التي تجرها الأحصنة لنقل المسافرين فركب واحدة منها مع زوجته و قصد منزل عائلة مشاكرة، هنا ثارت ثائرة والد الأديبة الراحلة و أقام الدنيا غضبا من قدوم إمرأة عارية في عربة "كابريولا" لتقف أمام منزله.
يتذكر شوقي قائلا كانت علاقات بقية أفراد العائلة بالكاتبة و الطبيبة عادية و قد كان جميع أبناء بلقاسم متعلمين ووالد زميلنا كان الأكبر و قد بدأ التدريس في سنة 1957، لذلك لم تكن مسالة تعلم و سفر يمينة مشكلة، بل بالعكس كانت مصدر فخر لأنها حاولت في السنوات الأولى من تخرجها طبيبة من جامعة الجزائر قد عمدت إلى فتح عيادة ببلدة الضلعة الريفية القريبة من مسكيانة و كانت تعالج المرضى ب 50 دينارا و لكنها لا تعود للبيت و قد عالجت أكثر من اربعين مريضا سوى بمئة دينار هي أجرة السيارة التي تعيدها إلى مسكيانة فقد كانت تنفق كل ما تكسبه على الفقراء و المحتاجين و تساعد مرضاها بشراء الأدوية لهم.
كانت أيضا في تلك الفترة قد ذهبت الى تمنراست كطبيبة متطوعة من تلقاء نفسها لكن محافظ حزب جبهة التحرير الوطني وقتها في عاصمة الهوقار أساء معاملتها ففرت من بطشه عائدة الى العاصمة و تطوعت لعلاج منكوبي زلزال الأصنام.
كانت مرتبطة كثيرا بشخصيتين من عالم الفن و الأدب هما كاتب ياسين و محمد اسياخم، كما عملت مع محمد بوسبسي الذي كان اغتياله من طرف الجماعات الإرهابية منتصف التسعينات صدمة كبيرة عليها.
قامت يمينة مشاكرة منتصف الثمانينات بإجراء دراسة و بحث في علم النفس لكن أحد المستشفيات الفرنسية رفضها و بعد ثلاث سنوات اتصلت بها سفارة اليابان في الجزائر و أخبرتها أن باحثين يابانيين توصلوا إلى نفس النتائج التي حققتها قبل 3 سنوات و سألوها إن كانت ترغب في العمل مع فريق البحث الياباني، لكنها كانت قد تركت الأمر و انصرفت الى العناية بشؤونها الصحية و قد تزايدت إنطوائيتها.
كانت تمتلك موهبة كبيرة في سرد الحكايات و يتذكر ابن أخيها الأكبر أنها كانت تجمعهم صغارا و تسرد على مسامعهم قصص و حكايات الأولين عن الغول و ابن السلطان و غيرها من الحكايات الشعبية التي كانت الأمهات و الجدات قبل عصر التلفزيون يرددنها للصغار قبل خلودهم للنوم. حاوره: عمر شابي
سعيد خطيبي
أن تقرأ يمينة مشاكرة اليوم
يمينة مشاكرة ولدت مرتين، عام 1949، ثم 1979 يوم أصدرت «المغارة المتفجرة»، وتوفيت مرتين أيضا، يوم سقطت من الذاكرة الأدبية سهوا، ويوم توقف قلبها عن الخفقان والتشبث بالأمل. بين تاريخي الميلاد وتاريخي الوفاة، عاشت حياة روتين وصخب على هامش شاسع يكفيها ويكفي وحدتها، وبعدما قضت شبابها متنقلة بين قرى ومداشر شرق البلاد وغربها كمعالجة نفسانية، وجدت نفسها في الأخير رهينة عيادة نفسانية، تدافع فيها عن حقها في البقاء والبوح والمطالعة والصراخ في وجه العالم، وكانت كلما كتبت نصا ضاعت منها أوراقها، لتعيد الكتابة مجددا وتضيع منها الأوراق مرة أخرى، كما لو أنها كانت مستمتعة بلعبة «الفقد والاستعادة.. الكتابة والمحو»، ولما أصدرت روايتها الثانية والأخيرة «آريس» قالت إنها لم تنشر سوى عشر النص الحقيقي للرواية نفسها.
ربيع 2010 فكرت في البحث عنها مجددا، ومحاورتها، أو على الاقل، أخذ بعض التصريحات منها.. لم يكن الامر سهلا، تنقلت من الجزائر العاصمة إلى باتنة، ومن هناك الى البليدة، وانتظرت أسبوعا كاملا ردا من أحد الأطباء.. لم يكن إيجابيا.. التقيت بعدها بشقيقتها الصغرى بالأبيار، بالجزائر العاصمة، زرتها أكثر مرة في مكتبها الصغير، وتحدثنا عن وضع يمينة الصحي، علاقتها المتواصلة بالكتابة، وعن اعتذارها عن التحدث في الاعلام، قناعة منها أنها قالت كل ما لديها في روايتين(يفصل بينهما عقدين كاملين). هي قناعة روائية ملتزمة بأن تقرأ و أن يسمع صوتها في نصها لا خارجه، نصها سيرتها وحاضرها وماضيها.. و لا تكاد تذكر يمينة مشاكرة دونما العودة إلى نصها الأهم، أحد النصوص الاساسية في الرواية الجزائرية ما بعد 62: «المغارة المتفجرة»، رواية شعرية، إنسانية، تقرأ كما لو أنها قصيدة نثر مطولة، قدمت فيها خلاصة التجريب في الرواية المغاربية إجمالا، واستحدثت لنفسها صوتا مغايرا يميزها عن البقية، صوتا سيظل مرتبطا باسمها، وبروايات مشابهة جاءت من بعدها. هو الشكل الصادم في المغارة المتفجرة ما منح الرواية نفسها خصوصية، ثم فترة ظهورها، في مرحلة كانت فيها الرواية الجزائرية عموما تعيش داخل الانتماء والتعصب للجماعة وللأيديولوجية، وجاءت مشاكرة لتخفف من سطوة «السياسي» على «الإبداعي»، وتمنح النص حقا في التعبير عن نفسه بنفسه وليس من خلف نافذة الأحكام المسبقة، وتجريم ما مضى أو التفاؤل بما سيأتي..
فضل «المغارة المتفجرة» على جيل السبعينيات لا يقل شأنا عن فضل «نجمة» على جيل الخمسينيات، فتخليص الأدب من تراكمات الفوضى الخارجية كانت نقطة جامعة بين الروايتين، وبين مشاكرة وياسين يظهر تناسق في تعريف الأدب باعتباره مخلصا ومحفزا على العيش، مخفف للألم ودليلا لإعادة اكتشاف الذات، وبينهما وقف الشعر لغة شاملة، صلة تربطهما بالعالم، فلولا الشعر لما وصل كل من يمينة مشاكرة وكاتب ياسين إلى الرواية، وضرورة العودة إلى إرثهما الأدبي هي أهم وصية يتركانها، أن نعيد قراءة يمينة مشاكرة اليوم يعني أن نعيد للرواية الجزائرية معناها الحقيقي، أن نعيد الأدب إلى مكانه، وأن نحرره من التكلف والمغالاة.
لميس سعيدي
يمينة مشاكرة تلقي نظرتها الأخيرة على محبيها
لا أدري، أية مصادفة جعلت يمينة مشاكرة تتوقف عند المسرح، و هي تلقي النظرة الأخيرة على قرائها و محبيها و أرحامها الكثيرة، التي زرعت فيها، بذرة الشِعر، بذرة الحياة.
منذ شهرين و بمناسبة اليوم العالمي للشِعر، حين قرّر فضاء صدى الأقلام بالمسرح الوطني الجزائري، الاحتفاء بالشِعر، حياة و كتابة و تشظيا انسانيا عميقا في خلايا الكون، لم يجد جملة شِعرية أبلغ من يمينة مشاكرة....يمينة مشاكرة الشاعرة، ليس لأنها كتبت فحسب، بل لأنها تناولت الحياة من تلك الزاوية التي لا يجرؤ على اقتحامها الكثيرون، زاوية الجنون الصادق، زاوية الابداع الذي تضيق به الأجساد و العقول و لحظة عابرة هي الحياة.
و أنا أحضر لهذا العدد الخاص، أُصبت بالقلق و الارتباك و أنا أجد صعوبة في الاتصال بأحد أقاربها، أو حتى بالمختصين في الأدب و الشِعر للحديث عن تجربتها، و خفت أن تتحوّل نيتُنا الصادقة في الاحتفاء بالشِعر، إلى فلكلور بائس و هزيل يضاعف من وحدة مشاكرة و عزلتها.
غير أن يمينة مشاكرة، و هي على سرير مرضها، و روحها تحلّق في عوالم تبدو بعيدة، تقرّر من منفاها الذهني، أن نقف على خشبة المسرح لتستضيفنا نصوصها.
لم يتردّد الفنان الكبير أحمد بن عيسى لحظة واحدة في تلبية دعوة صدى الأقلام، ليقرأ بحساسيته المسرحية العالية جزءًا من نصوصها، كما لم تتردّد مديرة ديوان وزارة الثقافة و الصوت الاذاعي المتميز السيدة زهيرة ياحي، في تلبية الدعوة ذاتها، أما كاتبة هذه السطور و التي كانت وقتها تبحث عن نص يعيد اليها شغف الترجمة، وجدت نفسها و بشكل يكاد يكون لا إراديا و بفرح طفل عثر على لعبته المفضلة، تُترجم مقاطع من كتاب مشاكرة " المغارة المتفجرة" إلى اللغة العربية.
و لعلّ ما حفزني أكثر على الترجمة، هو أنني لم أجد عند السيد غوغل أثرا ليمينة مشاكرة، بلغة من يُفترض أن يكونوا أهلها و محبيها و أصدقاءها و امتدادها الابداعي.
في الوقت ذاته الذي كنا نحضر فيه لتكريم يمينة مشاكرة، و في قاعة "الحاج عُمار" المجاورة لقاعة "صدى الأقلام"، كنتُ أشتغل مع المخرج المسرحي علي عبدون و الممثلين سفيان عطية، سالي و جميلة بحر، و المويسقيين يزيد بكاري و زكريا شرقي على مشروع " بوصلة التيه"، و هو مشروع فني مسرحي مستوحى من نصوص للكاتب عبد الرزاق بوكبة، و كنا قد وضعنا ديكور العرض المسرحي، و بدأنا في التدريبات مع الممثلين.
و لأن فكرة التكريم بدأت تأخذ منحى آخر، بعيدا عن الشهادات و التنظيرات و التحليلات النقدية، منحى شِعريا تحمله القراءة و المحبة، لم نجد فضاء أرحب و أكرم من فضاء بوصلة التيه، لتتم فيه القراءات باللغة العربية و الفرنسية مصحوبة بعزف موسيقي راق قدّمه كل من الموسيقيين يزيد بكاري و زكريا شرقي.
أو بالأحرى، لم يسع يمينة مشاكرة الشاعرة و هي متجهة الى فضاء صدى الأقلام بشِعرها فقط، إلا التوقف عند خشبة مسرح كانت تحاول أن تحمل فعل الحب.
تأثرت كثيرا بحساسية أحمد بن عيسى و هو يقرأ و بانفعالاته التي تليق بموهبته العالية و بتوتره قبل القراءة و حرصه الشديد على التحضير بشكل جيد، و بجديّة زهيرة ياحي في التحضير و بفرحها الصادق بالمشاركة و نبرتها العميقة التي عرفت كيف تحمل الكلمات، و بعزف الموسيقيين الذي لم يأت مقحما بل عرف كيف يرافق روح الكلام.
المخرج علي عبدون الذي ساعدني في تنسيق القراءات مع الموسيقى، جعل الممثلين يقدمون مقطعا بسيطا من " بوصلة التيه" ، كتحية خاصة ليمينة مشاكرة، أو لنَقُل كفنجان قهوة نتقاسمه مع عابر عزيز، نسميه أيضا رفيق الدرب.
لم تتضمن الجلسة أي نوع من الثرثرة، فقط بعض الكلمات التي تشبه الفرح في العين بعد نوبة بكاء، كأن تقول السيدة زهيرة ياحي، بأن يمينة مشاكرة كانت تتمتع بحس دعابة عال، و أنها لم تكن امراة شديدة الذكاء فحسب بل كانت أيضا امرأة جميلة.
صور مهربة من لقاء مقتضب مع الكاتبة
" وضعت كل شيء في المغارة"
استعادت الباحثة ميساء إكرام بوشريط /قسم اللغة و الأدب الفرنسي بجامعة قسنطينة 1/ بحزن و تأثر كبيرين صور الأديبة يمينة مشاكرة و هي تسمع خبر وفاتها، و استرجعت ذكريات مهمة عن زيارة قامت بها منذ قرابة السنتين للكاتبة بمكان إقامتها بمستشفى الأمراض العقلية قرين حسين بحسين داي بالعاصمة أين شاءت الأقدار أن ترقد هي نفسها في ذلك المستشفى الذي طالما مارست فيه تخصصها كطبيبة معالجة للأمراض العقلية ، لكن المرض أحالها على التقاعد المبكر بعد إصابتها بأعراض عقلية، إرتأى زملاؤها ، وضعها في إقامة تفصلها بضعة أمتار عن المستشفى احتراما لجهدها و عطائها و تضحياتها الكثيرة.
و تقول ميساء التي سجلت لقاءها المقتضب مع الأديبة على شريط فيديو عاينته النصر بأنها اختارت تسليط الضوء على الأديبة يمينة مشاكرة و بالضبط على روايتها"المغارة المتفجرّة" في رسالة ماستر 2 ركزت من خلالها محور دراستها على "القراءة الأنثروبولوجية حول (المغارة المتفجرة) ليمينة مشاكرة"،غير أنها المهمة لم تكن سهلة، حيث واجهت صعوبات كثيرة كما قالت في إعداد بحثها لنقص المعلومات و المراجع بخصوص هذه الأديبة التي قالت أنها لم تنصف أكاديميا و لا إعلاميا، واصفة إياها بالأديبة العبقرية.
و أسرت ميساء بأن أول عقبة واجهتها بعد اختيارها العمل على أول عمل لمشاكرة، كانت صعوبة العثور على نسخة للرواية المقرّر دراستها "المغارة المتفجرة" التي نشرت عام 1979، لانعدامها بالمكتبات حسبها ، و لولا اتصالها بأقارب زوجة شقيق الأديبة ما كانت لتحصل على نسخة لإتمام بحثها الذي استغرق حوالي سنتين أصرت خلالها على مقابلة الأديبة التي رسمت لها صورة من خلال البورتريه الذي يحمله غلاف روايتها ، و حملت في ذهنها صورة لامرأة قوية، مفعمة بالحيوية ، لكن بمجرّد وصولها إلى بيت المرأة و الذي هو في الواقع عبارة عن إقامة متواضعة داخل المستشفى لا تليق بمقام طبيبة طالما كرّست جهدها و وقتها لخدمة المرضى، غير أن زملاءها لم يجدوا حلا آخرا لإبعادها عن باقي المرضى تقديرا و احتراما لجهودها طيلة عقود من الزمن في مجال الأمراض العقلية سوى وضعها بهذه الإقامة، و التي صدمت الباحثة برؤية امرأة هزيلة الجسم أنهكها المرض، كثيرة الحركة، بدت عليها رغبة كبيرة في إنهاء المقابلة التي لم تستمر طويلا رددت خلالها الطبيبة و الأديبة كلمات تؤكد بأنها حاولت الإلمام بالكثير من الأمور في روايتها باستعمالها عبارة"إنه شامل...وضعت فيه تقمصات لكل شيء".
و بدت الأديبة الراحلة جد سعيدة باهتمام الطالبة الباحثة بأول مولود أدبي لها، لكن حالتها الصحية لم تسمح بإتمام ما حلمت و استعدت له الباحثة طويلا ، حيث أكدت لنا بأنها تأثرت كثيرا لحالة الأديبة، كما شعرت بأنها عاجزة على طرح كل الأسئلة الكثيرة التي كانت تراودها.
و ظهرت الأديبة في الشريط المسجل بقميص أصفر و تنورة سوداء و نظارات أخفت نظراتها الثاقبة التي ميّزت صورها القديمة رغم قلتها. مريم/ب
الباحثة ميساء بو شريط تقتفي الآثار الأنثروبولوجية للرواية
المغارة المتفجرة.. رواية العالم بنشوة وهذيان
رفعت الباحثة الجامعية بوشريط ميساء إكرام رهان فك الرموز في رواية "المغارة المتفجرّة" ليمينة مشاكرة التي غيّبها الموت أمس الأول بالعاصمة و التي أكدت الباحثة بوشريط بأن بحثها عبارة عن محاولة قراءة نشوة و هذيان مشاكرة الأديبة، خاصة الجانب الخرافي الأسطوري بكل دلالاته الثقافية و السياسية و الاجتماعية.
الباحثة وجهت دراستها التي هي رسالة ماستر 2 بعنوان" قراءة انتروبولوجية (تحليل ميتولوجي ونقد- اجتماعي) حول رواية المغارة المتفجرة ليمينة مشاكرة" منذ البداية نحو الثقافة العربية الإسلامية لما احتواه نصها الروائي من دلالات متعلّقة بهذه الثقافة من جهة، و تأكيد الأديبة نفسها على ذلك خلال اللقاء الذي جمعها بالباحثة، مما ضاعف رغبتها في إبراز هذا الجانب.
و كان لقاء الباحثة بالأديبة يمينة مشاكرة بمستشفى الأمراض العقلية قرين حسين بحسين داي بالعاصمة. حيث كانت تمارس عملها كطبيبة مختصة في الامراض العقلية و شاءت الأقدار أن ترقد فيه هي نفسها و تعالج هناك فترة من الزمن قبل إصابتها بمرض عضال وضع نقطة نهاية لقصة لم يقرأها الكثيرون عنوانها يمينة مشاكرة التي ترك الأديب كاتب ياسين بصمته على أول رواية لها كادت أن تبقى رواية يتيمة في حياة أديبة متميّزة لولا ازديان رصيدها الأدبي برواية ثانية تعد تكملة للأولى اختارت لها عنوان"آريس" لم تحظ هي الأخرى باهتمام النقاد و الباحثين الجامعيين تماما ك"المغارة المتفجرّة "التي قالت عنها الباحثة بوشريط بأنها تخفي ذكاء أديبة تأثرت جدا ب"نجمة" كاتب ياسين الذي ترك بصمته على مقدمة أول باكورة تكتبها أديبة شابة في سن الثلاثين آنذاك.
و ترى الباحثة بأنه مثل "نجمة" كانت بطلة "المغارة المتفجرة" شخصية غير محددة المعالم، لكن بدلالات كثيرة و رموز تحتاج إلى تأمل كبير لفكها، مؤكدة بأن القارئ قد يجد مجاورة بين "نجمة" كاتب و بطلة "المغارة المتفجرة" التي لم تمنحها الكاتبة اسما ربما وفقا لفلسفتها في الحياة والأدب، باعتبار أن الأسماء لا معنى لها كما المكان و الزمان حيث فضلت مشاكرة تركها مجهولة، لولا الإيماءات القليلة التي تشير إلى أنَ أحداث الرواية وقعت في زمن الاحتلال الفرنسي و إن كانت صالحة لكل زمان و مكان، لاعتمادها أسلوبا خاصا في تقديم معلومات تاريخية كثيرة بشكل فوضوي أشبه بحالة من الهذيان الذي يخفي ذكاء أديبة حاولت الإلمام بكل الأحداث القديمة و الجديدة و تصوير واقع جزائر لم تتخلص من معاناتها الكثيرة و تواصل نضالها من أجل انتزاع حقها و فر ض احترامها على الجميع بفرض ثقافتها و الحث على احترامها و هي الرسالة التي ترى الباحثة أن يمينة مشاكرة أرادت إيصالها للعالم.
و إذا كان الارتباط العميق بقسنطينة نقطة تجاور أخرى مع "نجمة" كاتب ياسين، فإنه عكس بطلته التي لم تأخذ أبدا الكلمة، كانت بطلة "المغارة المتفجرة" المولودة بقسنطينة و العاشقة لآريس، رغم إخفاء هويتها، لها كلمتها باعتبارها مجاهدة صعدت إلى الجبل و هو ما أرادت الكاتبة من خلاله أن ترمز للتغيير الجذري للوضعية الاجتماعية للمرأة بعد الاستقلال و هو ما برز من خلال ضمير المتكلم "أنا" الأنثوي الذي طغى على الرواية.
و تعتقد الباحثة أن قسما من السرد في "المغارة المتفجرّة" قد تكون له علاقة بالكاتبة يمينة مشاكرة نفسها، معتبرة طريقة السرد في هذه الرواية كحدث لغوي قائم في جزء كبير منه على خدمة الاستعارة.
و توقفت الباحثة عند دلالة المغارة في رواية يمينة مشاكرة التي وجدت فيها رمزية المأوى، الحماية و اليأس أيضا. حيث تقول بأن "المغارة"هذا الفضاء الطبيعي الموجود منذ خلقت الأرض و من عليها ، كان دائما مكانا للمأوى و الاحتماء و الاختباء من المخاطر، مثلما برز ذلك في مختلف الروايات و الأساطير على مر الزمان و حتى في الكتب السماوية المقدسة و التي ورد فيها قصص عن احتماء الأنبياء و الصالحين في المغارة، و خصت بالذكر أهل الكهف و قصة النبي محمد في غار حراء.
و ترى الباحثة بأن بطلة القصة التي كانت هي الأخرى يتيمة الأب و الأم ، اختارت اللجوء و الاختباء في المغارة لمقاومة كذبة "الجزائر فرنسية"مستمدة قوة تحملها و مقاومتها من أسلافها البربر و النوميديين.
كما كانت المغارة مكان لنهضتها، و موقع أهم الأحداث التي غيّرت مجرى حياتها "قمت بمئات الخطوات أمام المغارة...و في الوقت الذي كانت الثعالب تضبح من شدة البرد...كنت أشعر بأنني أقوى من الحياة، من المجهول، من القدر" تقول البطلة التي بإنجابها لطفلها "آريس"تصبح أكثر قوة و تحاول أن تفرض وجودها بالانتقال إلى الحديث باستعمال ضمير المتكلم "أنا"بعد أن بقيت منذ بداية القصة مجهولة. و تضيف الباحثة بأن الأديبة وجدت في المغارة الحماية الفعالة للثورة الجزائرية و مكنتها من إيصال ذاكرتها إلى الأجيال و هو ما عبرت عنه يمينة شخصيا في حوار سجله معها الإعلامي رشيد مختاري بالقول" أكتب بقلبي ...نصوصي...عبارة عن ولادات عسيرة و مؤلمة. وحدها الأم قادرة على أن تسمح...لكن أمي الصغيرة هي الوطن ، هي صورة لنساء خنشلة اللائي ثرن عام 1916 و قاومن فرنسا التي كانت تأخذ أبناءهن لتجنيدهم في الحرب العالمية ، و في ثقافتنا الأم حارسة للذاكرة و مركز المجموعة ، المجتمع ، المغارة.."
و بالاستناد إلى الأسطورة دائما، تستخرج الباحثة الصورة المزدوجة التي تخفيها مغارة مشاكرة و المتمثلة في الأمل و اليأس في آن واحد. حيث اعتبرت الكهف المأوى الوحيد الذي يعكس في ذات الوقت خوف المجاهدين من البقاء مسجونين داخله و ما يطبع ذلك من تشاؤم و يأس كبير ،كما جاء على لسان إحدى شخصيات روايتها، الطفل صالح: "نحن محكوم علينا ، أنظر، من كل هذه الأرض لم يتركوا لنا سوى مغارة لن تلدنا أبدا."في إشارة إلى استمرار احتلال الجزائر لمدة تجاوزت القرن من الزمن. لكن سرعان ما تعود صور الأمل لتشع من جديد من خلال أماني البطلة و تفاؤلها بأن معجزة ستحدث"أطفال ينامون تحت سماء السلام، فوق أرض الحلم".
عبارات التفاؤل و الأمل كانت أقوى من كل المخاطر و المغامرات الصعبة و المفاجآت غير لسارة التي يبقى معنى المغارة عبر الأزمنة يعكسها. كما رأت فيها تأثير الفلسفة الصوفية على الكاتبة التي لم تخف اقتناعها بأن الجبال و المغارات كانت دائما مأوى الباحثين عن الطمأنينة و السلام الداخلي.
و لم تغفل بوشريط التي تعد الباحثة الأولى على مستوى جامعة قسنطينة التي درست كتابات الأديبة التي غيّبها الموت أمس الأول، التنوّع الثقافي داخل الوطن الواحد و حلمها في إقرار المساواة بين الجميع مهما كانت انتماءاتهم و ثقافاتهم و معتقداتهم ملخصة ذلك في فقرة جاء فيها: "حملوني من السويقة القسنطينية، و نقلت من ميتم إلى آخر، و من عائلة محسنة إلى أخرى...يوم السبت، كنت أتخلى عن فستاني و تاج الإسلام من أجل الفستان و التاج اليهودي...بالنسبة لي، السماء تضم ثلاثة عوالم أين لم تكن تقيّدني حدود و هو عالم موسى، عالم عيسى و عالم سيدنا محمد...".
و لم تتوّقف قدسية المغارة عند حدود الدين و المعتقدات، في نظر الباحثة التي راحت تستعين بمكانتها في الميثولوجيا اليونانية و كيف استغلها هوميروس في ملحمته "أوديسة" أين وجد بطله يوليس المأوى و واجه المفاجآت و المخاطر و وجد مصدر الثروة أيضا.
و حمل الجزء الثاني من رسالتها "قراءة انثروبولوجية لرواية المغارة المتفجرّة" دراسة نقدية اجتماعية ل "المغارة المتفجرة" فكان لقسنطينة، تونس و آريس حضورا ملفتا بها لا يمكن المرور عليه دون التوقف عند تأثيرات المدينة و ممارساتها بتمثيلاتها العقلية التي لا يمكن فصلها عن روح و عمق وجدانية الكاتبة و انفعالاتها لما تمثله المدينة من تداخل ذاتي، هوية، بنية و دلالات وظيفية و رمزية تعكس مرجعية ذاتية. قد يكون من الصعب تحديدها، لقلة المعلومات عن الكاتبة التي وجدت الباحثة صعوبة في جمع المعلومات بخصوصها، بما فيها الرواية التي بحثت عنها طويلا قبل أن تتمكن من إيجاد نسخة و الانطلاق في دراستها. هو ما رأت فيه إجحافا في حق أديبة متميّزة باعتراف الأديب الشاعر كاتب ياسين. كل هذا حفّز ميساء إكرام بوشريط على العمل بجد لإبراز جوانب مهمة في رواية قالت أنه ليس من السهل قراءتها، و على القارئ إعادة قراءتها مرة و مرة لفهمها، لما تحتويه من دلالات كثيرة من الصعب تحديدها في قراءة واحدة و معاينة مختلف المستويات لما تحمله "المغارة المتفجرّة" من متحف خيالي صوري تتعايش فيه كل الثقافات و الأجيال المتعطشة للحرية و السلام و القبول و الاحترام.
يمينة مشاكرة ركزت على العلاقة الموجودة بين الفضاء و المجتمع، لإيمانها بأن المجتمع الذي يريد الحرية، عليه اجتياز كل الحدود و الحواجز و هو ما بدا جليا من خلال تنقلات المجاهدين الذين تنقل كل منهم من منطقته المعيّنة لخدمة الجزائر، لكن المرأة الوحيدة بينهم غادرت قسنطينة الخالدة التي لا يمكنها نسيان قصتها، طقوسها، ثقافتها، جسورها."أنا، ولدت من أب و أم مجهولين في عمق قسنطينة الرطبة و القديمة"، إشارة إلى ماضيها و تاريخها العريق، لكن بأسلوب يجعل القارئ يشعر بصد الكاتبة لهذه المدينة لما تضمنه من كبت و لا وضوح، قبل أن تنتقل إلى تونس الفضاء الثاني بعد منطقة الغرب التي برزت من خلال شخصية الأمير عبد القادر، لكن تونس كانت بمثابة فضاء الخلاص و الراحة لكن راحة جهنمية بذكريات مفعمة بالمكبوتات و الأشياء التي لم تقال و التي لخصتها في إقامة بطلتها في مصح "منوبة العقلي". و يا لغرابة القدر و تشابه نهاية البطلة التي انتهى بها المطاف بمصح عقلي تماما كالكاتبة التي شاءت الأقدار أن ترقد بالمستشفى الذي طالما ساعدت و عالجت فيه مرضى عانوا الانهيارات و الأمراض العقلية. أنهت أيامها ببيت متواضع ارتأى زملاؤها وضعها فيه بدل إبقائها بعنابر المصح بعد تدهور صحتها و إصابتها بمرض عقلي ،أبعدها تدريجيا عن عملها الذي كرّست له كل حياتها. حيث مارست مهامها بمستشفى بولاية الشلف في ثمانينات القرن الماضي، ثم بقرية قريبة من مسقط رأسها مسكيانة بالأوراس سر اختيارها لامرأة شاوية لتمثيل نساء الجزائر في روايتها و نقل الذاكرة باعتبار الأم دائمة التواصل مع أبنائها. تماما كما اختارت الحديث عن آريس خلال رحلة سفرها من قسنطينة إلى تونس، مرورا بهذه المنطقة التي تمثل مكانة كبيرة في قلبها لا تختلف عن مكانة قسنطينة التي احتضنتها "سكنت تونس و فكرت في قسنطينة، سكنت تونس و فكرت في آريس"،إشارة إلى مكانة المنطقتين عند بطلة "المغارة المتفجرّة".
و مثلما كانت لقسنطينة المدينة دلالات كثيرة، كانت لآريس أيضا رمزية واسعة باعتبارها رمز البربرية "الشاوية"التي تعكس الجذور الحقيقية للكاتبة نفسها التي حتى لو أنها غابت عن الساحة الأدبية لم تتوّقف عن عشقها لآريس التي خلدتها في رواية ثانية و أخيرة موسومة باسم هذه المدينة، و التي هي عبارة عن تتمة لروايتها الأولى، باعتبار بطل القصة هو نفسه ابن بطلة القصة الأولى الشاوية المجهولة الاسم، و التي لا زالت هي الأخرى تترّقب إماطة الستار عنها و خصها بدراسات أدبية و نقدية من شأنها إنصاف كاتبة طالما عاشت في الظل قبل أن ترحل في هدوء. مريم بحشاشي
الكاتب أمين الزاوي يتحدث عن الروائية الراحلة
كانت كاتبة انطوائية مولعة بنجمة كاتب ياسين و بأشعاره
قال الروائي أمين الزاوي للنصر أنه كان له حظ الالتقاء بيمينة مشاكرة و التحاور معها مرتين أو ثلاث، تعرف فيها عن كثب على شخصيتها الأدبية ككاتبة شفافة جدا قابلة للانكسار في أي لحظة فأدرك أن قوتها تكمن في هذه الشفافية.
حيث حدثنا عن هذه اللقاءات التي جمعتهما و عن معرفته الشخصية بها، و خاصة من الجانب الأدبي قائلا أنه رغم أنها لم تنشر سوى روايتي " المغارة المتفجرة " و " آريس" لكن كتاباتها القليلة هذه كان لها أثر بالغ على المشهد الأدبي الجزائري بعد الاستقلال، و رغم أنها لم تكن تحظ بحضور إعلامي كبير لأن الإعلام حسبه ظلمها كثيرا و لأنها أيضا انطوائية بطبعها، إلا أن روايتيها و كتاباتها كانت موضوع العديد من المذكرات و الأطروحات الجامعية في العديد من أقسام اللغة الفرنسية أو الترجمة عبر مختلف جامعات الجزائر خاصة روايتها " المغارة المتفجرة ".
و أشاد أيضا بشاعريتها الكبيرة حتى في كتابتها النثرية "المتفجرة" حسب كاتب ياسين الذي كتب تقديم باكورتها الأولى " المغارة المتفجرة " و قال عنها أنها " امرأة من بارود " لأنها عرفت كيف تفجر الواقع في كتاباتها و استطاعت العودة إلى موضوع الثورة و الشخصيات الثائرة التي تتنقل بين الجزائر و تونس.
حسب الزاوي فإن أغلب شخصياتها الروائية تشبهها في هشاشتها و قابلة للهوس و الجنون لأن الحرب الظالمة التي عاشوها لا تترك إنسانا سويا فهي حرب ضد سيكولوجية الفرد الذي يجد نفسه في مواجهة عدوان طاغ و موت بشع. أما أكثر ما يميز جوانب شخصيتها الأخرى فهي خجلها و هشاشتها كامرأة كتومة لا تتكلم كثيرا لأنها تنتمي إلى العالم الشعري أكثر من الواقعي، كما قال الزاوي، مضيفا أن من يحاورها يشعر بأنها مصابة بألم داخلي عميق لا يسمح لها بمواجهة الواقع إلا من خلال شاعريتها التي علمتها الاختصار و الاقتصاد في الكلمات، و عكس الكثير من الكتاب الآخرين فهي جد منطوية و تخشى مواجهة العالم الخارجي مباشرة.
أمين الزاوي عاد بذاكرته للقاءات القليلة التي جمعته بالكاتبة التي كانت دائما تصر أنها شاعرة تنتمي إلى قبيلة الشعراء أكثر من الروائيين. فقد كانت قارئة كبيرة للشعر و من شعرائها المفضلين الشاعر الفرنسي روني شار حسب ما أخبرته، أما من الكتاب الجزائريين فقد كانت من أشد المعجبين بكاتب ياسين الذي كانت تعشق شعره بجنون بدء من ديوانه الأول " مناجاة ". و أسرت له بأنها كانت تعيد قراءة رواية "نجمة" مرة كل سنة لدرجة أن من يقرأ روايتها الأولى يجد الكثير من نقاط التقاطع بينهما، لأنها نص مركب لا يسلم نفسه للفهم بسهولة. و قد كان هذا الإعجاب الأدبي بينها و بين كاتب ياسين متبادلا فهو الآخر كان يحب كثيرا كتاباتها و يحترم شخصيتها الأدبية كما قال أمين الزاوي : " لو كانت هناك سلالات أدبية فسأصنف يمينة مشاكرة في سلالة كاتب ياسين الأدبية ".
و أشار في الأخير على أنه على اتصال دائم بأفراد عائلتها و يعرف أنها كانت تكتب كثيرا في الفترة الأخيرة من حياتها و لديها العديد من المخطوطات التي لم تر النور. أمينة.ج
مقتطفات من نص "المغارة المتفجرة"
ترجمة لميس سعيدي
لغة معجونة في الجدائل المضفورة بنار الحب المتوهجة منذ قرون في قلب أجدادي، و في قلبي الذي غالبا ما أمد نحوه وجهي المتجمد و نظرتي الندية لأتمكن من التبسم. لغة معجونة في الزرابي، الكتب المفتوحة، الحاملة لبصمة نساء بلادي المتعددة الألوان، و اللواتي منذ الفجر، يشرعن في كتابة نار أحشائهن لتغطية الطفل ليلا، حين تَسرق منه السماءُ الشمسَ. في خلاخيل الفضة، الهالات المتجمدة ذات الكواحل الناعمة، و الموسيقى التي تطمئن و تواسي الذي ينام قرب الموقد و قد أحب قدم أمه و الأرضَ التي تلويها.
***************
اكتوبر 1960
في مكان ما، على احدى الحدود، شجرة تشبهني.
تحرس قبر مغارة.
هيكل غراب سيظهر، و سينعق كلمة كئيبة.
***************
جوان 1960
أكفر أمام البحر
أبصق على الشمس
أدير ظهري لتونس
عاشقة و كسولة
لأنني أتذكر.
أتذكر سماوات وطني.
اقول لابني، سماء الدزاير الغائمة، شمسها الواقفة على القصبة، عاصمتها.
أقول لابني،السماء النظيفة و الشاسعة، تمشّط شمسا بعيدة تتسلل في شوارع قسنطينة، السرية.
أقول لابني، السماء المظلمة و الساحرة، تلفظ شمسا صفراء و منسابة معلقة بالحجارة الاوراسية، التي لا تزال مغطاة بالثلج.
أقول لابني، السماء الأفقية و العائمة، تبرّد شمسا حمراء و ذكورية، خوفا من أن تحرق تلمسان الاندلسية.
***************
ابني المحروق بنار المنفى
على مهدكَ المتصدِّع
شكواك حجبت عني الأفق
بينما كانت ذكراك تنام في حِجري
بينما كنت نائمة
جاء طفل
على خطواته، قيدٌ طقطقَ
على أغلالكَ المجروحة يا حبي
ذاب الثلج
***************
هذا المساء، الشاعر و المتشرد يتمدّدان جنبا الى جنب، قرب الكانون.
- يبدو أنك سترحل غدا؟ يتساءل المتشرد.
- نعم.
-تعرف، يبدو لي، كأن الأرض، هي أنت.
سيصعب علي فراقك غدا
-سنرحل معا اذا أحببت، يقول الشاعر.
- أنت تمشي، أسرع مني.
-أعرف أيضا كيف أمشي على ايقاع خطواتك.
الشاعر و المتشرد رحلا في الصباح الباكر نحو آفاق جديدة.
أبناء الكاهنة
بقلم: كاتب ياسين- ترجمة عمر شابي
" كشف السر عن الإنسان. التحرر من أسطورة الموت. الإنسان ليس سوى مادة حية. و حين يموت يعود ترابا من جديد".
هذه الكلمات المأخوذة من ملاحظات مكتوبة بخط اليد، تلخص محادثة متشعبة مع يمينة مشاكرة، حول كتابها الأول، أحد الكتب الواعدة في الأدب الجزائري الحديث.
قرأت من مخطوط "المغارة المتفجرة" عدة نسخ متتالية، و إذا بدأت بذكر هذه الكلمات، فلكي أبرز هنا أن الروائية ليست فقط أديبة.
طالبة متحمسة، مارست الطب الاجتماعي و النفسي، كتبت هذا الكتاب في خضم حياة صعبة و متقلبة.
ليست رواية، إنها شيء أحسن من ذلك بكثير: قصيدة طويلة من النثر تمكن قراءتها مثل رواية.
مكتوبة بالفرنسية مما يشير منذ البداية إلى انسلاخ مزدوج، أولا بكتابة رواية "لتمرير الشعر" و ثانيا مخاطبة أهلها و ذويها بلغة أجنبية.
لقد رأت أمها تبكي، في اليوم الذي علمت فيه أن ابنتها الصغيرة التي تفوقت ببراعة في المدرسة الفرنسية نسيت لغتها الأصلية.
ولدت عشية الثورة،حين سمعت حكايات الحرب، للمرة الأولى كانت تعتقد أنها عاصفة.
بالعربية الشعبية "غيرا" هي في ذات الوقت عاصفة ماطرة و حرب التحرير، انطلاق الطبيعة.
من طفولتها الغضة، حافظت على ذكرى رجل مربوط أطرافه مشدودة إلى ماسورة مدفع، معروضا في الشارع.
رأت أباها تحت التعذيب، و رأته يموت و هو يطلب منها الحفاظ على رأسها عاليا. إليه أهدت كتابها.
حين تفكر في والدها ترى عيونا زرقاء بزرقة المعدن، و هي الزرقة التي تبعث بأفكارها إلى القرية التي ولدت بها، على ضفة وادي مسكيانة، بالبربرية "ميس- الكاهنة" أبناء الكاهنة.
هي قرية في الأوراس، الجبل الذي كان مهد ثورة أول نوفمبر. بعدما كان حاضنة و مسرح معركة بطلة القبيلة، عند جذور الأمة.
الذاكرة الجماعية تروي أيضا حتى الآن حكايات الأنفاق و الممرات تحت الأرض التي حفرها النوميديون. و ليس من أجل لاشيء أن يمر أنصار الكاهنة و ثوار أول نوفمبر عبر نفس الأنفاق من الأوراس إلى تونس.
إسمها الحقيقي ديهيا، و لا تعرف الكاهنة سوى باسمها الحربي.
كاهنة بالعربية تعني عرافة أو متنبئة ، كانت تملك حسب أعدائها موهبة الخطابة.
في البدء كان الفعل. أبناء الكاهنة لا يجب أن يجهلوا ان امرأة ملهمة كانت في وقت ما على رأس بلد شاسع يغطي كل أفريقيا الشمالية.
هذا يصيب ببعض الدوار الذين يرون في الماضي شبح المستقبل.
اليوم و قد أنجبت ثورة الأوراس تحت أعيننا جزائر جديدة. تجب قراءة هذا الكتاب و الحث على قراءته، لكي تكون كتب أخرى، و لكي يرفع آخرون صوتهم.
في الوقت الحاضر في بلادنا امرأة تكتب هي بقيمة وزنها بارودا.
مقدمة كاتب ياسين لرواية المغارة المتفجرة (ماي 1978)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.