القضاء على إرهابي بالشلف بالناحية العسكرية الأولى    لويزة حنون: حزب العمال سيفصل في مرشحه لرئاسيات سبتمبر 2024 شهر ماي المقبل    تربية المائيات: الشروع قريبا في عملية واسعة لاستزراع صغار أسماك المياه العذبة بالسدود    عرقاب يتباحث بتورينو مع الرئيس المدير العام لبيكر هيوز حول فرص الاستثمار في الجزائر    مئات المستوطنين الصهاينة يقتحمون المسجد الأقصى المبارك    مندوب المخاطر الكبرى بوزارة الداخلية : الجزائر معرضة ل 18 نوعا من الأخطار الطبيعية تم تقنينها    كرة القدم: غلق مؤقت لملعب 5 جويلية للقيام بأشغال الترميم    شهر التراث : إبراز عبقرية العمارة التقليدية الجزائرية في مقاومتها للزلازل    عيد العمال: الأربعاء 1 مايو عطلة مدفوعة الأجر    رئيس الجمهورية يبرز الدور الريادي للجزائر في إرساء نظام اقتصادي جديد عادل    فلاحة: السيد شرفة يستقبل المدير التنفيذي للمجلس الدولي للحبوب    شهر التراث: منح 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني خلال الأربع سنوات الماضية    موعد عائلي وشباني بألوان الربيع    الوريدة".. تاريخ عريق يفوح بعبق الأصالة "    مسؤول فلسطيني : الاحتلال فشل في تشويه "الأونروا" التي ستواصل عملها رغم أزمتها المالية    بوزيدي : المنتجات المقترحة من طرف البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    هنية يُعبّر عن إكباره للجزائر حكومةً وشعباً    العالم بعد 200 يوم من العدوان على غزة    صورة قاتمة حول المغرب    5 شهداء وعشرات الجرحى في قصف صهيوني على غزة    العدوان على غزة: الرئيس عباس يدعو الولايات المتحدة لمنع الكيان الصهيوني من اجتياح مدينة رفح    إجراء اختبارات أول بكالوريا في شعبة الفنون    مولودية الجزائر تقترب من التتويج    تيارت/ انطلاق إعادة تأهيل مركز الفروسية الأمير عبد القادر قريبا    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    رفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا    تسخير كل الإمكانيات لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    شنقريحة يحث على اليقظة..    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنّين    أمّهات يتخلّين عن فلذات أكبادهن بعد الطلاق!    تقدير فلسطيني للجزائر    سنتصدّى لكلّ من يسيء للمرجعية الدينية    برمجة ملتقيات علمية وندوات في عدّة ولايات    المدية.. معالم أثرية عريقة    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فرصة مثلى لجعل الجمهور وفيا للسينما    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    الجزائر تُصدّر أقلام الأنسولين إلى السعودية    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    استئناف حجز تذاكر الحجاج لمطار أدرار    بعد مسيرة تحكيمية دامت 20 سنة: بوكواسة يودع الملاعب بطريقة خاصة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار    تخوّف من ظهور مرض الصدأ الأصفر    تسجيل تلاميذ السنة الأولى بالمدارس القريبة من إقامتهم    عائد الاستثمار في السينما بأوروبا مثير للاهتمام    "الحراك" يفتح ملفات الفساد ويتتبع فاعليه    مدرب ليون الفرنسي يدعم بقاء بن رحمة    راتب بن ناصر أحد أسباب ميلان للتخلص منه    العثور على الشاب المفقود بشاطئ الناظور في المغرب    أرسنال يتقدم في مفاوضات ضمّ آيت نوري    "العايلة" ليس فيلما تاريخيا    5 مصابين في حادث دهس    15 جريحا في حوادث الدرجات النارية    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع ناسك التاريخ أبو القاسم سعد الله


عبد العزيز بوباكير/ كاتب ومترجم ومؤرخ
أخلص نفسه للبحث و نأى عن كل الخصومات و إغراءات الدنيا
أولا، عرفت أبا القاسم سعد الله، أستاذا متواضعا وعالما كريم النفس. تخرجت على يده أجيال كثيرة من الجامعيين الجزائريين. كان متسامحا عطوفا وصارما مع طلبته. نأى بنفسه عن كل الخصومات وعن كل إغراءات الدنيا، وأخلص نفسه للبحث وكنا نسميه "فأر المكتبات" لأنه كانت أسعد لحظات حياته هي تلك التي يقضيها في المكتبات وبين غبار الكتب. لم يُغره جاه ولا مال ولا منصب -سياسي ولا إداري-. هو لا يحكي كثيرا، وهو أيضا ناسك، متصوف، زاهد في الحياة، لم تشغله المناصب، وقد طرحت عليه مناصب وزارية ورفضها، همه الوحيد البحث والكتب والتاريخ، ربما لأنه أدرك قبل غيره أنه لا خير في المناصب في هذه الجزائر. كما ظل حلمه الوحيد هو رؤية جزائر تنعم بالازدهار والعدل والوفاء لقيم الحضارة العربية الإسلامية. كان كشاعر، مشبوب العاطفة، صادق المشاعر ويظهر ذلك في ديوانه "ثائر وحب". أبو القاسم سعد الله معروف كمؤرخ، ولكنه في الحقيقة هو متعدد الجوانب في عطائه وفي ما قدمه للمكتبة الجزائرية. هو أولا مؤرخ وشاعر وأديب ومترجم، جمع كل هذه الجوانب في شخصيته المتفردة. في مجال التاريخ خلف أبو القاسم سعد الله أطرحته الشهيرة "الحركة الوطنية الجزائرية" التي ناقشها في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1965 بعد أن أرسلته جبهة التحرير الوطني إلى هناك، وهذه الأطروحة ظلت إلى مدى نصف قرن هي المرجع الأساسي لكل من يدرس الحركة الوطنية من جزائريين وأجانب. له كذلك في مجال الكتابة التاريخية "أفكار وأراء في تاريخ الجزائر"، وأهم ما خلفه أبو القاسم سعد الله قبل أن يرحل هو الموسوعة الرائعة التي تقع في عدة أجزاء والموسومة ب "تاريخ الجزائر الثقافي" هذه موسوعة ذخيرة فريدة لأنها تتضمن التاريخ الثقافي للجزائر على مدى عصور، وبذلك خلف معدنًا ثمينا للأجيال القادمة من الباحثين الذين يتخصصون في التاريخ الثقافي الجزائري. سعد الله، وفر لهم المادة الأساسية وما عليهم إلا العمل.
لكن الناس يجهلون جانبا مهمًا في سعد الله، وهو سعد الله المترجم، فأبو القاسم سعد الله أنجز من الانجليزية وترجم مع التدقيق طبعا السيرة التي وضعها هنري تشرشل عن الأمير عبد القادر وهي تظل إلى الآن أفضل سيرة وُضِعت عن بطل المقاومة الجزائرية الأمير عبد القادر.
خلاصة القول: من الصعب الإحاطة بكل جوانب هذا الرجل، الكاتب، الأديب، العالم، المؤرخ، الإنسان، الأستاذ الجامعي. إنما أقول أن الجزائر لن تجود بمثله إلا بعد قرن.
مراد وزناجي/ كاتب وباحث في المركز الوطني للدراسات حول الحركة الوطنية والثورة
كان أمةً ولم يكن شخصا فحسب والجزائر لم تعطه حقه
عرفت الأستاذ سعد الله سنة 2002، ومن يومها صرت ملازما له، عرفت فيه رجلا متواضعا جدا وكريما، أستطيع القول أنه عاش عزيزا ومات عزيزا، بحيث كانت له عزة نفس كبيرة، وهذه شيم أهل الصحراء وأهل الجزائر. ما يمكن قوله أيضا، أن الجزائر لم تعطه حقه، الجزائر ككل، يعني، الجزائر كرسميين ومثقفين، هو الذي أعطاها كثيرا. له فضل كبير علينا جميعا، كأفراد وكأمة وكشعب، بل أفضال كبيرة وكثيرة لا تعد ولا تحصى. كان حامل هموم كبيرة، هموم كان من المفروض أن تحملها حكومات ومؤسسات، لكنه حملها وحده بفضل اجتهاداته المختلفة المتعددة في التاريخ والأدب. أبو القاسم سعد الله، كان أمة ولم يكن شخصا فحسب، نعم، كان أمة، ونحن في الحقيقة برحيله، فقدنا أمة وليس رجلا واحدا. أنا أنجزت معه كتاب "حديث صريح مع أبو القاسم سعد الله"، الطبعة الأولى منه صدرت في 2008، والطبعة الثانية صدرت في 2011، وعن قريب ستصدر الطبعة الثالثة. كان سعيدا وفرحا جدا بهذا الكتاب، لأنه جاء وأُنجز من طرف شاب عنده اهتمام بالغ بالتاريخ، وكان يطلب مني نسخا منه من وقت لآخر، وكنت طبعا بكل محبة أقدم له ما يحتاج من نسخ هذا الكتاب. وفي أحاديثنا عن اللغة العربية، كان يقول لي دائما وبالحرف الواحد: "سيعود للغة العربية بريقها بزوال الطبقة المثقفة باللغة الفرنسية". كان كثير التفاؤل ولم يفقد الأمل يوما، وكان يقول لي أيضا: "معارض الكتاب التي تنتظم في الجزائر، هي دليل على أن عادة المطالعة والقراءة موجودة ومترسخة عند الجزائريين عكس ما يقول به البعض من المشككين من أن الجزائري لا يقرأ". كان يعتبرني بمثابة ابنه، إذ يقول لي دوما أنت ابني يا مراد، أنا لي "أحمد ومراد". أنا مدين له بكل شيء، جعلني أحب التاريخ، وبفضله تدرجت أكثر على عشق التاريخ وكتابته وترجمته أيضا. رحيله خسارة كبيرة، سنشتاق إليه كثيرا، شخصيا فقدت أبي سنة 1991، وها أنا في سنة 2013 أفقد أبي الروحي.
حميد عبد القادر/ كاتب و روائي
أخرج تاريخ الجزائر من الكتابة العاطفية النضالية
أعتبر أن الدكتور أبو القاسم سعد الله، يعد أحد مؤسسي المدرسة التاريخية الوطنية. وهو أحد الذين أخرجوا تاريخ الجزائر من الكتابة العاطفية النضالية، وأدخلها إلى حظيرة البحث القائم على المنهج العلمي. لقد ساهم رفقة محفوظ قداش (باللغة الفرنسية) في التأسيس لتصور وطني لتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، حتى وإن انحاز بشكل واضح لتوجه أيديولوجي معين، هو التوجه العربي الإسلامي، الذي كان غالبا ومنتشرا في الجامعة الجزائرية (وبالضبط في معهد التاريخ) خلال الستينيات والسبعينيات.
الدكتور سعد الله، هو من تجرأ على الكتابة عن التعددية الحزبية الجزائرية خلال مرحلة ما قبل الثورة، في عز الحزب الواحد، في كتابه الشهير "تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية". كان سعد الله، على خلاف ما يصور كثير من الناس، رمز المثقف النقدي، رغم أنه قضى عمره بين أسوار الجامعة، فقد تجرأ في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، على كتابة مقال (نشر بجريدة الشعب)، يدعو فيه إلى الإعلان على أسماء الأشخاص الذين كلفهم الرئيس لصياغة الميثاق الوطني. كتب سعد الله تاريخ الحركة الوطنية، لكنه لم يكتب شيئا عن تاريخ الثورة، وصرح في أكثر من مناسبة أن صعوبة الإطلاع على الأرشيف هو الذي منعه دون ذلك. وأعتبر أنه كان صادقا مع نفسه، ومع منهجه في البحث. ويبقى أن بحثه الضخم حول "تاريخ الجزائر الثقافي"، اتسم بكثير من الموضوعية في النظرة والطرح، إذ نجده يقدم مثلا رؤية موضوعية للحقبة التركية، ويتناول بلا لف ولا دوران، الثورات التي خاضها الجزائريون ضد العثمانيين، في الجزء الأول من الكتاب. كان سعد الله مؤرخا، لكنه كتب بروح الأديب، فهو صاحب أسلوب ممتع، يتجلى من خلال قدرته على التأليف بلغة أقرب إلى الأسلوب الأدبي، مما أضفى على كتبه التاريخية نكهة خاصة، وقدرة على التوغل بين جمهور القراء حتى خارج أسوار الجامعة. وعلمت من الطلبة الذين درسوا عنده، أن درجة التواضع عنده كانت كبيرة، ولم يكن يتعصب لرأيه أبدا. لم يسبق لي وأن حاورته، لكنني حضرت إحدى محاضراته منذ خمس سنوات بالجزائر العاصمة، ألقاها بعد أن انقطع عن إلقاء المحاضرات لسنوات طويلة. وسمعته يدافع عن إرث جمعية العلماء المسلمين، معتبرا إياه بمثابة اللبنة الأولى والأساسية للوطنية الجزائرية. ورأيته يستمع لمنتقديه بصدر رحب، دون تعصب ولا تشنج، وتلك هي سمة العلماء الكبار من أمثاله.
مخلوف عامر/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
وفاة رجل بهذه القامة خسارة كبيرة يصعب تعويضها
إنه رجل نذر حياته للبحث فلم يطمع في مسؤولية أو كرسي يلهيه عن التنقيب في الآثار مؤلفات ومخطوطات، عمَّا فيها من مواقف وآراء تخص الجزائر. ظل وكسائر الدارسين من جيله يسعى ليأخذ من كل شيء بطرف، فقال شعراً وقدم دراسات نقدية في الأدب لينصرف بعد ذلك إلى البحث التاريخي والترجمة والتحقيق، واستمرَّ يحمل تاريخ الحركة الوطنية على كتفيْه مهووساً بتاريخ الجزائر الثقافي فاختصر مسافة طويلة على الباحثين والمهتمِّين. واللافت لدى هذا الإنسان الباحث، الباحث الإنسان، أنه نموذج في سلوك العالِم الذي لا يتحدث عما لا يعرفه وإذا تحدث فعن دراية وتثبُّت. كنت حين ألتقيه في بعض المناسبات -وهي قليلة- أكتفي بالسماع أو بالسؤال فقد كان الرجل مكتبة واسعة متنقلة. والمؤسف حقاً أن القائمين على الشأن الثقافي عندنا لا يلتفتون إلى أمثال هؤلاء إلا يوم نترحَّم عليهم. فكم ستنقضي من عقود مستقبلا كيْ تنجب الجزائر باحثاً بهذا القدر العالي من الكفاءة والإخلاص للعلم والمعرفة؟!. ولكن لعل عزاءنا في أن أهل المعرفة عبر التاريخ كانوا دوماً يشتغلون في الظل، يبذلون جهوداً مضنية في سبيل أن يضيئوا الطريق للآخرين، وهم إن لم يُقتلوا أو يشردوا أو تُحرق كتبهم، يُضرب حولهم ستار من الصمت إلى أن ينسحبوا بلا صخب ولا عياط عادة ما يُقام لأولئك الجُهال الذين أزعجوا الكون بخطبهم الجوفاء، ولا يدركون أن وفاة رجل بهذه القامة خسارة كبيرة يصعب تعويضها. حين يذهب الزبد جفاء ستبقى آثار "سعد الله" مراجع لا يمكن أن يتجاوزها باحث، سيبقى اسمه متداولاً في الجامعات داخل الوطن وخارجه في أوساط المثقفين وبين المؤسسات التي تهتم بتاريخ الجزائر. إذ عندما يعيش المرء لنفسه تبدو له الحياة قصيرة قِصر عمره، ولما يعيش لفكرة تبدو له طويلة لا تنتهي، فقد كان المرحوم يعيش لفكرة وترك بصماته واضحة ترتسم من خلالها صورة للجزائر لا شك ستذكرها الأجيال القادمة.
محمد ساري/ كاتب و أستاذ جامعي
وداعا أيها العالم الجليل
أستاذ الأجيال أبو القاسم سعد الله الذي غادرنا إلى الدار الآخرة من طينة العلماء الحكماء وقد كرّس حياته للعلم والمعرفة والبحث والتدريس والإشراف على الطلبة ومناقشة رسائلهم، حتى وهو متقاعد. عرفته ناقدا أدبيا وشاعرا قبل أن أعرفه مؤرخا. فكتاباته عن رواد الأدب الجزائري شكّلت مصادر ملهمة أيام دراستي الأدبية في الجامعة. وقد كانت هذه السير الأدبية مقدمة لموسوعته الفذة "تاريخ الجزائر الثقافي". فكان الوحيد من بين المؤرخين الذي اعتنى بالتاريخ الثقافي حيث كشف الغطاء عن أعلام الفكر والأدب والنقد طبعت مؤلفاتهم ومواقفهم الحياة الثقافية والفكرية لقرون عديدة، مبينا سيرها والسياقات الاجتماعية والسياسية التي ظهرت فيها. وقد رفض إغراءات المناصب الإدارية والسياسية، لم يبحث عنها، كما لم يبحث عن الأضواء الإعلامية في زمن طغت عليه الصورة المغرية الخادعة. كان يشتغل في صمت، يتقصى أرشيف المكتبات، ليقدّم تاريخا موضوعيا منتقدا المؤرخين الفرنسيين الذين أرادوا تقزيم وتصحير كل ما له علاقة بالحرف العربي في هذا البلد. لا أنسى أبدا حضوره أثناء مناقشة رسالتي للماجستير حول "النقد الأدبي عند محمد مصايف"، وقد ثمّن المبادرة التي تعتني بالكتاب الجزائريين لدراسة مؤلفاتهم، وكان قد مرّ على وفاة الناقد محمد مصايف ست سنوات يوم المناقشة. لقد جاء مع صديقه المرحوم عبد الله الركيبي الذي ترأس لجنة المناقشة. التقيت به بعد سنوات في جنازة عبد الله الركيبي، فوجدته وهنا هدّته السنوات، فتنهد وذكر خصال صديقه أيام كانا في القاهرة خلال الخمسينيات من القرن الماضي وكيف كانا الرجلان شغوفين بالتحصيل المعرفي برغم الظروف الصعبة وقلة الإمكانيات. رحم الله مؤرخنا الجليل الذي كرّس حياته للبحث والمعرفة إلى آخر رمق من حياته، مقاوما تلك الإغراءات التي كثيرا ما هدّت قامات كبرى.
مصطفى نويصر/باحث وأستاذ التاريخ بجامعة الجزائر
انغمس في البحث التاريخي ولم يخرج منه
أبو القاسم سعد الله، أكبر من أن نقوله في كلام، لأن الراحل عاش بزخم زاخر في التأليف والتأريخ والبحث والتنقيب، يعني أكثر من نصف قرن وهو يبحث وينقب ويكتب. لو عدنا إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي، فلنتصور - شخص- بدأ الكتابة من ذلك الوقت إلى غاية اليوم، يعني هذا الكم الهائل مما تركه من آثار فكرية، ثقافية، تاريخية. سعد الله بدأ الكتابة في الصحافة منذ الخمسينيات، وكان مراسلا لجريدة البصائر من القاهرة، لسان حال جمعية العلماء المسلمين، ويمكن العودة إلى أرشيف هذه الجريدة للاطلاع على كتاباته ومقالاته الكثيرة والقيمة المنشورة بين حنايا صفحاتها. كما كتب في الصحافة والمجلات المشرقية منها "الآداب" البيروتية، فضلا عن كتابته في المجلات والجرائد الجزائرية. سعد الله في البداية بدأ بقول وكتابة الشعر ونشر بعض الدواوين الشعرية، كما كتب في الأدب. ثم انغمس في البحث التاريخي ولم يخرج منه إلى أن وافاه الأجل. سعد الله، كتب العشرات من الأبحاث والدراسات التاريخية، وأول ما كتب كانت أطروحته التي ناقشها في الولايات الأمريكية المتحدة، ومن أهم وأكبر مساهماته التي دخل بها مشيخ التاريخ كتابه المرجعي الذي صدر في 11 مجلدا، وهو كتاب "تاريخ الجزائر الثقافي"، فضلا عن كل هذا، الكثير من الانجازات والآثار القيمة في الفكر والأدب والتاريخ. أيضا لا ننسى رسالته التعليمية، فمنذ الستينات وتحديدا منذ 1965، تكوّن على نهجه المئات من الطلبة من مختلف الأجيال، كما تخرج على يديه الكثير من كِبار الباحثين والمؤرخين الأعلام في ساحة الكتابة التاريخية في الجزائر والوطن العربي. أبو القاسم سعد الله علم من أعلام الجزائر والوطن العربي من المغرب إلى المشرق، وليس فقط في الجزائر. طبعا من الصعب جدا تلخيص أبو القاسم سعد الله في شهادة مقتضبة، كما يصعب تلخيص مسيرته التي امتدت إلى أكثر من 60 سنة اشتغالا وبحثا وتنقيبا في التاريخ والأدب والترجمة.
شيخ المؤرخين أديبا
"الناقد الصغير" الذي كتب أول قصيدة حرة بالجزائر
صالح سعودي
إذا كان فقيد الجزائر ابو القاسم سعد الله يعرف باسم شيخ المؤرخين بالنظر إلى العمل الكثير الذي قام به للحفاظ على الموروث التاريخي والثقافي للجزائر تاركا مؤلفات نفيسة موازاة مع تدريسه الدؤوب في الجامعة فيلقّب أيضا بالناقد الصغير، له نزعة نحو الأدب والصحافة، كما ترك بصمات في مسار الشعر، حيث يعتبر رائد الشعر الحر في الجزائر، ويكفيه فخرا انه صاحب ميلاد أول قصيدة من هذا النوع منتصف الخمسينيات تحت عنوان "طريقي".
تأثر بالاتجاه الرومانسي وأعجب بالمتنبي، إيليا أبو ماضي، الشابي والرافعي
اتجه أبو القاسم سعد الله إلى الاتجاه الرومانسي في شعره، وكان ذلك نتيجة لظروف البيئة التي شب فيها سواء في وادي سوف أو في تونس، حيث رمال الصحراء الذهبية والنخيل وخرير السواقي وأصوات الحيوانات وصفاء الطبيعية ونقائها، كلها كانت عوامل ساعدت سعد الله على تنمية ثقافته الأدبية، وسلوكه المنحى الرومانسي، بالإضافة إلى حبه الشديد للخلوة والانزواء، يطالع الكتب والمجلات لساعات طويلة، فكان يجلس فوق العشب وحفيف الأشجار.
انكب على شعر المتنبي فحفظ اغلب قصائده، كما كان لإيليا أبو ماضي أثرا في ثقافة سعد الله بإعجابه بقصيدة "الطلاسم" وما تحمله من تمرد وشك وتردد حول مصير الإنسان، يتناسب مع مرحلة الشباب الجزائري المغلوب والثورة ورفضها للظلم، كما قرأ للشابي وجبران خليل جبران كل كتبه وولع بالشعر المهجري وبشعر مدرسة أبولو ، كما نال مصطفى صادق الرافعي حظا وافرا من ولع سعد الله بمطالعة مؤلفاته كرسائل الأحزان وأوراق الورد والسحاب الأحمر...
مؤلفات ثرية في الأدب كما في التاريخ
ورغم أن الفقيد الراحل سعد الله ركز جهوده في العشريات الأخيرة على إثراء المكتبة الجزائرية بمؤلفات تصب في خانة التاريخ الجزائري إلا انه لم يهمل الكتابة في الجانب الأدبي والشعري، حيث صدرت له دواوين وكتب في هذا الجانب نذكر منها: النصر للجزائر (شعر 1986)، ثائر وحب، شعر 1977، الزمن الأخضر ديوان 1985، سعفة خضراء قصص 1986، دراسات في الأدب الجزائري الحديث 1985، محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري الحديث 1984، حكاية العشاق، في الحب والاشتياق رواية تحقيق 1983، القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني 1985، تجارب في الأدب والرحلة 1984، أشعار جزائرية تحقيق 1988، وقد فضل تنويع إبداعاته في الجانب الأدبي بين التوثيق وتكريس أدب الرحلات إضافة إلى إثراء الكشف عن رؤيته الشعرية بقصائد تميل إلى الذاتية والرومانسية، وأخرى تصف الثورة وتجسد نضال الشعب في حب وطنه، وقصائد تتميز بالغربة والحنين إلى الوطن، قصائد تمثل تجارب الحب وغيرها.
سعد الله رائد القصيدة الحرة في الجزائر بامتياز
يعد أبو القاسم سعد الله رائد القصيدة الحرة في الجزائر بامتياز شأنه شأن السياب ونازك الملائكة في المشرق العربي، بدأت تجربته الشعرية في نظم الشعر الحر من خلال متابعته لمعركة القديم والجديد في مصر على صفحات الرسالة والثقافة وغيرهما، وتمرد أصحابه وتحررهم من المفاهيم السائدة في مختلف أوجه الحياة، انه جزء من ثورة أو شكل من أشكال الثورة إلى جانب إعجابه بهؤلاء الشعراء أعجب بالشعراء المجددين مثل نزار قباني وبدر شاكر السياب.
في منتصف الخمسينيات طالعت شعرنا ظاهرة جديدة مع جيل جديد من الشعراء الشباب وهي الشعر الحر، حيث يؤكد معظم الدارسين على أن "البداية الحقيقية الجادة لظهور هذا الاتجاه، إنما بدأ مع ظهور أول نص من الشعر الحر في الصحافة الوطنية، وهو قصيدة طريقي لأبي القاسم سعد الله المنشورة في جريدة البصائر بتاريخ 23 مارس 1955" وبالتحديد في عددها (313) وأبو القاسم سعد الله ذكر بأنه كتب هذه القصيدة في "الأبيار يوم 15 مارس1955 وأن البصائر نشرتها في عددها 313" مطلعها:
يا رفيقي
لا تلمني عن مروقي
فقد اخترت طريقي!
وطريقي كالحياة
شائك الأهداف مجهول السمات
عاصف التيار وحشي النضال
صاخت الأنات عربيد الخيال
كل ما فيه جراحات تسيل
وظلام و شكاوي و وحول
تتراءى كطيوف
من حتوف
في طريقي
يا رفيقي ...
ويؤكد الصالح خرفي رحمه الله وعديد المتتبعين على أسبقية أبا القاسم سعد الله على تجربة الشعر الحر في الجزائر وأن من كتب هذا اللون زمن الثورة إنما جاء بعده، وسعد الله أول المقدمين على تجربة الشعر الحر، وفتحت تجربة سعد الله الطريق أمام شعراء آخرين لاقتحام هذه المغامرة، وتفاوتت التجارب الفنية بين شاعر وآخر، ونذكر من هؤلاء الشعراء أحمد الغوالمي، عبد الرحمان زناقي، عبد السلام حبيب، ومحمد الأخضر السائحي...
منزلة الكتابة عند الدكتور أبو القاسم سعد الله
في حديث لشيخ المؤرخين الجزائريين عن منزلة الكتابة في نفسه فيقول: "قلمي لا يهدأ له بال، ولا يستقر له حال ... فالكتابة عندي هي دوائي وهي دائي ، هي غذائي وهي هوائي، فإذا كتبتُ رضيتُ عن نفسي وإذا لم أكتب سخطتُ عنها ومرَّ اليوم كأنَّه سُرق من عمري".
ويخاطب أبناء جيله من الأحياء الذين استكانوا للراحة أو المرض وطلَّقوا القلم قائلا: "اكتبوا حتى بأهدابكم وأظافركم إذا لم تُطعكم أقلامكم ، ثم اذهبوا إلى ربِّكم وأنتم راضون أنكم قُمتم بمهمتكم الفكرية والإنسانية ، ولكم مني كل التمنيات".
وفي هذا السياق وصف الدكتور مسعود فلوسي المؤرخ والمفكر والأديب الجزائري المتميز الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله، بالرجل الفذ الذي استطاع أن ينجز ما تعجز عن إنجازه المؤسسات الكبيرة، إن مؤلفاته الرائدة في تاريخ الجزائر الثقافي وفي التاريخ العام للجزائر وفي التعريف بعلماء الجزائر القدامى والمعاصرين ستظل معالم بارزة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها أو الاستغناء عنها، إن سعد الله باختصار حسب الدكتور مسعود فلوسي ظاهرة نادرة، وليس من السهل أن يظهر مثيل له في الأمد القريب، وإن مثل سعد الله فيما أنجزه من أعمال كمثل الأمير عبد القادر وابن باديس والإبراهيمي وغيرهم من الأفذاذ في تفرد كل واحد منهم بمنجزات لم يلحقه فيها أحد.
أب الثقافة الجزائرية المعاصرة
المرحوم " أبو القاسم سعد الله " في تصوري هو واحد من أهم آباء الثقافة الجزائرية المعاصرة بكل مكوناتها و أبعادها ، فقد صادفني الحديث عنه و عن إسهاماته الغزيرة عبر كل مراحل دراساتي الجامعية ، بل إنني واحد من طلبة شعبة أدب الحركة الوطنية الجزائرية التي تأسست عام 2004 بجامعة قسنطينة بالتشاور بين رئيس مشروعها : أستاذي محمد العيد تاورتة و صديقه الحميم " أبو القاسم سعد الله " الذي انبرى للدفاع عن هذا المشروع الرائد أمام مصالح وزارة التعليم العالي حتى تم قبوله – المشروع - و استوى على عوده و صار طلبته يملؤون الأرض بحثا و تنقيبا في تراث ذلك الأدب الجزائري الذي رافق تطور الحركة الوطنية ، و أعترف أنني أحببت هذا الرجل كثيرا من خلال الانكباب على مطالعة كتاباته المختلفة في الأدب و التاريخ و الترجمة و الإبداع حتى أنني تمنيت لقاءه و الاستماع إليه مباشرة خاصة و أن مخيلتي قد رسمت له صورة أسطورية جعلتني كثيرا ما أطالب في محاضراتي بأن نقيم له تمثالا إلى جانب الأمير عبد القادر، فهذا أسس لنا الدولة الجزائرية الحديثة و أبو القاسم سعد الله أسس كيانها الثقافي بكل ما تحمل كلمة الثقافة من مدلولات على الوجود و الهوية.
و لقد ابتسم لي الحظ منذ سنتين عندما التقيت عالمي المبجل الشيخ " أبو القاسم سعد الله " ذات مساء في مطار وادي سوف و أنا عائد من المشاركة في الندوة 24 للجمعية الوطنية الأمين العمودي ، و أقسم بالله أنني عرفته بمجرد ما رأيته ، و كأن الملائكة قادتني إليه و هو جالس كالأمانة على أحد كراسي قاعة الانتظار بالمطار محتضنا محفظة سوداء كبيرة يضعها على ركبتيه . إنه شيخ جليل طاعن في السن وخط الشيب رأسه فتساقط شعره حتى أن حاجبيه انمحيا تماما ، أما لحيته الرقيقة البيضاء المستديرة حول فمه الصغير فقد زادته شيبا على شيب و وقارا على وقار ، و ما لفت انتباهي أكثر بساطته الشديدة حيث إنه كان يرتدي لباسا عاديا جدا من النوع الذي يباع في الأسواق الشعبية هو أقرب إلى لباس الفلاحين منه إلى لباس الموظفين الرسميين أو الدكاترة فوق العادة ، لقد سعدت كثيرا برؤيته فلم أملك نفسي إلا و أنا اتجه نحوه و أسلم عليه مقدما نفسي على أنني من طلبة مشروع أدب الحركة الوطنية الجزائرية بإشراف : أ.د. محمد العيد تاورته ، فانبسطت أساريره و رحب بي حتى شعرت أنني في حضرة والدي رحمه الله ، و لأن الكثير الكثير من الأسئلة كانت في جعبتي منذ حلمت بهذا اللقاء في سري و علانيتي ، فقد استجمعت شجاعتي الأدبية و رحت أسائل الرجل عن التاريخ الجزائري ، كانت الأسئلة تتدافع في رأسي فيصيغها لساني تباعا ، و كان الشيخ سعد الله يحاورني بكل هدوء و روية مشيرا بحركة يده اليسرى فيفرك الأصابع ثم يجمعها في حركات فنية مضبوطة تتناغم تماما مع كل كلمة ينطقها و كأن الرجل يتقن لغة الإشارات إضافة إلى ما يتقنه من عشر لغات أجنبية ، أما يده اليمنى و هي الأقوى و الأعلى فقد كانت تمسك بالمحفظة التي تحتوي جهاز الكومبيوتر المحمول و الذي لا يفارقه أبدا لأنه يكتب عليه في كل وقت و حين . و الفكرة الرئيسة التي غرسها سعد الله في أعماقي أثناء ذلك اللقاء هي أننا أمة تحتاج كثيرا كثيرا كثيرا للثقافة ذلك أن العمق الثقافي هو الذي يؤسس هويتنا و وجودنا و كياننا .و لكم تمنيت أن يطول الحديث غير أن موعد إقلاع الطائرة المتجهة للجزائر العاصمة قد قطع اللقاء فرأيت عمال المطار يسهرون أولا على إركاب شيخ المؤرخين الجزائريين قبل أن يفسحوا المجال لباقي الركاب بالصعود للطائرة . لقد كان الشيخ سعد الله يسير أمامي بحركات بطيئة تترجم تقدمه في السن ، لكنها خطوات متوازنة مملوءة بالوقار، فقد كانت مشيته فرجة مفيدة بالنسبة لي ، حتى أنني قلت في نفسي : " و الله يستحق هذا الرجل أن يحمل في الطائرة الرئاسية ".
لقد تأثرت كثيرا بذلك اللقاء ، تأثرت بروح الجدية و العمل و المثابرة و الإرادة القوية الصلبة في شخصية سعد الله ، فهو حتى في سفره يحمل معه جهاز الكمبيوتر ليعمل و يكتب ، إنه رجل نذر نفسه و حياته للعلم و الكتابة و التأليف ... لا مقاهي و لا جلسات فارغات ...لا مناصب و لا مكاسب ... ، إنه رجل فقير و بسيط يسكن في بيت متواضع داخل عمارة شعبية بحي سوريكال في الجزائر العاصمة ... رجل متواضع عامل عابد ظل يكتب و يؤلف حتى آخر رمق من حياته ... مخلص لنهجه و مبادئه يقول كلمته و يمضي حتى و لو كلفه ذلك ما كلفه من ثمن و تضحية.
لقد رأيته حريصا أشد الحرص على محفظته التي تضم بعض وثائقه إضافة إلى حاسوبه المحمول ، تلك المحفظة هي رصيده و وجوده فبها علمه و بحوثه ، إنه يخشى عليها من أن تخطف أو تسرق منه مثلما حدث له ذلك في إحدى السنوات بمطار هيثرو في لندن و هو متجه لزيارة ابنه في أمريكا ، حيث سرق أحدهم محفظته التي تحتوي جهود 25 خمس و عشرين سنة من البحث و التأليف حول تاريخ الجزائر الثقافي مما يقدر بستة أجزاء ، و كاد المسكين أبو القاسم سعد الله أن يصاب بالجنون بعد تلك السرقة التي تمت بفعل فاعل متآمر ، حتى أنه ظل لمدة ثلاث سنوات مكلوما مصدوما لولا أن من الله عليه بذاكرة قوية مكنته من استرجاع ما ضاع منه من معلومات .
إنه رجل بسيط جدا متواضع جدا وفي لأمته و وطنه و مسقط رأسه ، تراه في قرية قمار بوادي سوف فتحسبه فلاحا لأنه يبدو مثلهم تماما في مشيته و لباسه و هيأته ، و حتى تلك القفة الشعبية التي يحملها معه دائما و يضع فيها مشترياته و مقتنياته ، حقيقة إنه رمز كل مثقف عضوي نزيه فهو في نظري عالم ورث الأنبياء أخلاقهم و صفاتهم ، إنه " أبو القاسم سعد الله " واحد لم تنجب الجزائر مثله . ألا رحمة الله عليك أيها التقي النقي الطاهر العلم .
وبعد : هل حظي المرحوم أبو القاسم سعد الله بالمكانة التي يستحقها في أهله و بين قومه ؟ إنه السؤال الذي كثيرا ما نطرحه غداة رحيل كل واحد من علمائنا و مبدعينا الكبار ، و الجواب هو بالتمام ما نعرفه و نتوقعه أي أن الرجل عاش بسيطا و مات بسيطا دون التقدير الذي يستحقه و التبجيل الذي هو أهل له ، صحيح أن له الآلاف من الطلبة و الملايين من القراء و الأنصار العاشقين لفكره و كتاباته ، لكن للتاريخ نقول أنه مثل كبار العلماء قد تعرض أحيانا لبعض المضايقات ، و خاصة من قبل التيار الفرنكفوني في الجزائر ، هذا التيار الذي يكون سعد الله قد أفسد خطته في رومنة التاريخ الجزائري حيث إن بحوث أبو القاسم سعد الله و كتاباته حول تاريخ الجزائر الثقافي و حول تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية قد بينت بالدليل القاطع و البرهان أن الجزائر أمة أمازيغية عربها الإسلام ، و ليست أمة رومانية أو مقاطعة فرنسية كما يزعم التغريبيون ، و الحقيقة أن الشيخ سعد الله كثيرا ما فضح التيار الفرنكفوني التغريبي في الجزائر ، و ذلك من خلال الكثير من المقالات التي كان يدبجها و ينشرها ، و من أهمها مقاله المزلزل حول الدور التغريبي لثانوية ديكارت بالجزائر العاصمة ، و هو المقال الذي أحدث ضجة عارمة كادت تكلف سعد الله ثمنا باهضا ، لكن المعروف عن الرجل أنه لم يكن يبالي بالتهديدات و الرقابة ، فالحقيقة على لسانه تتدفق كالماء الزلال و القلم بين يديه يجري كالغدير الفياض لا يخشى في الحق لومة لائم ، إنه " أبو القاسم سعد الله " واحد لا يتكرر لم تنجب الجزائر مثله أبدا . ألا رحمة الله عليك أيها التقي النقي الطاهر العلم .
لقد عشت عزيزا في هذه الدنيا
محمد العيد تاورته
الى روح علامة الجزائر في هذا الزمان (1930 – 2013.12.14) أبي القاسم سعد الله طيب الله مثواه وجعله ضيفا عزيزا ضمن الذين عملوا الصالحات في الدنيا فأكرمهم ربه بجنة الرضوان.
أيها العبقري الوفي الجزائري العربي المسلم المثقف الأستاذ المربي الشاعر الناقد الثائر على الظلم والظالمين... أيها المنتصر لثورتك: ثورة الجزائر العظيمة –والعظمة لله الذي ألهمك- مثلما ألهم الشهداء والمجاهدين – للانضمام اليها، والتفاني في خدمتها، متطوعا في جيش التحرير الوطني وأنت في القاهرة الزاهرة آنذاك (سنة 1956) وألهم عبقريتك الشاعرة فرفعت بقصائدك الثورية اسم الجزائر عاليا في سماوات هذا العالم لقد انتشرت قصائد ديوان (النصر للجزائر) في العالم العربي وبخاصة في المشرق العربي، ووصلت قصائدك الثورة الى (الاتحاد السوفياتي) آنذاك (1957) فترجمت الى اللغة الروسية والى لغات تلك (الامبراطورية) العظمى آنذاك كما ترجمت قصائده الى اللغة الفرنسية لكي يسمح ويعي زبانية الاستعمار الفرنسي آنذاك .. ناضلت في صفوف جبهة التحرير الوطني في القاهرة آنذاك، شاركت مع زملائك من طلبة الجزائر في كل من تونس والقاهرة وفي الولايات المتحدة الامريكية من أجل اسماع صوت ثورة الشعب الجزائري (1954 – 1962) الى كل محبي الحرية والعدالة في العالم، لقد قلت الشعر الثوري الذي عبر حلم الجزائريين طوال قرن وثلث قرن فكان أحسن تعبير:
كان حلما واختمارا
كان لحنا في السنين
كان شوقا في الصدور
أن ترى الأرض تثور
............................
غير أن الارض ثارت
والهتافات تعالت
من رصاص الثائرين
.......................
والنفايات توارت
وبراكين بلادي هزّت الدنيا ومارت
ذلك شيء من شعر الثوري في عز الثورة الخالدة ثورة الشهداء الذين وهبوا أرواحهم لتعود الى الجزائر عزتها، ولكي تعود لكل جزائري حقوقه المغتصبة. ويندحر الظالمون المستعمرون لقد خرجت نبتة طيبة، ومن أسرة طيبة في صحرائنا الواسعة الصافية . من (البدوع) القماري.. وحفظت القرآن الكريم على عادة أهل بلادك في الجزائر والشمال الافريقي، ثم يممت نحو (تونس الخضراء) فتعلمت فيها الدين والأدب وتفتح عقلك على ثقافة تونس آنذاك وتخرجت في جامع الزيتونه العامر بشهادتي (الأهلية) 1951، ثم شهادة "التحصيل) سنة 1954 لتعود الى عاصمة بلادك (الجزائر) العاصمة فبدأت تعلم ابناء وطنك في مدرسة (التهذيت) لكن الثورة ثارت، وحرب عساكر فرنسا على الشعب الجزائري وعلى المثقفين لم تسمح لك بمواصلة عطائك آنذاك، فخرجت الى القاهرة حيث كان الكثير من قادة الثورة الجزائرية آنذاك وحيث كان الامام الشيخ محمد البشير الابراهيمي الذي احتضنك.. فدخلت إلى كلية (دار المعلمين) بجامعة القاهرة فكنت تكافح على جبهتين: جبهة العلم فنلت شهادة (اللسانس) سنة 1959 ثم انخرطت في دراسة (الماجستير)، و أما الجبهة الثانية فكانت النضال من أجل الثورة الجزائرية في الأوساط الإعلامية و الثقافية و المنظمات الطلابية..كل ذلك تحت توجيهات الحكومة المؤقتة الجزائرية، و تحت نظام جبهة التحرير التاريخية...
لقد رأى فيك المسؤولون في تلك الثورة أنك أهل لأن تخدم جزائر المستقبل فأرسلوك للدراسة في (أمريكا) فما خيبت ظنهم أبدا، و كنت الحارس الأمين و المدافع القوي على تاريخ الجزائر فكانت أطروحتك للدكتوراه (الحركة الوطنية الجزائرية 1900- 1930 إلى سنة 1956 فأصبحت أول دكتور جزائري في هذا التخصص بعد الاستقلال، وهذه الأطروحة أصبحت (موسوعة) بفعل اجتهادك و حرصك على الأمانة، ثم دخلت إلى عوالم خدمة الجزائر المستقلة من أبوابها الواسعة، فها أنت أستاذ الجامعة الجزائرية الأول آنذاك و ها أنت تصحح تاريخ الجزائر بقلمك الذي لا يهدأ له مسار، و ها أنت تكتب موسوعة (مسار قلم في أجزائها الستة) و ها أنت تكتب (اللؤلؤة الخالدة): موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي في عشرة مجلدات ضخمة، و ها أنت تقول في مقدمتها إلى الأجيال الجديدة من أبناء الجزائر تقول:
"لقد كان المؤلفون في القديم يهدون كتبهم إلى الملوك و الأمراء و الأعيان و الوزراء، أما أنا فإني أهدي هذا الكتاب إلى (جيل ما بعد الثورة، إلى أطفال الجزائر اليوم الذين سينشرون غدا كنوز الثقافة العربية الإسلامية لبلادهم و يثرونها بإنتاجهم" رحمك الله يا أبا القاسم سعد الله على هذه البصيرة النافذة، الله أكبر و البقاء لله و الخلود للشهداء و للعاملين
من أجل مستقبل الجزائر، وأنت في مقدمتهم
لقد كان العمل بالنسبة لأبي القاسم سعد الله عنوان التقدم، وكان النظام والانضباط والحفاظ على الوقت نظام حياة.
لقد كانت دهشتي عجيبة حين كتبت إليه ذات يوم من سنة 1979 استفسره عن معلومة وأنا أعد لشهادة (الماجستير) أن أجابني في أسرع وقت على ما طلبت، ثم عرفت بعد ذلك أن ذلك كان منهجه في النظام والانضباط وبث العلم في أوساط أبناء بلاده مواصلة العلم.
رحكم الله يا أبا القاسم سعد الله، لقد كتبت عن كل زاوية من زوايا الجزائر الواسعة، وكتبت عن أعلامها وعلمائها سواء من الذين غادرونا إلى عالم البقاء الأبدي أم من الذين مازالوا على قيد الحياة، كتبت عن (محمد الهادي الحسيني) وعن أبي القاسم بن عبد الله، وعن عبد الرزاق قسوم... من الأحياء، وكتبت وماأكثر ما كتب عن علماء الجزائر الذين غادرونا وسبقوك الى الدار الخالدة، لقد كتبت عن (ابن العنابي) وعن (عبد الكريم لفكون) وعن (محمد الشاذلي القسنطيني) وعن ابي عصيدة، وعن (ابن باديس) وعن الابراهيمي، وعن الشهيد العربي التبسي... وعن ابن حمادوش... وعن غيرهم... لقد كتبت عن مدن الجزائر، وكتبت عن قضاياها: كتبت بفكر حر، وما أروع الحرية في فكرك، لقد جسدت الحرية التي آمنت بها، بعد إيمانك بالله، جسدتها في كتبك: (منطلقات فكرية) و(هموم حضارية) و(حوارات) و(قضايا شائكة) و(أفكار جامحة).
ولقد جسدت حبك للجزائر في كتابة تاريخها في موسوعتك الأخرى الخالدة أيضا: موسوعة (أبحاث وأوراق في تاريخ الجزائر)، خمسة مجلدات تحتوي على عوالم التاريخ الجزائري، فكنت تضيف إليه كل ما يعز عليه من تاريخ الجزائر، لقد كتبت عن (الرحلة والرحالين) وكتبت عن رحلاتك أنت، كنت تحب الرحلة مثلما تحب الجزائر، ومثلما تحب أهم الجزائر، فأحب من عرفك من أهل بلادك، ومن العرب، ومن غير العرب، كنت متفتح الذهن فتعلمت اللغات الاجنبية عن كبر، ولكنك تعلمتها بكل إصرار.. تعلمت اللغة الانجليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية والفارسية، لقد ترجم ماله علاقة بالجزائر من بعض تلك اللغات، ترجمتك وما أكثر ما ترجمت، عن أدب الجزائر، وعن تاريخ الجزائر، كنت محققا فحققت الكثير عن الكتب في الأدب وفي الرحلة وفي التاريخ، كنت تصحح المعلومة، وكنت تعلق بعقل نير.
وما أروع ما قلت بشأن اللغات الأجنبية، قلت من تعلم لغة قوم أمن شرهم.. وأضفت، ومن هو الأهم (صنفت أن (من تعلم لغة قوم نال خيرهم أيضا).
رحمك الله أيها العامل المعلم، والأستاذ والمتواضع الثائر في الآن نفسه.
والخلاصة أن منهجك في الحياة الفانية (العمل الصالح) من أجل الجزائر وأهلها وحضارتها.
لقد رسمت منهاجك في العمل والبحث والتدريس والتأليف.. حين قلت في مقدمك (الجزء الرابع) من كتابك (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، وقلت : إن من أهم أهدافك في الحياة: (خدمة الجزائر، والإسلام، والعربية، والمعرفة الانسانية في أوسع معانيها).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.