محمد لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي في كافة وسائل الإعلام    سعيدة: تشجيع ومرافقة أصحاب المستثمرات الفلاحية للانخراط ضمن مسعى تربية المائيات    المغرب: المخزن يستمر في الاعتقالات السياسية في خرق سافر لحقوق الانسان    منتدى الدوحة: إشادة واسعة بجهود الجزائر لنصرة القضية الفلسطينية    إبراز جهود الدولة في تسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    بورصة الجزائر: النظام الإلكتروني للتداول دخل مرحلة التجارب    عطاف يدعو لتوجيه الجهود المشتركة نحو نصرة القضية الفلسطينية    قوجيل: مواقف الجزائر تجاه فلسطين "ثابتة" ومقارباتها تجاه قضايا الاستعمار "قطعية وشاملة"    عطاف يجري بالدوحة محادثات ثنائية مع نظرائه من عدة دول    وزير الداخلية يستقبل المدير العام للديوان الوطني للحماية التونسية    كريكو تؤكد أن المرأة العاملة أثبتت جدارتها في قطاع السكك الحديدية    تيسمسيلت: إلتزام بدعم وتشجيع كل مبادرة شبانية ورياضية تهدف "لتعزيز قيم المواطنة والتضامن"    اتصالات الجزائر تضمن استمرارية خدماتها غدا تزامنا واليوم العالمي للعمال    جيدو/الجائزة الكبرى لدوشانبي: الجزائر تشارك بثلاثة مصارعين    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    حوادث المرور: وفاة 38 شخصا وإصابة 1690 آخرين خلال أسبوع    نجم المانيا السابق ماتيوس يؤكد أن بايرن ميونخ هو الأقرب للصعود إلى نهائي دوري الأبطال على حساب الريال    تندوف: شركات أجنبية تعاين موقع إنجاز محطة إنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية بقدرة 200 ميغاواط    عقب شبهات بعدم احترام الأخلاق الرياضية :غلق ملف مباراة اتحاد الكرمة - مديوني وهران    تاقجوت يدعو إلى تأسيس جبهة عمالية قوية    نظام إلكتروني جديد لتشفير بيانات طلبات الاستيراد    نحو إنشاء بنك إسلامي عمومي في الجزائر    هل تُنصف المحكمة الرياضية ممثل الكرة الجزائرية؟    طاقة ومناجم: عرقاب يستقبل المستشار الدبلوماسي لرئيسة الوزراء الإيطالية المكلف بخطة ماتي    مشعل الشهيد تحيي ذكرى وفاة المجاهد رابح بطاط    رئيس الجمهورية يُبرز الدور الريادي للجزائر    الجزائر معرضة ل18 نوعا من الأخطار الطبيعية    درك بئر مراد رايس يفكّك شبكة إجرامية دولية    ملتقى وطني عن القضية الفلسطينية    أوسرد تحتضن تظاهرات تضامنية مع الشعب الصحراوي بحضور وفود أجنبية    منح 152 رخصة بحث أثري في الجزائر    المغرب: مركز حقوقي يطالب بوقف سياسية "تكميم الأفواه" و قمع الحريات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي/منافسة الأفلام القصيرة: أفكار الأفلام "جميلة وجديدة"    المجلس الأعلى للشباب/ يوم دراسي حول "ثقافة المناصرة" : الخروج بعدة توصيات لمحاربة ظاهرة العنف في الملاعب    حلف دول شمال إفريقيا..العمل يهزم الشعارات    منتجات البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    سياسة الاحتلال الصهيوني الأخطر في تاريخ الحركة الأسيرة    بهدف القيام بحفريات معمقة لاستكشاف التراث الثقافي للجزائر: مولوجي:منحنا 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الاحتلال يفشل في تشويه "الأونروا"    "حماس" ترد على مقترح إسرائيل بوقف إطلاق النار 40 يوما    محرز يقود ثورة للإطاحة بمدربه في الأهلي السعودي    اتفاق على ضرورة تغيير طريقة سرد المقاومة    إبراز أهمية إعادة تنظيم المخازن بالمتاحف الوطنية    بلومي يُشعل الصراع بين أندية الدوري البرتغالي    شباب بلوزداد يستنكر أحداث مباراة مولودية وهران    الشرطة تواصل مكافحة الإجرام    لا أملك سرا للإبداع    مصادرة 100 قنطار من أغذية تسمين الدجاج    إخماد حريق شب في منزل    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    استئناف حجز التذاكر للحجاج عبر مطار بأدرار    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يخجل الكاتب العربي من رواية سيرته؟
نشر في النصر يوم 18 - 08 - 2014

لماذا ينفر الكاتب الجزائري والعربي عموما من كتابة سيرته الذاتية ومذكراته، ونادرا ما يكتب كاتب عربي سيرته بصدق «الشرط الضروري لكتابة سيرة ذاتية حقيقية»، وبأمانة وبحميمية واضحة وخالصة للحياة والفن والأدب، فهل كتابة المذكرات والسير الذاتية مرحلة مفصلية وضرورية في حياة الكاتب، بحيث لا يجب أن يتملص من كتابها وتأريخها، أم هي لا حدث، ولا تعدو أن تكون محطة مهملة، غير مهمة وليس من ضرورة لكتابتها أو التأريخ لها فنيا وأدبيا؟.
وإذا كانت «السيرة» تعني فن ترجمة الحياة لشخص ما، و»السيرة الذاتية» بمعنى آخر، هي سيرة شخص يرويها بنفسه، لماذا نجد أغلب كتابنا لا يرغبون في رواية سيرتهم ويعزفون عنها، وأكثرهم يتخفى تحت جلد شخصيات رواياته وقصصه؟، هل الكاتب العربي والجزائري يخجل من أن يروي سيرته/حياته؟
ولماذا كُتب السيرة قليلة جدا في الجزائر كما في العالم العربي، بل تكاد تكون منعدمة؟، هل لأن هذا الفن، أو هذا النوع من البوح الأدبي الذاتي معرض دوما للإنتقادات والتأويلات التي توجه ضد الكاتب وسيرته.
كتاب ونقاد يجيبون على أسئلة ملف هذا العدد، ويتحدثون عن السيرة ومزاجاتها ومزاجات الكُتاب معها.
لماذا ينفر الكاتب الجزائري والعربي عموما من كتابة سيرته الذاتية ومذكراته، ونادرا ما يكتب كاتب عربي سيرته بصدق «الشرط الضروري لكتابة سيرة ذاتية حقيقية»، وبأمانة وبحميمية واضحة وخالصة للحياة والفن والأدب، فهل كتابة المذكرات والسير الذاتية مرحلة مفصلية وضرورية في حياة الكاتب، بحيث لا يجب أن يتملص من كتابها وتأريخها، أم هي لا حدث، ولا تعدو أن تكون محطة مهملة، غير مهمة وليس من ضرورة لكتابتها أو التأريخ لها فنيا وأدبيا؟.
وإذا كانت «السيرة» تعني فن ترجمة الحياة لشخص ما، و»السيرة الذاتية» بمعنى آخر، هي سيرة شخص يرويها بنفسه، لماذا نجد أغلب كتابنا لا يرغبون في رواية سيرتهم ويعزفون عنها، وأكثرهم يتخفى تحت جلد شخصيات رواياته وقصصه؟، هل الكاتب العربي والجزائري يخجل من أن يروي سيرته/حياته؟
ولماذا كُتب السيرة قليلة جدا في الجزائر كما في العالم العربي، بل تكاد تكون منعدمة؟، هل لأن هذا الفن، أو هذا النوع من البوح الأدبي الذاتي معرض دوما للإنتقادات والتأويلات التي توجه ضد الكاتب وسيرته.
كتاب ونقاد يجيبون على أسئلة ملف هذا العدد، ويتحدثون عن السيرة ومزاجاتها ومزاجات الكُتاب معها.
إستطلاع/ نوّارة لحرش
مخلوف عامر/ كاتب وناقد
لا يمكن أن ننتظر من كاتب أن يبوح بكل أسراره إذا كتب سيرته
إن المذكرات غالباً ما ارتبطت بالمجال السياسي والديبلوماسي وبالمناضلين وصُنَّاع القرار. كما في «كفاحي» ل»هتلر» و»حياة كفاح» ل»أحمد توفيق المدني» و»مذكرات شارل ديغول». وهي عناوين مشحونة بتضخُّم الأنا بما لا يخفى. ومثلها ما راج في السنوات الأخيرة بالجزائر: مذكرات الرئيس الشاذلي و»خالد نزار» و»علي كافي « و»علي هارون» وغيرهم.
فأما الكاتب فلا يرى نفسه في هذا المستوى من صناعة الأحداث فيحجم عن كتابتها تواضعاً منه، أو لأنه لم يتقدَّم به العمر أو لم يبلغ درجة من الشهرة تحفِّزه على كتابتها، أو لأن الأديب يدرك بأن حياته متضمَّنة -أصلا- في إنتاجه الأدبي وفي حواراته فلا يرى ضرورة لأن يُفْرِد لها مؤلَّفاً. بل يرى من واجب القارئ أن يعرفه من خلال الكتابة، فهي مرآته المفضّلة. فأما سيرته فهي مرآته الأخرى، لكن -لا شك- يعلوها بعض الصدأ.
وحتى عندما يكتب الأديب سيرته، فإنها لا تمتدُّ إلى كل نواحي حياته بقدر ما تنصبُّ على إضاءة جوانب من تجربته يراها مفيدة للآخرين. كما في «تجربتي الشعرية» ل:»عبد الوهاب البياتي» أو «هواجس في التجربة الروائية» ل: «حنا مينة».
فلا يمكن أن ننتظر من كاتب أن يبوح بكل أسراره إذا كتب. فالغالب عبر العصور أن الكاتب نرجسي ميَّالٌ إلى المجاملات، فلا يمكن أن يتَّسع خاطره ويتجرَّأ على ذكر ما يخدش صورته التي لا يريدها إلا لامعة برَّاقة، فضلا عن أنه مُعرَّض للنسيان. ولو أن «زهور ونيسي» تقول: «إن ما أريد قوله، أقوله بكل بصدق وشفافية ودون رتوش». وهي إذْ أقدمت على كتابة سيرتها «زهور ونيسي، عبر الزهور والأشواك»، فلأن حياتها لم تبْقَ في حدود الممارسة الأدبية، بل تقلَّدت مسؤوليات، والتقت بأسماء كبيرة تُغري بأن تكون في سجل حياتها وإرثاً لأسرتها وهو حق مشروع. وقد حصل التردُّد في تسميتها: مذكرات؟ أو يوميات؟ أو اعترافات؟ أو سيرة روائية؟.
المرحوم «عمار بلحسن» عندما أصابه المرض الخبيث وطال عليه كتب يومياته بعنوان «كتابات متورِّمة، يوميات الوجع، آفاق الأمل». لكنَّ هناك توجُّهاً في السنوات الأخيرة يتعلق بتجارب عدد من الأدباء. أصبحوا يعودون إلى هذا النوع من الكتابة بغرض إحيائها وإعطائها بُعْداً فنياً من غير أن ينتظر الأديب مرحلة الشهرة. وهذا توجُّه محمود يجعل الأديب يسجل ما تقع عليه عيْنه أثناء زيارة أماكن مميَّزة أو التقائه بشخصيات لم يكن يعرفها.
إذ بالإضافة إلى الطابع الإنشائي المغري الذي يكتب به، فإنه يسهم في كتابة تاريخ الأدب بقدر ما. الأمر الذي يجعل السيرة في تماس مع أدب الرحلة الذي قد تنسحب فيه الذات الكاتبة أكثر لتفسح في المجال لسرد الأحداث ووصف المشاهد. فالسيرة الذاتية رحلة في الحياة الشخصية تتمحور فيها الأحداث حول الذات وتنحو نحو الغربلة والانتقاء بما لا يتعارض مع الصورة التي تسعى هذه الذات إلى رسمها.
أمين الزاوي/ روائي
متى يكون لنا روسو أو هنري ميللر في الأدب العربي السيروي؟
متى تكون لنا شجاعة روسو أو هنري ميللر أو سيمون دو بوفوار أو أندري جيد وغيرهم كثير في الثقافة الأوروبية والأمريكية، حتى يكتب أدباءنا سيرهم الذاتية بكل صدق وشجاعة؟ وهل بالإمكان ذلك في ظل ما يحيط بالكتابة والكاتب في العالم العربي والمغاربي من قمع مباشر ورمزي، ديني وأخلاقي وعاداتي؟.
الكاتب العربي أو المغاربي الذي تربى داخل ثقافة مقموعة قائمة على الكبت والصمت والسكوت والتلميح والخوف ليس باستطاعته دلق لسانه لقول مسار حياته كما عاشها.
نحن أبناء ثقافة دينية إسلامية مناهضة للاعتراف، لا نعرف بل نعارض ثقافة الإعتراف التي هي جزء أساسي في الثقافة المسيحية، نحن أبناء ثقافة «الدس» و»التقية» و»إخفاء الجريمة»، وحتى مسيحيو العرب من الكتاب الذين عاشوا داخل المجتمعات العربية الشرقية التي يضغط فيها الدين الإسلامي لم يتجرؤوا على كتابة السيرة الذاتية بمفهومها الاعترافي الكنسي.
في ثقافتنا المهيمنة هناك عناصر تسكن اللاوعي وهي المستيقظة باستمرار تمارس الرقابة بكل أنواعها الأخلاقية والدينية والسياسية وهي التي تمنع الكتابة الحرة للسيرة الذاتية.
نحن أبناء ثقافة: «استر ما ستر ربي»، نحن أبناء ثقافة: «إذا بليتم فاستتروا»، نحن أبناء ثقافة: «غض الطرف»، نحن أبناء: «عفا الله عما سلف»، نحن أبناء: «دير كيما جارك وإلا غير باب دارك».
كل هذه القيم الثقافية التي نحملها في ضميرنا اللاواعي تمارس عملية فرملة الحقيقي والصادق فينا وبالتالي تدفع الكتابة السيروية نحو مرض «الطهرانية الكاذبة» تدفع بها نحو عملية «تنظيف»، كما يحدث مع المجرم حين «ينظف مكان الجريمة»، إنه وفي عملية تنظيف «المكان/الكتابة من أثر الجريمة» يقوم الكاتب بتنظيف الكتابة من الحياة ويمنحها بالمقابل الموت والنفاق الديني والسياسي.
السيرة الذاتية الصادقة تحتاج وتتطلب ثقافة احترام «الحرية الفردية» ونحن في المجتمعات العربية والمغاربية الإسلامية نعيش ثقافة «القطيع»، الصوت الواحد ملغى أو ينظر إليه نظرة ازدراء أو نكران.
حين كتب الروائي المغربي محمد شكري روايته السيروية «الخبز الحافي» وهي جزء بسيط من حياة الكاتب وأعتقد أنها نص ليس فيه ما قد يخدش الإطار العام للثقافة السائدة، قامت القيامة ضد الروائي وظلت الرواية ممنوعة ومحاربة في المجتمع الثقافي وفي الجامعات العربية إلى أن تم تحريرها بشجاعة من وزارة الثقافة المغربية حين نشرت الأعمال الكاملة للكاتب بعد وفاته، وعلى الرغم من أن «الخبز الحافي» سيرة ذاتية روائية اختلط فيها الواقعي بالخيالي أو بالمتخيل إلا أنها لم تسلم من سيف الفقيه الذي يسيطر على الأدب والثقافة.
حين كتب سهيل إدريس مذكراته ونشر الجزء الأول منها بعنوان «ذكريات الأدب والحب» وتحدث فيها بنوع من الشجاعة في بعض فصولها خاصة تلك المتصلة بالأسرة وبالأخص ما ارتبط بشخصية الأب الذي كان لواطيا مِثْليا، هذا الحال أثار ثورة العائلة، وسنجد أسرة سهيل إدريس تتدخل لمنع نشر الجزء الثاني والأجزاء الأخرى. إذا كان هذا حال ومآل السيرة الذاتية لسهيل إدريس وهو أحد الرموز المركزية في الثقافة العربية فما واقع كُتاب السيرة الآخرين. هذا يؤكد لنا بأن الآخر/الأسرة/الجار/ المؤسسة تعيش الحياة نيابة عن الكاتب العربي والمغاربي.
الكتابة في جوهرها صنو الحرية والسيرة الذاتية هي أكثر النصوص ارتباطا ومقياسا لهذه الحرية، وهي حقل ألغام مفتوح في مجتمع لا يؤمن بالحرية ولا يمنح للفرد مقاليد أيامه وحرية سلوكه.
إن المجتمعات الثقافية والأدبية التي تغيب فيها «السيرة الذاتية» هي مجتمعات تهيمن فيها ثقافة النفاق.إن غالبية من كتبوا سيرهم الذاتية «هي في غالبيتها مذكرات وليست سير ذاتية» من الكتاب العرب والمغاربيين كتبوا نصوصا تتميز بالطهرانية، كتبوا سير ذاتية للملائكة أو للأنبياء.
قلولي بن ساعد/ قاص وناقد
غيابها من غياب إنسجام المثقف مع ذاته على الصعيد النفسي
عند الحديث عن تهرب الكُتاب العرب بما فيهم الجزائريين عن كتابة سيرهم الذاتية الروائية، علينا أولا أن نفرق بين السيرة الذاتية الروائية وبين الطابع السيري في الرواية الذي يتسرب من لاوعي الروائي إلى فضاءات نصه ليلقي بظلاله وأشعته على النص الذي يكتبه، بما يعني من الإقتراب من عوالم الكاتب الذاتية الدالة على صحة «هويته النصية» بكافة مكوناتها الذاتية والنفسية التي تطال تكوينه الذاتي والتربوي والمعييشي، وبين السيرة الذاتية الروائية، وهي الفن الذي لازال غائبا ومغيبا في المشهد الروائي العربي. شخصيا أستبعد كثيرا أن يقدم المبدع العربي على خطوة جريئة مثل هذه، بإستثناء ما فعله الروائي محمد شكري في «الخبز الحافي» الذي سيظل عمله المتفجر الأكثر جرأة في تناول محظورات تجربته في الحياة والوجود منذ أن كان طفلا، وهو الإستثناء الوحيد، فبالنظر للإنفصام الشخصي الذي يميز سرديات انخراط المبدع في معركة الكتابة الإنفصام القائم في ذلك التناقض الصارخ بين القيم الرمزية والإنسانية التي يحفل بها نصه الإبداعي الغائبة تماما في مواقفه ورؤياه الحياتية بما يعني من إفتقار المبدع العربي الكلي للصدق الفني ولقيمة الإنسجام مع الذات على الصعيد النفسي، فخطاب الشفافية والوضوح فيما أرى هو «النص الغائب» الذي لم يُكتب بعد عربيا إلا نادرا إنه «الوعي الشقي» الذي تحدث عنه جان بياجيه وسماه «الوعي بالإزدواجية والتناقض» وما عدا ذلك من قيم يزعم أنه ينافح عنها فهي مجرد ملفوظات للعرض والطلب لا غير، لأن كتابة السيرة الذاتية بكل الصدق والجرأة الممكنة في تجاوز «الأسيجة الدوغمائية» بتعبير أركون يتطلب إنسجاما مع الذات وتحررا من كل المكبوتات ومن تاريخ طويل من التكتم الذي يميز المجتمعات العربية، فمناهج التعليم المحافظة والنصوص الإستهلاكية الجاهزة، نصوص الخوف و»الحياء الأدبي» هي أيضا عائق آخر يضاعف من الإقتراب من هذا الحلم السيري ضمن فضائنا الإجتماعي العربي التقليدي المسيج بنسيج كبير من المكبوتات الذاتية والدينية والسياسية، وبهذا المعنى فأنا أرى أن الحلم برؤية كتابنا العرب يقدمون على كتابة سيرهم الذاتية بالشكل الذي يتطلع إليه القارئ ويرى فيه كل الصدق مثلما فعل ذلك محمد شكري في «الخبز الحافي» لازال بعيدا بل مستبعدا.
عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد أكاديمي
السيرة في العالم العربي وفي الجزائر عين الجنون من منظور الثقافة العربية المرتبطة بستر الذات وبتقديس هَالتها الصادقة أو الكاذبة
ربما كانت السيرة بالمفهوم المعاصر للكلمة هي كشفُ مستورٍ وتعريةُ ذاتٍ، ومن ثمة، فهي فضيحة بمعنى ما لا يقوم بها إلا من يريد أن يلحق ضررا بشخص آخر، إذ لا يمكن للذات أن تفضح نفسها وأن تتباهى بعدّ مثالبها والإقرار كتابةً وشهادةً بما اعتراها من عيوب تكون قد أثرت في مسيرتها ومسيرة محيطها خاصة في العالم العربي وفي الجزائر حيث لا يمكن أن نتصور سياسيا أو مثقفا أو أديبا يعرّي نفسه ويمشي في الأسواق. إنه عين الجنون من منظور الثقافة العربية المرتبطة بستر الذات وبتقديس هَالتها الصادقة أو الكاذبة.
إنّ السيرة الذاتية، بهذا المعنى، نميمةُ لا يقوم بها إلا شخص آخر. وهي من هذا الباب لا يمكن إلا أن تكون مزيفة إلى حدّ ما. وهي بهذا تُكتب من طرف الآخر كتاريخ أو كتقويض لهذا التاريخ، ولا يمكن أن تُكتب من طرف الذات، لأنها ليست ضمن مشروع الذات في الاعتناء بما حدث لها خلال مسيرتها، وبما طرأ عليها من أحداث مفصلية غيرت معالم حياتها. إنها، بهذا المعنى، عمل ناقم وخطير لا يمكن إلا أن يعود على الذات بما يهدم مركزية تباهيها بما تعتبره إنجازا هاما في حياتها لا يمكن أن تكتبه بلغة التقويض والتعريض، وإنما بلغة المدح والتبجيل. ولذلك، فإن الذات تتعامل معها بخوف كبير بما هي قراءة ناقدة للذات، واستظهار نافذ لغوامضها، وتفكيك جليّ لبنياتها، ومراجعة متكررة لمواقفها، وتقويض فاعل لأطروحات مواقفها التي تكون قد ناقضت بدرجة كبيرة خط سير التاريخ في مرحلة تماهيها معه.
ومن هنا، فإن حالة كهذه تستدعي بلوغ الذات مستوى عميق من الوعي بنفسها بحيث تصبح قادرة على الفصل بينها وبين ظلها اللصيق، أي بينها وبين حارسها ورقيبها الدّائم، بما يحمله هذا الحارس من مستويات كبت نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية، بحيث تعاود الذات استجلاء ما اعتراها من نكوص لكي تصحح المسار وتصلح ما اعوّج منه من مواقف. إنها تصبح في هذه الحالة بمثابة اعتراف رسميّ للذات بأخطائها وشجاعة كبيرة في كتابة تاريخها بضمير المتكلّم. نرى هذا جليّا في التاريخ الغربي وفي آدابه، وخاصة في السرد الذي يعتمد بدرجة كبيرة على استغلال عناصر السيرة الذاتية لتحقيق مستويات عميقة من الإبداع إلى درجة أصبحنا نتحدث فيه عن نوع جديد من الرواية هي الرواية السيرذاية التي تختلف في خصائصها السردية وطريقة تحققها النصّي عن رواية المعيش القريبة من المذكرات، أو رواية المتخيّل المعروفة، أو الرسائل الشخصية بين الأدباء التي تحمل عادة في طياتها أسرارا الكتاب ومواقفهم.
والغريب أن كل هذا يبدو غائبا عن المدونة الأدبية العربية والجزائرية المعاصرة بصورة جلية إلا ما ندر، وذلك على الرغم من وجود مصطلح السيرة في الأدب العربي والتاريخ العربي بوصفها مرادفا لتدوين التاريخ من وجهة نظر شخصية، والذي بقي مرتبطا بهموم الذات الجمعية وبتحولاتها، نظرا لارتباطه بتاريخ الجماعات وبتاريخ الأبطال الصانعين له من زاوية تأكيد الحدث وتأجيج رياح التاريخ في الاتجاه الذي تريده المرحلة كما هو الحال في كتب السير والتراجم الكثيرة كسيرة بني هلال وغيرها، ولم يتطور في منظوره الشكلي إلى مستوى الإبداع الأدبي، ونادرا ما نجد كاتبا اعتنى بكتابة سيرته الذاتية من باب ما توحي به الكلمة في عصرنا الحالي، وخاصة في الأدب الغربي، من معنى هو أقرب إلى الإفضاء بأسرارها والاعتراف بأفعالها وتوظيفها كمادة إبداعية ومعرفية.
ربما تكفلت نماذج عديدة من الرواية العربية خاصة بلعب هذا الدور من خلال تضمين الكاتب بعض عناصر سيرته الذاتية، غير أن ذلك لم يتم إلا من باب الإسقاط وليس من باب الاعتراف، وهو يحتاج في هذه الحالة إلى ناقد وليس الكاتب نفسه، يسعى، من خلال تمحيصه لحياة الكاتب، إلى الفصل بين الواقعي والمتخيّل وبتفكيك بواطن ما يخبئه في نصّه.
لقد استغل الكاتب العربي في عصرنا الحالي فضاء السرد عموما لتمرير تاريخه الشخصي بطريقة واعية أو لا واعية، غير أن صورة هذا التاريخ تبقى محاطة بكثير من الجدران الحصينة التي تخصصت في كشف الآخر لأنه في نظره ستر وتحصين للذات. ولذلك وجب البحث عمّا تخبئه الذات في ما تصرّ على التعريض به وهي تأكل لحم الآخر. إنها حالة الذات العربية التي تتقن تزييف التاريخ ولا تتقن إصلاحه.
لونيس بن علي/ ناقد وكاتب
للنص سيرته الذاتية
من الصدف أنّي أنهيت الأسبوع الماضي قراءة «السيرة الطائرة» للروائي الفلسطيني «إبراهيم نصر الله»، وأتذكّر أني قرأتها بمتعة كبيرة، كأنني أتصفح رواية. إنها سيرة مختلفة عما عهدته من السير الذاتية التي يكتبها أدباء ومفكرون يتعرّضون إلى محطات من حياتهم، في حين أنّ هذه السيرة كانت أقرب إلى كتابة سيرة النصوص منها إلى كتابة سيرة مؤلفها. أظن أنّ السيرة التي يكتبها روائي أو شاعر هي أيضا سيرة لنصوصه الإبداعية التي تؤرّخ لمحطات أساسية من حياته الإنسانية والإبداعية.
نتوقف في سيرة نصرالله عند محطات مهمة تتمثّل أساسا في رحلاته الكثيرة إلى مناطق مختلفة في العالم، حيث كان يلقي شعره بكل لغات العالم، فكما قال، لم يكن يدري يوما أنه سيرى العالم، وأنه سيسافر بنصوصه ليعرّف العالم بقصة الإنسان الفلسطيني.
إنّ كتابة السيرة الذاتية ليست فقط شكل مرآوي ترى الذات الكاتبة نفسها عبرها، بل هي سيرة النصوص كذلك، وأتذكر هنا كتاب لهنري ميلر «كتب في حياتي» فهو كتبَ سيرة النصوص التي قرأها وأثّرت في مساره الإبداعي، فمن خلال تلك النصوص كان ميلر يرى ذاته تتشكّل أمامه. إنها السيرة الوحيدة التي يمكن أن يكتبها الكاتب دون أن يواجه سؤال الحقيقة.
إنه السؤال الكبير: كيف يمكن كتابة سيرة الحياة دون أن يحوّلها كاتبها إلى مجرد خرافة عن الذات؟.
في «السيرة الطائرة» يؤرّخ نصرالله للعلاقات الإنسانية التي كانت سببا في تعميق تجربته ككاتب إنساني أخرجته قصائده من الحيز الجغرافي الضيّق، ودفعت به إلى رحاب العالم، فهِم أنّ الشعر هو لغة العالم، وأنّه لا يحتاج إلى من يترجمه، طالما أنّه يتوجه إلى النفس الإنسانية. يمكن الإحساس بالشعر دون وساطة الترجمة. كتب سيرة النصوص التي تفجرت في سفرياته، في لقاءاته، ويتذكّر أنّ فكرة روايته «مجرد رقم 2» حاصرته وهو في الطائرة متجها إلى ليبيا، وقد كان في الطائرة أطفال ونسوة هربن من أتون الحرب في فلسطين، فكان المشهد كافيا ليفجر فيه الرواية التي كتبها دفعة واحدة، وهو في الطائرة. إنّ مثل هذه السير تفيد ناقد الأدب، وتجعله أكثر قربا من تجربة الكُتّاب ونصوصهم.
سعيد موفقي/ قاص وناقد
ضرب من المغامرة
المذكرات أو السيرة الذاتية ضرب من الإعتراف الذي يتناول وقائع شخص أو يومياته التي يُكشف عنها للآخرين مشافهة أو مكتوبة، والوصول إلى هذه القناعة يعتبر ثقافة ومرحلة نضج و وعي بتجارب الحياة، يمكن للآخرين الاطلاع عليها حينما تتوفر الشجاعة الكافية لدى صاحبها ويدرك أهمية علاقته بالآخرين وما يكتبه يشكّل إضافة إنسانية وليس فضحا لأسراره كما يعتقد كثير من الكتّاب العرب حديثا، لأنّ هذا العمل سيتحول إلى ممارسة فنيّة ووثيقة تاريخية مرجعية ذات صبغة أدبية شكلا ومضمونا ، ومن النادر أن نعثر على محاولات بهذا المستوى في المدونة الأدبية العربية الناضجة إلا ما وصلنا من التراث بشكل متفرد يقف أصحابه على الحقائق والاعترافات والتعبير عن مشاعرهم وأرائهم في مشاغل الحياة وارتباط ذلك بأسباب سعادتهم أو تعاستهم، غير أنّ العملية ظلت إلى وقت قريب جدا إلى ما يشبه الكتابة السردية حينما يوظّف الكاتب شخصية ما ربما بغير اسمها الحقيقي يمارس عليها انطباعاته ومختلف يومياته التي تتنامى بعامل الزمن وتطور العمر، بين ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، يؤطرها غالبا عمل روائي تتلبس فيه الحقيقة بين الحادثة الواقعية وبين الحادثة المتخيّلة التي يدفع إلى كتابتها مجموعة من العوامل أهمها: السن إذ التفكير عادة في كتابة المذكرات واسترجاع الذكريات للتّلذّذ بها من جهة وصحوة الضمير الذي بلغ مرحلة النضج أكثر، للتّواصل مع الماضي والحنين إلى الطفولة والوقوف على المكاسب والانتصارات والمحطات التي شهدت حياته فيها نجاحه وفشله، والإشكالات المختلفة مع غيره من وسطه الاجتماعي والثقافي والفكري وغيرها من جهة أخرى، وعامل آخر يحزّ في نفس أيّ كاتب هو الرّغبة في تخليد مسيرة حياته التي لم يبح بها في حينها وتركها إلى هذا اليوم لتغطي جانبا من أثره في سن متأخرة، إنّ ندرة هذا النوع من الأعمال الذاتية في المدونة الأدبية العربية يعود إلى غياب الحسّ التاريخي وعلاقته بالحسّ الفني مع توفر هذه الشروط وطغيان العاطفة على الذهن في التعامل مع القضايا العامة. لذلك التفكير في كتابة السيرة الذاتية عندنا يعتبر في نظر الكثير إن لم نقل: الأغلب، ضربا من المغامرة ومن الخصوصيات التي لا يحق للغير التعرف عليها أو استكشافها، فيظل محتفظا بها لنفسه طيلة حياته، في أحسن الأحوال يكتبها لتتغذى عليها رفوف مكبته أو تدفن معه بعيدا عن مجموعة الآثار الإنسانية.
عبد الله العشي/ ناقد وكاتب
سيرة الكاتب فيما كتبه من أدب
على أي أساس نحكم بقلة السيرة الذاتية أو كثرتها في ثقافة ما؟ هل ثمة عدد معين نعتمده مقياسا؟ هل من الضروري أن يكتب الكاتب سيرته الذاتية؟ وهل من الضروري أن تُكتب السيرة الذاتية أصلا؟ أليست سيرة الكاتب فيما كتبه من أدب؟ ثم من أية زاوية نقيم السيرة الذاتية؟ هل من الزاوية الفنية أم من الزاوية الفكرية أم من زاوية المعلومات التي تتضمنها والأشخاص والأحداث الذين تحيل اليهم؟ هل من ثراء ذاكرتها أم من توهج خيالها؟
لا أحد يشك في أهمية السيرة الذاتية، فهي تفسر كثيرا من مغالق الكون الأدبي لدى الكُتاب، وتشرح رموزه، وتقف عند موجهاته المخفية، وتحل مشكلاته المعقدة. إضافة إلى ما في عنصر التذكر من متعة فاتنة. ومع ذلك فليست كتابتها ضرورة إنما هي اختيار قد يجد قبولا لدى كاتب ولا يجد قبولا لدى آخر، فنجيب محفوظ رغم ما كتب من أعمال قصصية وروائية لم يكتب سيرته الذاتية، ولو كتبها لكان أفضل بطبيعة الحال، ولكنه لم يفعل. بينما كتب أدباء كبار سيرهم، أمثال كازانتزاكي ونيرودا وسارتر وماركيز وكانت سيرا في قمة الإبداع.
من الطبيعي ألا يكون الاهتمام بالسيرة الذاتية والانشغال بكتابتها أمرا مركزيا لدى الكتاب، لأن السيرة كتابة حرة تأتي غالبا بعد تجربة زمنية طويلة من الكتابة في أحد الأجناس الادبية، لتكون تتويجا لخبرة في الكتابة أو رؤية للعالم والإنسان. يعني أنها تأتي بعد عشرات من التآليف في الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرح أو النقد الأدبي. سيذهب البعض إلى تحليلات نفسية أو اجتماعية أو سياسية في تفسير قلتها أو غيابها، وقد تصح بعض تلك التفسيرات وقد لا تصح، ولكن الصحيح أننا لا يمكن أن ننتظر أن يكون عدد السير الذاتية بعدد دواوين الشعر أو الروايات أو القصص، فالكاتب الذي يكتب سيرته يكون قد كتب عشرات الروايات والقصص والدواوين الشعرية. فتأتي سيرته الوحيدة لتقابل ثلاثين أو أربعين كتابا. ليس منطقيا أن نصبح كل يوم على سيرة ذاتية نجدها على موائد الإفطار.
أعتقد أن الثقافة الجزائرية عرفت ظاهرة السيرة الذاتية بالقدر الكافي، وهي ستنمو مع نمو الأشكال الأدبية الاخرى وأعتقد أنها ستتكاثر بفعل الوقت، ويمكنني أن أشير إلى بعض الأسماء التي تحضرني ممن كتبوا سيرهم: الشيخ البشير الإبراهيمي، مالك بن نبي، توفيق المدني، الشيخ محمد خير الدين، محمد الميلي، ابو القاسم سعد الله «مذكرات» محمد الصالح الصديق، أحمد طالب الابراهيمي، عبد الله الركيبي، عبد الملك مرتاض، الطاهر وطار، زهور ونيسي، محمد ناصر، واسيني لعرج، وعشرات السير الذاتية للسياسيين والمجاهدين والضباط والعلماء. لكن الذي لم تعرفه السيرة بالقدر الكافي هو البحث في السيرة، فمجمل الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية انصب، أساسا، على الرواية ثم الشعر، وربما لم يعتبر السيرة شكلا أدبيا، لأنها لا تستجيب لمعطيات المنهج النقدي، أو لأغلبها على الأقل، وقد أُهملت دراسة السيرة كما أُهملت دراسة أشكال أدبية أخرى مثل الرحلة والمذكرات والتراجم الشخصية والحوارات والرسائل. وقد ساعدت المناهج النقدية البنيوية على تهميش بعض الأشكال ربما لان بعضها يحيل على المرجع أكثر مما يسعى إلى بناء النص مثلما هو الحال في السيرة والرحلة وغيرهما.
ينبغي أن نشير أيضا أن أغلب كتابنا من الشباب، فهم منشغلون حاليا بتحقيق وتنفيذ مشروعاته الأدبية، رواية أو شعرا، ولا تمثل السيرة حاليا مركز اهتمامهم. فلا ينبغي، الآن، أن نطلب من السايح لحبيب أو أمين الزاوي أو أحلام مستغانمي أو لعرج واسيني، أو محمد ساري أو سعيد بوطاجين أوغيرهم أن يكتبوا سيرهم لأنهم لو كتبوها ستكون سيرا جزئية بالتاكيد، ومن هنا فالقول بغياب السيرة او قلتها، في اعتقادي، سابق لأوانه. ربما سيفكرون في الكتابة الآن وسيكون السؤال مشروعا أكثر بعد بضع سنوات.
حبيب مونسي/ كاتب وناقد أكاديمي
السيرة الذاتية..هل حان أوانها؟
قدّم أحد الطلبة للروائي والمفكر «ستيفان زفيغ» نسخة من أطروحته التي قدمها فيه، متتبعا مسار حياته خطوة خطوة، عارضا كل شاردة وواردة في حياة الروائي المهنية، وقد صفف كل ذلك في أبواب وفصول ومباحث. وكانت نية الطالب أن يقدم لأستاذه خير إنجاز يقدمه للعالم من خلال ما خطت يداه، وما ألقاه من محاضرات، وما سجله من دروس، وما بث من محاورات ومجادلات، ولما جلس «ستيفان زفيغ» يقرأ السفر الذي بين يديه، كان همه الأول البحث عن ذاته في هذا الركام من الأعمال التي تدكست مع الأيام والسنوات في الرفوف، فلم يجد شيئا يتصل به اتصالا مباشرا، وانتابه شعور غريب وكأنه يطل على رفوف مكتبة يعلوها الغبار، تحمل اسما يعرفه ولكنه ينكر فيه هذا الجانب الموضب المرتب، ساعتها شعر أن عليه أن يكتب شيئا ليكشف للناس من هو «ستيفان زفيغ» الحقيقي الذي يرفض هذا التنميط والترتيب، والذي لا يعرف كيف تراكمت هذه الأعمال ولا كيف وجد الصبر في نفسه لإنجازها، ولا كيف اختارها لتكون نظرته للحياة والناس، شعر أن عليه أن يقول للآخر أنه مختلف، فكتب كتابه الرائع «فوضى المشاعر» «la confusion des sentiments» وراح يتحدث فيه بحرية تامة، عن الشاب النزق المزهو بعوده الفارع، المحب للحياة والشراب واللهو، وعن علاقته بأستاذ الأدب «الشاذ» الذي أحبه واحترمه، وعن زوجته التي ارتبطت به مفتونه بعلمه ولكنها تتألم لشذوذه وتعيش الحرمان المضاعف في صمت، وعن أشياء تتصل بالأدب وتذوقه، تخرج عن إطار الرسميات وما سار عليه الأقران في ذلك الوقت.
ومعنى هذه الوقفة أن الكاتب يكتب سيرته الذاتية إذا شعر أن هناك شيء في حياته يجب أن يظهره للناس حتى يعدِّل من رؤيتهم إليه، وحتى يخرج إليهم «الإنساني» في حياته، لأنه يرفض أن يُقدَّم للآخر على أنه «ذات» كاملة النظام والترتيب، لم تُخلق إلا لتكون آلة منتجة للعلم والمعرفة، خالية من الأشواق والمشاعر والأحاسيس، فقد كتب العقاد «أنا» وكتب غيره «الأيام» و»حياتي» ولكنها لم تكن إلا تسطيرا لمشوار فُرض على الذات وسارت فيه مكرهة، وأنجزت فيه ما أنجزت، لأنها لم تجد بدا للفكاك من أسره.
إذن متى يكتب الإنسان سيرة حياته؟. حينما يجد في حياته شيئا يستحق الذكر خيرا أو شرا. هكذا يقول البعض، وربما تكون هذه المقولة مقبولة في عمومها، غير أن الذين يظنون في حياتهم ما يجوز البوح به كُثُر، وأن قصصهم تملأ صفحات الجرائد اليومية من عثرات وسقطات، فهل يصلح ذلك لكي يكون سيرة أدبية؟، أم أن السيرة تتوقف على «المواقف» التي وجد الأديب فيها نفسه وجها لوجه أمام الحياة ومعضلاتها الفكرية. وكان عليه أن يتخذ منها «موقفا» تتغير به مجريات حياته تغيرا كبيرا؟. إن الذي يعيش «للفكرة» -أيا كانت قيمتها- ربما شعر في نهاية سعيه أنه قادر على بسط معاناته معها في كتاب، وأن السيرة هنا ستأخذ منعطفا فكريا، فلا تلتفت إلى اليومي العابر من حياة الناس، وترتفع عن كونها تعرية للذات، وبوحا رخيصا، واعترافا مرضيا، إلى كونها «مشاركة» تقدم شطرا من عراك الذات مع المعتقد، والاتجاه، والرؤية، في خضم عالم يتماوج بأفكار متناقضة، حينما أستعرض أدباءنا أجدهم، إن كتبوا جنحوا للمذكرات، يقتطفون فيها باقات من المواقف والأفكار، ولكن زمن كتابة «السيرة» لم يحن بعد على النحو الذي فعل «ستيفان زفيغ» من قبل.
سعيد خطيبي/ كاتب ومترجم
كتابة السّيرة الذاتية هي اللّحظة الأكثر حرجا في مسيرة الكاتب
السّيرة الذاتيّة حاضرة في كتابات بعض الأدباء الجزائريين، نجدها مثلا عند مولود فرعون «نجل الفقير» أو ياسمينة خضرا «الكاتب» أو آسيا جبار «لا مكان في بيت أبي». الكاتب الجزائري ينظر إلى نفسه غالبا من زاوية إيجابية، ويلبس في آن عباءة دون كيشوت وقبعة دون خوان، لا يكتب سيرة مُعلنة، ويُفضل قولبتها في شكل روائي، والاختفاء خلف شخصيات مُتخيّلة، مع إضافة بعض الميزات، ليجعل من نفسه شخصية مؤثرة، تناسبا مع خاصية الكاتب النرجسية عموما، هو يرتمي في أحضان الورق، مستعيرا حيوات أخرى غير حياته الحقيقية، تجنبا لمحاكمات القارئ وللتأويلات، التي ربما ستؤثر عليه وعلى جلّ أعماله السّابقة واللاّحقة.
لما اكتشف الكتّاب العرب، بداية الثمانينات، رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، وسيرة الكاتب الصعلوك، المُتحرّر من دساتير المجتمع والمُتمرّد على أخلاقيات الجماعة، وبعد الضّجة التي تلت صدورها، ونجاحها في المكتبات، توقّع البعض أن يسير كُتاب عرب آخرون على النهج نفسه ويكتبون سيرهم، ولكن حصل العكس. الكاتب العربي إجمالا يمتنع عن النظر إلى نفسه، يخجل من سرد حقيقته. الكاتب العربي، الخادم «المُطيع» –بمحض إرادته– في بلاط السّلطان، يخشى أن يتجرد من ثيابه أمام القارئ، فهو يفعل فعلا ويكتب النقيض تماما، يجلس في موائد السّلطة، ثم يتظاهر بمعاداتها، يأكل من يد الحاكم المُستبد، ثم يتظاهر بالدّفاع عن المظلومين. ماذا ينتظر القارئ من سير كُتاب يعيشون بأقنعة موسميّة؟ الأكيد أن القارئ العربي لن يجد ما ينفعه في سير كُتّاب مثل جابر عصفور. ونفس الشيء في الجزائر، ماذا ينفع القارئ في سير كُتّاب غير مستوعبين لوظيفة الأدب، وغير متخذين مبدأ الحياد، ولا مسافة تفصلهم عن نار السّلطة؟ كتابة السّيرة الذاتية هي اللّحظة الأكثر حرجا في مسيرة الكاتب، ولن تبلغ قيمتها إلا إذا التزم الصّدق والموضوعية؟ الصّدق والموضوعية هما مفهومان لا يناسبان كثيرا من الكُتّاب الجزائريين. لما يصرح أحدهم: «أنا مثقف السّلطة، وأفتخر» فهو يتجرّد تماما من صفة المثقف، وينوب عن كثيرين مثله، يريدون قول العبارة نفسها بصوت عال. لكن، من دون أن يسمعهم القارئ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.