البويرة: السيد شرفة يضع حجر الاساس لإنجاز ستة مراكز تخزين للحبوب    تهيئة الواجهة البحرية للعاصمة: بداني يؤكد التكفل بانشغالات الصيادين    بيئة بحرية: دعوة إلى تعزيز جهود التحسيس بمخاطر التلوث بالمعادن الثقيلة    هيئة صحراوية تدعو الشركات الأجنبية إلى وقف نهب موارد الشعب الصحراوي والانسحاب من الإقليم المحتل    باتنة: وضع حيز الإستغلال لسد بوزينة    رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي،الفريق أول شنقريحة من قسنطينة: الجيش سيبقى بالمرصاد لمن يقف وراء تهريب المخدرات إلى الجزائر    أسئلة في المتناول وترفع من حظوظ النجاح    أحزاب تدعو للتوافق على مرشّح للرئاسيات    مشروع قانون الرقمنة.. لبنة أساسية في مسار التحول الرقمي    تعزيز قدرات تخزين الحبوب عبر 52 ولاية    التزام بترقية النشاط الصناعي في بومرداس    استعراض واقع وآفاق التعاون وتعزيز الشراكة    "حماس" تدعو إلى إدراج الاحتلال في قائمة الكيانات المجرمة    استنهاض الضمير العالمي لوقف الجرائم ضد أطفال فلسطين    نجوم العالم يستنكرون مجازر رفح    17 ألف طفل فقدوا ذويهم في غزة    العدوان الصهيوني على غزة: إستشهاد 8 من عناصر أمن في إستهداف لمركبتهم في دير البلح    جميع مباريات الجولتين 28 و29 بدون جمهور    جولتان دون جمهور ولا تنقل للأنصار خارج الديار في ختام البطولة    بيتكوفيتش يضع اللّمسات الأخيرة قبل مواجهة غينيا    تنسيق جزائري أمريكي بشأن غزّة    حجز كوكايين بسطيف    ضرورة تسيير النفايات المنزلية كاقتصاد تدويري    انطلاق إنجاز مشروع طبي اجتماعي للفنان.. قريبا    تنظيم المعرض الوطني لكتاب الطفل    أول مصنع لإنتاج بلورات الأنسولين في إفريقيا    تباحث تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين    بحث محاور تعزيز التعاون الصحي بين الجزائر وكوبا    وصول ما يقارب 22200 حاج وحاجّة إلى مكة المكرمة    الرياضيات تريح مترشحي "البيام" والانضباط سيد الدورة    مكتتبون يطالبون بتسليم ثلاث عمارات متبقية من المشروع    المنتخب الوطني يختتم تربّصه بفوز على نادي آقبو    "كازنوص" تدعو أصحاب المهن الحرة لتسوية وضعيتهم    تكوين الإعلاميين في المجالات الاقتصادية لتبسيط المعلومة للقراء    الإفراج المشروط يساهم في إعادة إدماج المحبوسين    تونس تكشف عن مفاتنها لاستقطاب السائح الجزائريّ    ورقلة.. قافلة تحسيسية للوقاية من خطر التسمّمات    "الكاف" تكشف عن تاريخ انطلاق الطبعتين المقبلتين    الاحتلال يصعّد قصفه للصّحراويّين في الأراضي المحرّرة    العثور على لقى أثرية وقبور بقصر بغاي بخنشلة    المحافظة السامية للأمازيغية تحط بإليزي    مهرجان مسرح الهواة.. استمرارية وثبات في دعم المبدعين    تمديد آجال التكيف مع القانون المتعلق بالصحافة المكتوبة والصحافة الإلكترونية    لماذا يسعى بايدن لإنهاء الحرب على غزة وفرض "مبادرة سلام" على نتنياهو؟    زكري يدافع عن بن زيمة وينتقد مدربي الدوري السعودي    الجمارك تضبط 786 قرص مهلوس    الحماية المدنية ترافق التلميذ إسلام في امتحان "البيام"    تحمل اسم العلامة "محمد البشير الابراهيمي"..تخرج الدفعة ال10 للمتصرفين الرئيسيين لمصالح الصحة    عن قصيدته "ما تساقط من غيمة الوجد"..الجزائري صدام عيسى بوعزيز يتوج بجائزة كتارا للشعر العربي    عثر عليها بقصر بغاي بخنشلة.. لقى أثرية وقبور تعود إلى الفترتين البيزنطية والإسلامية    مبابي يوقّع للرّيال    موظف البنك الذي قهر برشلونة قبل تدريبه    هذه أسباب تسلّط الجن على بني آدم..    حلٌ لمواجهة غلاء الأضاحي    مواقف تَرْبَويّة نبويّة مَعَ الشباب    لا تتبرّكوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب..    جبر الخواطر.. خلق الكرماء    ليشهدوا منافع لهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من مقدمة كتاب في طريق الإعداد: ''الفضاء العربي وأول التشكّل''•• من أخناتون إلى حمورابي
نشر في الجزائر نيوز يوم 26 - 04 - 2010

في المستهل قرأت يوماً ما·· ربما في مقدمة مؤلف قصة الحضارة (ديورانت)·· قولاً فذاً، جاء فيه·· أن ''معظم التاريخ ظن، وما تبقى من إملاء الهوى''- أجل··
قد يُظن أن هذا التوصيف ''ظن وهوى'' هو قدح وذم·· قد يكون·· وقد لا يكون·· يكون ذالك عندما يذهب الباحث فيه، من مذهب المؤامرة عليه - وقد لا يكون ذالك، عندما يهوى الباحث فيه، إنقاذه من مغبة ما ألصق فيه من شوائب ومثالب ليست من كنهه·· وما نظن مساهماتنا إلا من هذا القبيل·· إلى سواء السبيل··
على هذا المنوال، اكتب للحقيقة يا عزيزي- كما تراها: قد لا يصدق ذلك بعض الناس ولكن في آخر الأمر سيعرف الجميع الحقيقة كلها- (تشالز سالسبورغ مؤسس نيويورك تايمز) ؟
في هذا الآن، نرى أنه من الضرورة بمكان، التصدي لعدد من الموضوعات التي تأتي بمثابة إطلالات أو مقدمات على علاقة في هذه المسألة، من حيث كونها (المسألة) على اتصال دائم بما هو قائم بين ظهرانينا في هذا الزمان··
في الهوية قرأت في مكان ما قولاً فذاً: الهوية كالحب، بمقدار ما للمسألة لها بعد واهتمام جدي على المستوى النظري، فإن الصعوبة تتجلّى في كنهها العملي·· وهي إن كانت كذالك، فمرد ذالك لكونها ذات محتوى شعوري- وربما لا شعوري- سواء أكان الأمر له بعد جمعي أم فردي·· وهكذا هو شأن كل المجردات، التي على الرغم من الإحساس بوجودها، هي·· هي·· عصية على القياس··
الهوية معطى تاريخي واجتماعي: الهوية ليست نبتاً في فراغ، كما أنها ليست معطىً ميتافيزيقاً·· ولا تأتي هكذا كجلمود صخر معد الصنع مسبقاً·· بل حصيلة تشكّل تاريخي تتداخل فيه عوامل شتى تتفاعل فيما بينها على نحو جدلي ومعقد·· كما أرى، أنها في مجرى تشكلّها لا تسير في قالب صلد محدد، بل تسلك مسارب شتى، لتؤدي إلى كينونتها الخاصة بها·· ولا مراء في هذا·· من حيث كل ما هو إنساني واجتماعي، بقدر ما هو متماثل، هو عصي على التطابق الكلي··
نظرة أولية مكثفة في سيرورة تشكّل الهوية الجمعية: الجدير بالبيان، أن منطلقنا في تصدينا لهذه المسألة، يعتمد على القوانين العامة ذاتها التي تنطبق على سائر المجموعات البشرية، تلك القوانين التي قد تتظاهر أحياناً في خصوصيات- التي ليست بحد ذاتها أكثر من تطبيقات فرعية على اشتقاق من ذلك العام الشامل··
ووفقاً للمفهوم المتداول، تكون الهوية القومية هي نتاج تاريخي لمسيرة حضارية طويلة متعددة المراحل والأطوار، استطاعت أن تتمتع- عبرها- العديد من الأقوام أو القبائل بسمات ثقافية نفسية مشتركة· ؟
وبذا تكون قد عبرت في تشكلّها مراحل عدة، واحتوت في ذاتها على طبقات متراكبة وغاصت في أعماقها شرائح متعددة ومتداخلة·· لتشكّل في نهاية المطاف عجينة معقدة التركيب، تنطوي على خصائص ومكونات، قادرة بدورها لتكوّن مرجعية نفسية وثقافية للمنتمين إليها··
على هامش هذا القانون الأساسي الخاص بالتكوّن القومي، نشير على أن الهوية القومية - كيفما كانت - لا يمكن أن تكون وليدة جنس أو اشتقاق من عرق· وهي، أي هذه الهوية، ليست خالدة، بل مشروطة بزمان ومكان وقوانين اجتماعية عامة، كما أنها لا يمكن أن تكون قد انبثقت فجأةً، ولا يمكن أن تكون ذات صلة بإرادة لاهوتية مفترضة، من حيث كون مفهوم الإلوهية بحد ذاته، لا بد أن يكون أن أن منزهاً عن التدخل المباشر، والمحابي، بشؤون البشر··
والجدير بالنظر، أن هذه القوانين العامة تمارس فعلها على الغالب بدون وعي الناس بها، إذ يتصرفون في ممارساتهم على ضوئها بدون الإحساس الواعي بماهيتها، وبدون إدراك ما يمكن أن يتمخض عنها··
والجدير بالاعتبار، أن هذه الهوية الجمعية، لا تنطوي في كيانها على حواجز فاصلة بينها وبين غيرها من أخريات الهويات، فمن المؤكد وجود ما هو مشترك ما بين كيانات البشر·· وما كانت البشرية في كينونتها وحضارتها إلا التجلي الفذ لجدل التنوع والوحدة·· وفي المقابل، إن الهوية الجمعية هذه أو تلك، لا يمكن أن تظهر عبر سمة حديدية - إسمنتية البنية والمظهر، فهي تنطوي في محتواها على تشكلات أصغر، تأتي بمثابة الخاص في ظل العام·· وهكذا··
(؟ الجدير بالتوضيح هنا، أننا نقصد بالأقوام، جماعات قبلية متعددة استطاعت، أن توفر لذاتها، في مرحلة ما، كيان سياسي اجتماعي عابر، وبهذا تكون مرحلة انتقالية بين القبيلة والأمة· نجد وجود لمثل هذه الظاهرة في سياق تطور التاريخ الأوربي الذي قد أدى في نهاية المطاف إلى تكون القوميات الأوربية المعاصرة·· الأمة الفرنسية مثلاً تشكلت من أقوام أو مجموعات قبائل الفرانك، والغول، والنورماند·· بهذا يمكن اعتبار الأقوام، بمثابة قبائل متوسعة، أو جمع لعدد من القبائل المترابطة بصلات ما··)
على هذا القياس، جرى مسار العملية التاريخية التي أدت في المطاف الأخير إلى انبثاق تلك السمات المشتركة المحددة للهوية العربية··
الهوية العربية: في البداية، نعلن بأننا نتبنى على نحوٍ قطعي وجود هوية شمولية تضم المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، يمكن أن يطلق عليها اصطلاح الهوية العربية، وذلك على الرغم من الشرذمة السياسية السائدة في هذه المنطقة من جهة، والتنوع البادي هنا وهناك في إطار هذه الهوية الشاملة من جهة ثانية·
نستمد هذه الحقيقة من الواقع المعاش، حيث أن الأحداث الكبيرة تذكرنا على الدوام بوجودها·· فمن ذا الذي لم يلحظ ذلك الاهتزاز الوجداني العفوي الذي شمل الجماهير بكليتها من الرباط إلى بغداد، ومن الخرطوم وصنعاء إلى بيروت وحلب - حتى عرب المهاجر خفقت قلوبهم- حين كانت تتعرض بغداد لقنابل الحلفاء· وكذلك كان الفرح غامراً في كل بقاع العرب حين اضطرت القوات الصهيونية الانسحاب من جنوب لبنان أمام مقاومة حزب الله·· وذلك على الرغم في هذا وذاك، لم تكن الرؤية واحدة في تأييد ذلك النظام وتلك الحركة·· إذ أن الذاكرة الجماعية يمكن أن تشمل بفعاليتها جماعات لها رؤى متباينة - منطلقة في ذاتها من مصالح ونزعات وخبرات حياتية مختلفة·
في هذا المجال، نستطيع أن نقول: حتى أولئك الذين يعارضون بالممارسة والفعل والمؤامرة، حقيقة وجود تلك الهوية الجمعية، فأنهم يثبتون وجودها حين تزين لهم مصالحهم، فالصهيونية في الوقت الذي يدفعها مشروعها السياسي الاستعماري- الاستيطاني كي تكون إستراتيجيتها مبنية على تمزيق المنطقة إلى دويلات قبائل وطوائف، تعلن بين الحين والآخر على العرب أن يجدوا حلاً للعرب الفلسطينيين بين ظهرانيهم·
وتتكرر نفس الظاهرة لدى الجماعات الفرنسية المرتبطة بذاكرتها الاستعمارية، ففي الوقت الذي يعلنون فيه أن الشمال الإفريقي ليس له شأن بالواقع العربي يلصقون الصفة العربية - بسمة تحقيرية - بكل الجماعات المهاجرة إلى فرنسا، التي تعود بأصولها إلى تلك البقاع حتى لو كانت لها جذور بربرية·· وكذلك، فأن الإستراتيجيات التي تتبناها القوى المسيرة للنظام العالمي الحديث، تضع في حسابها على الدوام هذه الحقيقة، حين ترسم خططها الإستراتيجية والتكتيكية ذات الصلة بالمجال العربي·· وليس أدل على ذلك من مؤامرة سايكس بيكو التي تجثم بظلالها على الواقع العربي المعاصر·· وغيرها فيما قبلها وبعدها··
وهكذا يمكن الاعتبار، أنه من المفارقة بمكان، أن يكون الذين يعملون على تمزيق الهوية العربية ووضع المنطقة تحت سيطرتهم، هم أكثر من يتحسسون بوجودها من حيث كونها هوية مشتركة تضم جماع المنطقة من محيطها إلى خليجها، ويكون هؤلاء الأعداء لها أكثر إدراكاً لقوة هذه الحقيقة من سادتها الحاليين المتحكمين بأمرها· !
ثم أليست تلك الحرب الشعواء المعلنة من كل حدب وصوب، ضد تلك الهوية الجمعية، يأتي بمثابة الإقرار غي المباشر، بوجودها·· ومتى كانت تلك الحروب الصاخبة والصامتة·· تعلن ضد ما هو وهمي·· !!
ساميون وعرب في البداية نعلن، أننا ننطلق من رفض قطعي للمنظور السلالي للتاريخ، المتمثل على نحو صارخ في المفهوم التوراتي الخاص بسلالات: سام وحام ويافت·· بذا تكون هذه النظرية، مجرد رؤية أسطورية لا صلة لها بالواقع والتاريخ· إذ أن علم التاريخ والآثار وعلم الحياة والإناسة، ينفي نفياً قطعياً كل ما جاء في الرواية التوراتية عن العروق والأجناس وتطور التاريخ وعمر الأرض·
(وبتعليق مقتضب، الجدير بالبيان، أن رفضنا للمنظور التوراتي الخاص بالعروق والأجناس، إنما ينطلق من موقف عام، من حيث كوننا نرفض جعل المنظومة الأسطورية القديمة، أن تكون مصدراً لحقائق علمية، في حين أننا نقر كون هذه المنظومة الأسطورية قد مثلت عهدئذ محاولة أولية عبقرية لتفسير الكون، وبذا تكون قد مثلت أولى الخطوات التي مهدت السبيل لبروز النظر العقلي التجريدي ·· بيد أننا نرى في ظلال هذه المسألة تكمن ثمة مفارقة، تظهر في كون الأقوام التي ابتدعت تلك الأساطير، قد تخلت عنها كحقائق موضوعية ووضعتها في أرشيف التراث، في حين جعلت وتجعل الصهيونية العصرية من الأسطورة مصدراً للتاريخ· وعلى ذات المنوال ذهب ويذهب العديد من المؤرخين والمستشرقين الأوربيين، في اعتمادهم ذات المصطلحات والترويج لها- وذلك على الرغم من إقرارهم بعدم مطابقتها لمعطيات التاريخ- وبذا ظهروا كما لو كانوا قد استهدفوا زرع الوهم في قلب الحقيقة، بهدف لوي عنق التاريخ··! )·
في واقع الأمر، ثمة إرادة جغرافية عكست ذاتها على الحالة الديموغرافية، أدت فيما أدت إليه، إلى حضور تمايزات عامة ألقت بظلالها على مكونات بشرية كبرى في تاريخ تطوّر النوع البشري، ولا ريب أن هذا التمايز أتي بمصدره، من وقائع وحقائق لها صلة بتفاعل الديموغرافيا مع الجغرافيا، وتفاعل مجموعات الناس فيما بينهم، في بقاع كبرى من هذه الجغرافيا··
كما يجدر بنا هنا عدم التغافل، عن تلك الحقيقة التاريخية الماثلة، في ظاهرة حرية التنقل عبر أرجاء الأرض، على مدى الأزمنة القديمة - العابرة لمئات الألوف من السنين·· الأمر الذي يدحض كلياً مقولات السلالات·· بيد أنه لا مفر من الإقرار بحضور خصائص مشتركة، كانت قد أعلنت عن ذاتها، في زمن ما- بل وقد بقى أو يبقى لها علامات موروثة عبر تسلسل الأزمنة·· وإن كانت هذه الموروثات، تسير بدورها في طريق الاضمحلال في توالي الزمان··
وبتطبيق هذا المنظور على ما سمي يوماً ما بالساميين، فإن الأمر قد بدا بكيفية ما، في زمن ما، على مستوى مجموعات بشرية قطنت منطقة واسعة ضمت في البداية بقاع شبه جزيرة العرب وشمالها المتمثل بالهلال الخصيب·· وما لبثت تلك المجموعات أن تكون على تواصل وتفاعل كثيف مع سكان بقاع وادي النيل وما تلاه غرباً·· ولقد كان من شأن هذا التواصل والتفاعل، اشتداد ساعده عبر توالي الأزمنة، وقد كان من أهم تجلياته في هذا المشهد، البعد اللغوي والثقافي·· بلا ريب·
وثمة مفارقة، نتلمسها في هذا الصدد: ففي الوقت الذي يتم فيه الترويج لمقولة السامية، يتم انتزاع هذه المقولة من عرينها، لتصبح حكراً على الجماعات اليهودية الموزعة في شتات العالم·· على ما في هذا الشأن من مفارقة وغرابة·· فإن كانت السامية، قد تمثلت بأقوام كبرى، كان لها رصيدها في منطقتنا في الأزمنة القديمة، كالآشوريين البابليين والكلدانيين والفينيقيين والآراميين والعرب·· وعشرات من غيرهم، يذكرهم التاريخ، وأسفار التوراة ذاتها··!! - مما يجعل السؤال يتبادر إلى الأذهان، أين راحت تلك الأقوام··!! وهل يمكن أن تكون تلك الجماعات اليهودية هي الوريثة لهؤلاء··؟ - تلك الأقوام التي ظهرت على الدوام، كدريئة دائمة الاستهداف، في خطاب الغضب والسخط وصب اللعنات، في نصوص التوراة والأسفار··!!
ومن دون الذهاب بعيداً في السجال، نرى الجواب ماثلاً من دون ريب أو هوادة، لدى ( بيير روسي، في مدينة إيزيس ص 25 ,24 ,42): ''هذه القوميات المسماة خدعة بالساميات والتي هي في الحقيقة عربية·· كيف نظمت سياسياً المنطقة·· ؟ إننا لكي نتجنب الخطأ التقليدي الذي يحطم مساحتها الجغرافية، ليدرسها دراسة منفصلة بينما هي عناصر جسم واحد، عناصر تحيا حياة واحدة·· كان الأمر استمراً لا انقطاع فيه قد تركز في الشرق، استمراراً للفكر، استمراراً للاقتصاد· والتغيرات التي حملتها العصور كانت طفيفة جداً إلى حد لم تبرز لنا كم كان التاريخ في صبره البطيء متناقضاً مع سرعة الأفراد··- '' إن الأمر سيكون بسيطاً جداً، فيما لو تكلمنا عن الساميين·· لو تكلمنا عن العرب، ذالكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً، وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنوات·· ''- '' إن لغة واحدة مكتوبة ومتخاطب بها قد انتهت إلى فرض نفسها وتغطية هذا المجموع الكبير: إنها اللغة الآرامية·· ثم تطورت الآرامية منئذ طبيعياً، ودون معارضة، إلى اللغة العربية، التي وجدت نفسها منذ ذالك الحين وارثة الماضي المصري والكنعاني والحثي والبابلي·'' -أجل·
كما يظهر ذات المشهد لدى أنجلز في مراسلته لماركس (26 أيار 1853)، حين يذكر'' إن الإمبراطورية الآشورية وكذلك البابلية، قد تم أشادتها من قبل القبائل البدوية في ذات المكان الذي قد تم فيه في عصر تالٍ تأسيس خلافة بغداد· إن الكلدانيين المؤسسين للإمبراطورية البابلية مازالوا يعيشون في نفس الموضع بذات الاسم بني خالد''·(المراسلات مع ماركس الطبعة الفرنسية الجزء الثالث، 26 / 5 / ,1853 ص 374) وأمام عين المفارقة ذاتها، نجد صدى لها·· لدى المؤرخ الإنكليزي، فيليب حتي، الماثلة في الآتي ا في أوربا كما هو الحال في أمريكا، أضحت كلمة ''سامي'' تعني قبل كل شيء يهودي، بيد أن سمات علم الفراسة المحددة تقليدياً للساميين (اليهود) ومن بينها الأنف المعقوف، لا صلة لها البتة في الحقيقة بالساميين، إذ أنها تميز بدرجة عالية اليهودي عن النمط السامي الحقيقي، وهي- هذه السمات- حصيلة مكتسبة من اتحاد قديم جداً بين العبرانيين وشعوب أخرى مثل الحوريين والحتيين والمتانيين - وهي أقوام من أصل آري لا سامي ''(فيليب حتى أنظر المراجع، ص 12و 13)· بيد أننا - وإن كنا نثمن القيمة التاريخية لرأي هذا المؤرخ الفذ- إلا أن هذه الأحكام قد تنطبق على العبرانيين فيما قد مضى، أما يهود عصرنا فلهم شأن مغاير، بعضهم أو قليل منهم يتمتع بتلك السمات، أما الغالبية منهم فلهم خصائص مغايرة تضم في مظهرها، شتات من سمات هنا وهناك·- كما أن المسألة، ليست مسألة سمات وخاصيات جسدية، من حيث البشرية قد تمازجت إلى درجة لم يعد معها ممكناً من التحدث عن خصائص وسمات مميزة ثابتة··
وعلى ذات المنوال، تعلن المفارقة عن ذاتها بجلاء، في السرد الآتي: عبر تجربة ميدانية تم التوصل إلى حقيقة مؤكدة تبين أنه لا يمكن التحدث عن خصائص عرقية يهودية، بل إن معظم اليهود لا يعودون إلى أصول فلسطينية، فاليهودي المغربي له قسمات مغربية، والألماني له قسمات ألمانية، وكذلك الإنكليزي والهندي والفرنسي·· كما تم التوصل على صعيد تحليل الأشكال (المورفولوجيا) إلى نمطين من اليهود: الأشكناز، يهود أوربا الذي تعود أصولهم الأولى إلى يهود بحر الخزر الذين امتزجوا بشعوب أوربا الشرقية والوسطى، والسفارديم الذين لهم أصول آسيوية وإفريقية·· (·35-34 ،PIERRE ALEM, JUIFS ET - JEAN ويؤكد البرفوسور جوزفيتيش (الجامعة العبرية) ا أنه قد أجرى تجارب بيولوجية على المهاجرين اليهود وسجل النتائج ووصل إلى نتيجة بأن اليهود هم طائفة دينية تضم جماعات مختلفة من الناس اعتنقوا ديناً واحداً، بيد أن نسبة ضئيلة من يهود الأقطار العربية يمكن أن تعود أصولها، للعبرانيين القداميب (أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، ص .703 )
على ضوء ما تقدم، يأتي السؤال مجلجلاً: أين ذهبت تلك الأقوام، تلك التي قد عُهد إليها صنع الحضارة الآيلة إلينا·· وتأتي الحقيقة صارخة، ها هم ها هنا في عرينهم·· بين العرب·· وبين ظهرانينهم··
والعرب- ولاستكمال هذا المشهد التاريخي، نتلمسه في الأصل لمصطلح، العرب: كان هذا المصطلح في مدلوله القديم، يعكس نمطاً معيشياً محدداً، متمثلاً في حياة النقل والرعي والبداوة - وفي عصرنا، ثمة تداول لمثل هذا المفهوم في بعض المناطق العربية- · وكان هذا النمط قد عبرت به عملياً، كل أقوام المنطقة الذين سبقوا ما أصطلح عليه باسم عرب· لهذا لا نجد تمييزاً حقيقياً على سبيل المثال، بين الآراميين والعرب، من حيث كل منهما قد عبر في ذات المرحلة، وأنتقل من حياة الرعي والتنقل إلى مرحلة الاستقرار والتوطن·· وينطبق الأمر كذلك على الأقوام الأخرى بيد أن تسمية العرب قد التصقت بآخر الأقوام التي عبرت من ربوع شبه الجزيرة إلى شمالها وشمالها الشرقي، وهي التي توافق الطور الأخير في سلسلة التطور اللغوي في المحيط الحضاري الموافق لها··
ونرى، في الأسماء المتداولة في عصرنا عن هؤلاء القدامى، من أمثال الآشوريين والبابليين والكلدانيين الفينيقيين والآراميين والعرب·· أنها لا تحمل بذاتها سمات أقوام منفصلة حضارياً، بل تمثل أسماء عهود وأطوار ومناطق وقبائل تربطها وشائج وصلات عضوية، بحيث لا يختلف الأمر كثيراً عن ما هو شائع في عصرنا من مسميات في مناطقنا العربية·· أما ما لصق بهذه المفردات من إيحاءات وما حملته من تحديدات مشبعة بأبعاد فصل وقطع، فقد حدث في العصور الحديثة كتكريس ونتيجة للتجزئة، وانعكاس لهيمنة أفكار ونزعات مستحدثة تلقي على الماضي ثقلها ورؤيتها، بما ليس لها فيه من صلة··
كما نرى، أن تلك المسميات، لم تمثل في غالبيتها، أكثر من حالات لعهود ومراحل متشابكة ومتداخلة، أسهمت كل منها بنصيبها في التشكّل التاريخي لهذه الهوية الجمعية المتمثلة، بالعروبة··
تبعاً لذالك، كما نرى: تمثل العروبة الحالية كهوية، الحوصلة النهائية للعملية التاريخية التي قد صهرت أقوام وقبائل المنطقة في مسارها·· لذا يمكن اعتبار تلك الأقوام القديمة - السابقة لما يسمى بعرب - هم عرب ما قبل العرب·· أو أسلاف كل العرب المحدثين··
التواطؤ على التاريخ في هذا الصدد، نرى أن الحركة الإستشراقية قد عملت بمعظمها، على إفهامنا، بأن تاريخنا يبدأ من مكة ومن شعراء الجاهلية، وراحوا يتناولون الأزمنة السابقة وأحداثها وأقوامها، كما لو رحلت عن بكرة أبيها· وهم في هذه الرؤى، كما لو أرادوا استكمال مهام سايكس بيكو والأخذ بمنهجه··
والأمر المثير، أنهم في منطلقهم هذا، إنما يديرون ظهورهم لعلم التاريخ الذي طبقوه على بلدانهم، من حيث كونه قد جرى في سير متواصل وعلى مراحل·· فعلى سبيل المثال، يعتبر الفرنسيون الأقوام القديمة، كالنورماند والفرانك والغول هي بمثابة الأصل للهوية الفرنسية المحدثة·· وعلى ذات النهج، ينظرون إلى اللغة اللاتينية القديمة، كلغة سابقة لهم·· (والسؤال: ألا يمكن للعرب المعاصرين اعتبار اللغة الآرامية، كلغة سابقة لهم·· لم لا - والشواهد كثيرة·· !!)
وهنا ربما قد راق للفيف من مؤرخينا مثل هذا المنظور، وأخذوا ببعض من جوانبه، ظناً منهم بأن هذا يمجد الإسلام ويرفع من شأنه·· في حين أن الإسلام ذاته لم يذهب قط هذا المذهب·· !! - وهكذا تم إقصاء كل ما كان قبل الإسلام، من حلبة الذاكرة الجمعية العربية·· فيا للعجب·· !!
رؤية في التاريخ ( ألا لا تأخذن الحقيقة من باحث واحد ولا من مؤرخ واحد·· بيد أنك قد تجد لدى هذا المؤرخ أو ذاك كلمة أو كلمات·· ترشدك إلى عكس مراده·· ومن ثم ضع المعطى المستقى من هذا أو ذاك·· في مجال البيئة العامة للعصر كسياق ومنطق وقيم·· ومن ثمّ أنظر فيما حدث من تطور في المشهد التاريخي في هذا الصدد مع ما تلا من زمن·· وبذا يمكن أن تستنبط قبساً من الحقيقة·· ولا تقل برمتها·· هذا هي إحدى مركزاتي في نهجي··
( لم يتحرر العديد من المؤرخين من الخطاب التاريخي الرسمي، بل وثمة عملية اجترار ونضح وسير في ذات السبيل·· مما يروّج رؤى خاطئة، تسيطر بدورها على الخطاب العام، بل توجه البحث فيما تلا من أعمال في ذات المجال··
( الصراع كدور في إنجاز تواصل وتفاعل: ثمة أحداث ومواقف حادة وصارخة تحدث في زمن معين، ومن قبل فاعلين، تؤدي إلى نتائج في زمن تالٍ قريب أو بعيد، لم تكن في حسبان القائمين عليها·· ( في كل زمن وفي أطار بيئة ما، ثمة مركز ونخب تتصارع فيما بينها، وتصارع في محيطها·· وينجم عن هذا الصراع أحداث وتشكلات وإفرازات قد لا تكون، بالأحرى لم تكن في ذهنية القائمين عليها، وتأتي هذه الإفرازات لتشكل نتائج تسهم في تقرير مصير أو توجيه مسير الآتي··
( للتاريخ دورته الخاصة التي تبني ذاتها على تراكم أحداث ونتائج تتفاعل جدليّاً فيما بينها·· ومع الوقائع، مما يؤدي إلى حدوث ما يمكن أن يسمّى طفرة نوعية·· تترك بصمتها الحاسمة على الأحداث التالية، بل توجهها في مسارها··
( تقييم سلوك حاكم ما، لا بد أن يُتحرّى ضمن السلوكيات المسيطرة في الزمكان المحدد، لا أن يسلّط عليه مقاييس زمن آخر··
( ثمة مساحات مجهولة في التاريخ، بسبب غياب ما يخصها من وثائق وآثار، بسبب التدمير، ناهيكم عن كون المؤرخين والكتاب القدامى كتبوا تحت ظل منظار النظام السائد·· أو ظل هواهم ووعيهم - إن تيسر لهم حرية ما·· وهيهات أن يكون ما سطروه مطابقاً للوقائع والحقائق الدائرة في بيئتها وعهدها·· ( إننا في التاريخ نترصد ونرصد عناصر قائمة في ذاك المشهد المحدد، قد نقع في هوة الخطأ، وحتى في غمرة سقوطنا في الخطأ، نكون قد أسهمنا في إضاءة السبيل نحو السير الحثيث لمقاربة الحقيقة·· - ولمزيد من الإنارة أذكر الآتي··
( أبداً، لم يكن التاريخ ولا الحضارة وتشكّل القوميات والأمم من هبات الله، ولا من صنع رجال أفذاذ، إنما هو وتلك وهي، قد أتت بمجملها بمثابة نتاج تشكّل وفعل سيرورة، تفرزها منظومة عوامل متداخلة، يتفاعل فيها البيئي مع البشري··
ففي هذا الصدد، أي بما يخص مسألة الهوية والقومية، كمعطى اجتماعي وتاريخي، لا يمكن أن تكون من نتاج مرحلة بعينها ولا حصيلة زمن أحادي، إنما هي من نتاج أزمنة متعددة، وعوامل نشوء وتكوّن تفاعلت وتداخلت عبر أحقاب الأزمنة، تماماً كحال الجولوجيا··
وهنا، وقد يتوق لنا الذهاب بعيداً في أقصى الارتقاء في سلم المماثلة، مع الجيولوجيا، يعنُّ لنا أن نقول، أن البشر من حيث كونهم أبناء الطبيعة والأرض، قد جاءت كياناتهم، كما لو كانت كاختزال ما لتنوعات البيئة والطبيعة والجغرافية·· ولكأن الجغرافية السكانية هي بمثابة انعكاس بكيفية ما للجغرافية الطبيعية·· على أن هذه التباينات لا تنفي بأي شكل كان وحدة البشر، من حيث كونهم أبناء لهذه الأرض··
والجدير بالبيان هنا، أن شأن الهويات الجمعية لا يمكن اختزاله بالعامل البيئي والجغرافي- على الرغم من أهميته- فشأن هذه المسألة هو أكبر وأعقد من هذا النظر، فثمة جملة من العوامل والمكونات التي قد أسهم كل منها بدوره، في سيرورة تشكّل هذه الهوية الجمعية العربية·· وفق عملية تراكم وتداخل جدلي فيما بينها بكليتها·· بيد أن هذا التراكم لا يمكن أن ينفي حدوث الطفرة النوعية·· التي من شأنها صهر ما سبق، من فعاليات عوامل ومكونات، في صياغة كليّة أو قرب كليّة، لكينونة الهوية الجمعية·· ونرى أن حدثية الطفرة النوعية تلك، قد أٌنجزت تحديداً، بفعل الإسلام، كدور وحضارة··
وبمعنى آخر، نرى ظهور حالة من التواصل الجدلي في سيرورة تشكّل الهوية الجمعية العربية، تتمثل بجدل التفاعل بين حصيلة المسار العائد لعوامل التراكم (ما سبق الإسلام من عوامل ومكونات) وحدثية الطفرة النوعية (فعل الإسلام)، بحيث لولا ما سبق (من تراكم)، ما كان قد تحقق ما لحق (من طفرة)··
ونرى، أن هذه الحقيقة الجدلية قد أدركتها بكل دهاء القوى المعادية، فعمدت على النبش في الماضي عن عوامل ومكونات ما، وإخراجها من حيزها الخاص لها، وعزلها عما سبقها ولحقها، بهدف توظيفها، عسى تلغي بها، ما تشكّل في نهاية المطاف، من منجز نوعي- الذي قد تجلّى بالهوية الجمعية العربية··
ونحن إن كنا قد اعتمدنا، مقولة أو مفهوم ''صياغة كليّة أو قرب كليّة''، ذالك لكوننا نرى، أن لا شيء نهائي وأزلي في مسيرة التاريخ··
ونحن هنا، إزاء موضوعنا، سنحاول الغوص ما أمكن، في طبقات الأزمنة التاريخية بحثاً عن العوامل التي كان شأنها وضع حجر الأساس، لمسار تشكّل هذه الهوية المرئية في عصرنا، والتي يمكن تسميتها وتوصيفها بالهوية العربية··
والجدير بالبيان ، أن ثمة مساحة شاسعة في التاريخ القديم، تمتد على مدى الملايين من السنين، وهي على الرغم من جهلنا النسبي لها، كان من شأنها وضع البشر في منطقة الفعل لمصائرهم، أي صنع تاريخهم المعروف وحضارتهم القائمة·· فلا جديد بلا قديم، ولا حاضر ومستقبل لمن لا تاريخ له··


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.