مشروع جمع البيانات اللغوية لأطلس اللغات لليونسكو في طور الانتهاء    تلمسان … الإطاحة بشبكة منظمة يقودها مغربيان وحجز أزيد من قنطار كيف    الوزير الأول يستقبل السفير الإيطالي بقصر الحكومة    صيد بحري: بداني يؤكد سهر القطاع على تحسين الظروف المهنية للصيادين    الجالية الوطنية بالخارج: الحركة الديناميكية للجزائريين في فرنسا تنوه بالإجراءات التي اقرها رئيس الجمهورية    سونلغاز و شركة هيونداي للهندسة يبحثان وضعية تقدم المشاريع المشتركة    صورية مولوجي تفتتح الطبعة التاسعة للمهرجان الوطني لإبداعات المرأة بالجزائر العاصمة    التزام السلطات العمومية بترقية الخدمات الصحية بالجنوب    خنشلة.. انطلاق الحفريات العلمية بالموقع الأثري قصر بغاي بداية من يوم 15 مايو    أولاد جلال: انطلاق الأيام الوطنية الأولى لمسرح الطفل    البطولة المحترفة الأولى "موبيليس": نقل مباراتي إ.الجزائر/م. البيض و ش.بلوزداد/ ن. بن عكنون إلى ملعب 5 جويلية    المعرض الوطني للصناعات الصيدلانية بسطيف: افتتاح الطبعة الثانية بمشاركة 61 عارضا    بن سبعيني على خطى ماجر ومحرز..    توقيف 289 حراقاً من جنسيات مختلفة    الحملة الوطنية التحسيسية تتواصل    قالمة.. وفد عن المجلس الشعبي الوطني يزور عددا من الهياكل الثقافية والسياحية والمواقع الأثرية بالولاية    بن طالب: الزيادات التي أقرها رئيس الجمهورية في منح المتقاعدين لم تعرفها منظومة الضمان الاجتماعي منذ تأسيسها    تقديم أول طاولة افتراضية ابتكارية جزائرية    مسيرة حاشدة في ذكرى مجازر 8 ماي    بوغالي: عار المُستدمِر لا يغسله الزمن    انطلاق لقافلة شبّانية من العاصمة..    مجازر 8 ماي عكست الهمجية الاستعمارية    توقرت: أبواب مفتوحة حول مدرسة ضباط الصف للإشارة    اختتام ورشة العمل بين الفيفا والفاف حول استخدام تقنية ال"فار" في الجزائر    دربال: قطاع الري سطر سلم أولويات لتنفيذ برنامج استعمال المياه المصفاة في الفلاحة والصناعة وسيتم احترامه    رالي اكتشاف الجزائر- 2024 : تنظيم معرض ثري للدراجات النارية بالخروبة للتحسيس بحوادث المرور    رئيس الجمهورية يستقبل وزير خارجية سلطنة عمان    منظمة التحرير الفلسطينية تؤكد أنه لا بديل عن الدور الحيوي لوكالة "الأونروا" في دعمها وإغاثتها للاجئين    شبكة الموزعات الآلية لبريد الجزائر ستتدعم ب 1000 جهاز جديد    رئيس الجمهورية: السيادة الوطنية تصان بالارتكاز على جيش قوي واقتصاد متطور    "الأونروا": الاحتلال الصهيوني هجر قسريا نحو 80 ألف فلسطيني من رفح خلال 3 أيام    البروفسور بلحاج: القوانين الأساسية ستتكفل بحقوق وواجبات مستخدمي قطاع الصحة    العاب القوى/ البطولة العربية لأقل من 20 سنة: الجزائر تفتك خمس ميداليات، منها ذهبيتان    إحياء ذكرى ماي الأسود: تدشين مرافق صحية وسياحية بقالمة    ساهمت في تقليل نسب ضياع المياه: تجديد شبكات التوزيع بأحياء مدينة البُرج    المطلوب تحقيق دولي مستقل والوصول للمقابر الجماعية بغزة    المسجلين مع الديوان الوطني للحج والعمرة: انطلاق عملية الحجز الإلكتروني للغرف للحجاج    أكاديميون ومهنيون يشرحون واقع الصحافة والرقمنة    لقاءات بين "ملائكة الأعمال" والطلبة المقاولين في الأفق    وفد وكالة "ناسا" بجامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين    أولمبيك مرسيليا يبدي اهتمامه بضم عمورة    زحافي يؤكد أن حظوظ التأهل إلى الألعاب قائمة    التزام المتعاملين في السياحة بتقديم أسعار ترويجية    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    قافلة شبانية لزيارة المجاهدين عبر 19 ولاية    استزراع صغار سمك "الدوراد" بسواحل العاصمة    ليفركوزن يبحث عن بطاقة نهائي البطولة الأوروبية    نساء سيرتا يتوشحن "الملايا" و"الحايك"    تراث حي ينتظر الحماية والمشاركة في مسار التنمية    لا تشتر الدواء بعشوائية عليكَ بزيارة الطبيب أوّلا    "كود بوس" يحصد السنبلة الذهبية    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    التصفيات الجهوية المؤهلة للمهرجان الوطني لمسرح الهواة بمستغانم : مشاركة قياسية للفرق المسرحية والتكوين رهان محافظة المهرجان    مهرجان الجزائر الدولي للموسيقى السنفونية : فنزويلا في أول مشاركة لها والصين ضيف شرف للمرة الثانية    أفضل ما تدعو به في الثلث الأخير من الليل    هول كرب الميزان    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في إيديولوجيا العولمة (1)

يرى الكثير من المفكرين والباحثين أن العولمة أوجدت فراغا نظريا عميقا في التصور الذي شكّله الإنسان عن هويته في جميع مستويات الحياة، ففي كتاب ''صعود اللاّمعنى'' يشير صاحبه الفيلسوف الفرنسي كورنليس كوستر ياديس ''إنّ عالمنا قد غدا يعيش ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية، هي تفتت وتفكك المرجعيات والمنابع المنتجة للدلالة''.
فالظاهرة تعكس بعمق إشكالية المعنى في مستوى السياق الاستراتيجي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإيديولوجي، ارتبطت الأزمة في التصورات بالأطروحات المفاهيمية والنظرية التي عرفها البعد الفكري والثقافي والإيديولوجي العالمي الغربي الأمريكي بعد التحولات الجذرية والتغيرات البارزة التي عرفتها البنية الاستراتيجية للمجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وبعد توقف الحرب الباردة ونهاية عصر الاستقطاب، وبروز القطبية الأحادية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ونشأة التكتلات الإقليمية والدولية المرتكزة على الأسس والمصالح الاقتصادية، وبداية تشرذم الدول الوطنية وتشظي القوميات نتيجة الصراعات الطائفية العرقية والدينية والسياسية وغيرها. ولعل الأوضاع الجديدة أفرزت من الإيجابيات للقطبية الأحادية ما جعل المنظرون لها يلقون بالعديد من النماذج النظرية التي أوجدت أزمة المعنى والكثير من الإشكاليات الاستراتيجية التي لم تقدر على تقديم تصور دقيق وشامل للأوضاع الجديدة في ظل العولمة، من أهم النماذج الملقاة للتعبير عن مشاهد العالم الجديد تلك التي حملتها كتابات فرنسيس فوكوياياما وأطروحته نهاية التاريخ والإنسان الأخير أو خاتم البشر، وهانتنغتون وأطروحته صراع الحضارات، ومينك وأطروحته العصر الوسيط الجديد، لتعكس في استجلاء واقع المجتمع الدولي المتأزم الذي يصعب عن التحليل الدقيق ويستعصى عن الإدراك وعن السهولة في حل أزمته المركبة والمعقدة إلى أبعد الحدود، ولقد أشار المفكر الألماني المشهور يورغن هابرماس إلى فقدان العالم لدلالات تصنيف المجتمع الدولي الموروث عن مرحلة ما بعد الحرب في كثير من كتاباته، حيث أصبحت دول المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وهي دول العالم الأول تستحوذ على العلم والتكنولوجيا وتمتلك المال والسلطان والقوة العسكرية وتدير مصالحها في مختلف أنحاء العالم بقوانين النظام الدولي وباسم الشرعية الدولية، وما عدا دول المركز فاتجه نحو مناهج ونظم ذات طابع عسكري تغيب فيها الديمقراطية ويغيب فيها التسيير الاقتصادي الناجع والفعّال، أما العالم الفقير الضعيف فيعاني اجتماع الاستبداد السياسي مع الفقر والتطرف الديني والعرقي الذي يهدده بالتفكك والانهيار.
في جو العولمة الذي أعاد الإنسانية إلى العصور الغابرة المظلمة المليئة بقهر الإنسان للإنسان، وبسبب ذلك وجدت الديانات والشرائع والنظم لإيقاف ذلك القهر الذي ليس له نهاية إن لم يردعه رادع أو يلجمه لجام، جاءت أطروحات العولمة المنبثقة من الإيديولوجية الغربية تدافع عن أدبيات النظام العالمي الذي هو سبيل إلى السلم العالمي والازدهار الحضاري الإنساني، هو ما دعا إليه وحلم به الكثير من المفكرين أمثال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، فأزمة المرجعية الفكرية والنظرية لاستراتيجية العولمة والنظام العالمي تعود في الأصل إلى مخلّفات هذه الاستراتيجية ذاتها، وإلى بعدها عن المعقولية والواقعية والموضوعية في رؤية الواقع وفي تحليله، وما انجر عن ذلك من ضياع الشعوب في خضم إيديولوجيا واستراتيجية لا تعترف إلاّ بالأقوياء ولا مكان عندها للضعفاء، فاضطربت التوجّهات لديها واختلطت عليها الأمور ولم تتضح عندها النظرة والمنهج والمقاصد، وتولّد عن ذلك عجز كبير لدى الدول وأنظمتها عن إعادة صياغة وبناء الإيديولوجيا والاستراتيجية في سياق الوضع الجديد، وضع العولمة وإيديولوجيتها واستراتيجيتها الأمريكية والغربية، وفي إطار الانقسام العالمي بين مؤيد للعولمة ومعارض لها، وفي جو الآثار والتداعيات المترتبة عن مسار العولمة الذي يتطلب ضرورة إعادة النظر في الواقع المعايش المحلي والدولي وضرورة إعادة تشكيل الذات وتحديد السمات، فصارت القومية والوطنية العامل الرئيسي والقيمة الأساسية الوحيدة التي تواجه العولمة وتحدياتها بأساليب عدة، منها سبيل العنف الفكري والسياسي والديني والعمل العسكري مثل مقاومة الاحتلال في مختلف أنحاء العالم وعمل ''القاعدة''، وتحركت القوى العظمى في اتجاه تمزيق وتشتيت الدولة القومية والوطنية إلى قوميات فتات وإلى طوائف لأجل المحافظة على تحركها في العالم أجمع وفرض هيمنتها بمبررات عديدة واهية ومفضوحة، لكن مادامت مسلحة بقوة المال والاقتصاد والسلاح فلا أحد يقف في وجهها، بهذا تحول عالم الأطراف من دون المركز إلى عالم من غير إيديولوجيا في غياب محددات الحياة ومواجهاتها القبلية إلا إيديولوجيا العولمة، ومن غير قومية ووطنية في غياب الحس القومي والروح الوطنية والشعور بالانتماء، وفي انتشار التفكك الإقليمي والتمزق الوطني وفي غياب الحدود في العالم من غير محددات أو موجهات إلاّ من محددات وموجهات العولمة، الأمر الذي أدخل الإنسانية في مجال مفتوح من كل الجهات على العولمة أو الأمركة التي جعلت الكون فعلا مفتوحا ومن دون أفق أو حدود، فأصبح من العسير اكتشاف الصلة بين المعنى والاستراتيجية وإيديولوجيا توجُّه العولمة، الصلة بين استراتيجية وإيديولوجية المركز ودلالة العولمة التي انفصمت تماما وانكشف زيف أطروحات نهاية التاريخ وصراع الحضارات والعصور الوسطى الجديدة، ولم تعد قادرة على تبرير التحولات والتحديات الجديدة ولا على تقديم تحليل دقيق وشامل لأوضاع العولمة المعاصرة خالي من الذاتية والانحياز ومن السقوط في إيديولوجية المركز ومن مباركة الهيمنة الأمريكية الغربية.
طرح الكثير من المفكرين التساؤل التالي: هل العولمة تعني حقا وفعلا الإنسان في مرحلته الأخيرة، وتدل على نهاية السياسة وتعني نهاية التاريخ؟ كما يحلو للبعض تقديم العولمة والأمركة، ينطلق دوبريه من ملاحظة أننا عرفنا في السنوات الأخيرة انهيار ثلاثة عوالم ظلت هي ركائز النمط الحضاري الغربي، وهي: الكتاب والعقل (التحليل الموضوعي) والمستقبل (مقولة التقدم وغائية التاريخ الإيجابية). وتحليل هذه الركائز إلى ثلاثة أحداث حاسمة صاغت الفضاء الحديث هي: اكتشاف المطبعة (1448) وقيام الثورتين الفرنسية (1789) والروسية (1917). ففي حين تم تعويض الكتاب بالصورة، واستُبدل رجال الفكر بالشخصيات السينمائية ومنتجي الواقع المصنوع والمتخيل، وبالتالي تقلص دور ونفوذ المثقف، انحصرت دائرة الفاعلية والاكتشاف في المجال التقني والصناعي، ولم يعد ينظر للمشروعات المجتمعية سوى أنها تشكيلات نظرية حالمة تثير الاستهزاء والمقت''. فالفضاء الدلالي والتصوري للعديد من المفاهيم والمقولات التي تأسست عليها الحضارات القديمة والحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة عرف تغيّرات جذرية وعميقة مثل مفاهيم التقدم والنهضة والمستقبل ومشروع المجتمع وغيره، وارتبط ذلك بروح الثورة الفرنسية، الروح الذي تغذّى بفلسفة جون جاك روسو السياسية ونظرية العقد الاجتماعي التي انتزعت السلطة من بين أيدي الكنيسة ووضعتها بين أيدي الشعب الذي تلقفها ووضعها بين أيدي المركز الأمريكي بمشاركة الغرب الأوربي في جوّ العولمة والحضارة الحديثة، وكان لعصر الاستقطاب دوره في تقوية التوجه الليبرالي مثلما الحال في عصر القطبية الأحادية بعد انهيار المنظومة الإيديولوجية والاقتصادية الاشتراكية، وبعد الحرب الباردة والإعلان عن ظهور الإنسان الأخير وخاتم البشر ونهاية السياسة ونهاية التاريخ وانحسار الإيديولوجيات، فالاشتراكية قبل القطبية الأحادية دفعت الليبرالية إلى التوسع من خلال تسوية الظروف الاقتصادية والاجتماعية للعمال، والإعراض عن الميل الكلي إلى حياة البذخ والترف والرفاهة، فازداد نفوذها الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وتقلص نفوذ الاشتراكية وسلطان الماركسية بسبب عيوب المجتمع الاشتراكي، حيث غاب فيه الإنتاج وتوسع الاستهلاك، وانتشر فيه الفساد الاقتصادي والاجتماعي، وعرف كل المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى انهياره، وكان انهياره انتصارا لليبرالية وتفوقا للرأسمالية وسببا في ظهور القطبية الأحادية ونهاية عصر الاستقطاب وظهور العولمة وإيديولوجيا جديدة وأطروحات جديدة واستراتيجية جديدة، وانقسم المجتمع الدولي إلى مركز وأطراف، استقطاب من نوع جديد، قطب الأقوياء في المركز وقطب الضعفاء المحرومين الفقراء في الأطراف، المركز مهيمن مخترق ومدُّه الإيديولوجي ينتشر أما الأطراف فتذوب وتنصهر ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا في المركز، تعمّقت الأزمة بين المركز والأطراف ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، حتى لدى بعض الأنظمة التي باركت النظام العالمي في ظل العولمة واستجدت رضا القوى العظمى المهيمنة، تعمّقت الأزمة بين ثقافة تنتشر وأخرى تنصهر وتنصهر معها الخصوصية والهوية، وبين اقتصاد السوق لا يميز بين المتنافسين واقتصاد غير منتج وتابع للقطاع العام تُسيّره الدولة وتدعم فيه القدرة الشرائية، وبين ديمقراطية تعددية تقوم على الاختيار الحر التمثيلي والاقتراع المباشر ونهج سياسي السلطة فيه أحادية والحكم فيه مطلق من كل قيد أو شرط.
إن السلطة في أطروحة نهاية التاريخ في الغرب الأوربي والأمريكي الحديث والمعاصر منهجها الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية والتداول على الحكم، من خلال المنافسة السياسية بالبرامج والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وليس هناك نظاما يتناسب مع الإنسان والمجتمع والعصر والتاريخ غير الديمقراطية وإنسانها هو الإنسان الأخير، فهي أُنموذج الحكم الراهن والسلطة المعاصرة، وعندها انتهى التاريخ وتوقف، لكن الواقع الحالي ينبئ بوجود أزمة في الحياة السياسية الغربية ''تتجلى في انهيار التشكيلات الحزبية في مختلف الأقطار الأوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، والإقبال الضعيف عل المشاركة في المنافسات الانتخابية، والانفصام المتزايد في القيادات السياسية والاتجاهات المجتمعية، وبروز قيم واهتمامات ثقافية وإيديولوجية جديدة غريبة على الحقل السياسي التقليدي الذي تحركه نوازع الصراع من أجل السيطرة على الملكية ووسائل إنتاجها. إن مختلف هذه المناحي تبرز وجود أزمة بنيوية عميقة في مستوى الخطاب السياسي ذاته، تحيل إلى أكثر من تبعات نهاية الصراع الإيديولوجي السابق، بل إلى نمط الانتظام المجتمعي ذاته، من حيث شرعيته المعيارية، ونمط معقوليته التي تشد شعبا ما إلى ممثله الرمزي. إن هذه الإشكالية تنعكس بوضوح في نمط إدراك السياسة، ودوافع الالتزام بالقضايا والرهانات المجتمعية، في فترة يركز الخطاب الإيديولوجي للعولمة على القيم النفعية الإجرائية، وتكريس الفصل بين السياسة والأخلاق''. لم تعد العقائد الدينية أو القيم الأخلاقية وراء استراتيجيات العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والعسكرية وغيرها في العالم المعاصر، فلا السلطة الدينية النصية ولا مكارم الأخلاق المقبولة عقلا ووضعا وعلما صارت تؤسس للعولمة، لكن من جانب الدين في توجه العولمة العلماني اللاّديني نجد الجذور والأصول والأبعاد للعقائد اليهودية وللصهيونية العالمية بصفة خاصة وكذلك للنصرانية، إلاّ الإسلام تقف منه القوى العظمى المهيمنة موقف استعلاء واستكبار وعداء شديد، وتربطه بالإرهاب وسائر المنظمات الإرهابية، وتمارس ضد المسلمين كل أشكال الاعتداء والظلم والاستغلال، الأمر الذي ولّد مشاعر الكراهية التي انبثق منها العنف المضاد، فتحول إلى حرب ضدها تعددت فيها الوسائل وتنوعت السبل، بالفكرة وبالكلمة وبالاعتزال وبالصورة وبالسلاح وبغيره.
فالمرجعية الدينية والأخلاقية التي استمدت منها الأنظمة السياسية الكلاسيكية شرعيتها، عوضتها الإيديولوجية الغربية الحديثة منذ عصور الإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي، ومنذ عهد التنوير الفكري والعلمي والثقافي، ومنذ انطلاق عصر التطور التكنولوجي، فانقلبت الديمقراطية على سلطة الكنيسة وتعززت مبادئ العلمانية التي تقوم على قيم الذاتية وحرية الإرادة الفردية الشخصية، وعلى غائية التقدم والازدهار الحضاري البشري، وبعد التحوّل السياسي من الاعتماد على الدين إلى الاعتماد على الإيديولوجيا في أمريكا وأوروبا المعاصرة والبلدان التي نحت المنحى ذاته برزت إشكاليات سياسية واجتماعية عديدة، منها علاقة الحاكم بالمجمع السياسي والمدني، بين علاقة الشعب بالسلطة المطلقة أم هي علاقة الشعب بسلطة مختارة تجسد الإرادة الجماعية وتحمي مصالح جميع الأفراد؟ أي أن الدولة وظيفتها تتحقق بالارتكاز على مبادئ الليبرالية من حرية فردية وتعددية وغيرها، أو بالارتكاز على قيّم الاشتراكية من مساواة وعدالة اجتماعية ومحاربة الاستغلال وغيرها، وبقي الصراع قائما في ظل العولمة بين قوة الواقع وقوة المطلب، الواقع فيه المركز والمال والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والمطلب فيه الأطراف والفقر والتخلف والرغبة في النهوض والحاجة إلى التنمية، والصراع بين قوة الواقع وقوة المطلب لم تكن على مستوى العلاقة بين المركز والأطراف فحسب، بل جاءت كذلك على مستوى العلاقة بين عناصر ومكونات التركيبة البشرية والاجتماعية لشعوب الدول الكبرى المهيمنة، ففي غمرة التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها، خاصة بعد التلاشي الإيديولوجي في الدول القومية والتلاشي العالمي الإيديولوجي الماركسي الذي شكّل أهم نظام إيديولوجي استطاع أن يعبئ القوى ويحشد الجماهير ويظهر أكثر تماسكا وقادرا على خوض معارك الاستقطاب في الحرب الباردة، في هذا الجو سادت المنظومة الإيديولوجية الأحادية، وساد معها تراجع للقيّم والمقاييس الخلقية والعلمية في الفعل السياسي والممارسة الاقتصادية والأنشطة الثقافية وفي الثقافة الإعلامية وفي جانب التسلح والتدخل العسكري، ومن الأمثلة التي تعكس هذا الجو العزوف عن المشاركة في المسارات الانتخابية وفي رهاناتها، لغياب الحرية والعدل والإنصاف من جهة، ووجود اتجاهات ما بعد الحداثة كتوجه العدمية السلبية وتوجه العبثية اليائسة وغيرها من جهة ثانية، ونفوذ النظرية البراغماتية في الحياة السياسية وغيرها التي تبني الأعمال على التوجه الأداتي الواقعي الذي يستهدف النجاعة والفعّالية الآنية، من جهة أخرى.
إنّ الأثر الإيديولوجي والاستراتيجي للعولمة على بلدان العالم وشعوبه جاءت درجته مختلفة من جهة إلى أخرى، تتحكم فيها عدة عناصر وتختلف الساحات باختلاف المتغيرات، ففي المجتمعات الغربية اختلت الروابط بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي وما هو تكنولوجي، وأصبح الرائج هو المنطق النفعي الواقعي الذي انتهى إلى العبثية والعدمية وغيرها من التوجهات في البلدان العظمى، وانتهى في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي إلى سقوط المشاريع الوطنية والقومية خاصة بعد انهيار المشروع القومي الاشتراكي والشيوعي وتحقق المشروع القومي الليبرالي الذي أشرفت وتشرف عليه العولمة، المشروع القومي الليبرالي الذي يقوم على عقلانية وإيديولوجية تتضمن قيّما جديدة تشكلت وانتشرت عبر العالم، منها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والمحافظة على البيئة ونشر التكنولوجيا وتحقيق التنمية وغيرها، هذه القيّم جاءت لتعوض قيّم الإيديولوجيات السابقة، لكنها تشير إلى وضع متأزم نتج بسبب الخروج عن سياق الإيديولوجيات ذات الأبعاد الخلقية والمعايير الطبيعية الإنسانية والقيّم الموضوعية العلمية التي حوّلت أوروبا من عصور الانحطاط إلى عصر التنوير والازدهار الحضاري الحديث والمعاصر، ولما جاءت إيديولوجية واستراتيجية العولمة في العالم علمانية لكنها ذات أصول عقائدية نصرانية ويهودية صهيونية، مما يؤكد تناقضاتها الصريحة، فإن ذلك أفقدها الشرعية المعقولية والشرعية الأخلاقية، والحياد العلمي، لأنها لا تستند إلى العقل ولا تقوم على منطق الفضيلة، وفي غياب المعقولية والفضيلة يظل المعطى الإيديولوجي والاستراتيجي مشبوها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.