استفادة كل ولاية من 5 هياكل صحية على الأقل منذ 2021    رئيس الجمهورية يقرر منح بعض القضاة المتقاعدين لقب "القاضي الشرفي"    عطاف يستقبل رئيس مفوضية مجموعة "إيكواس"    تقرير لكتابة الدولة الامريكية يقدم صورة قاتمة حول حقوق الانسان في المغرب و في الأراضي الصحراوية المحتلة    الفريق أول شنقريحة يترأس أشغال الاجتماع السنوي لإطارات المنشآت العسكرية    وزير الداخلية: الحركة الجزئية الأخيرة في سلك الولاة تهدف إلى توفير الظروف الملائمة لإضفاء ديناميكية جديدة    العدوان الصهيوني على غزة: سبعة شهداء جراء قصف الاحتلال لشمال شرق رفح    الرابطة الأولى: مولودية وهران أمام منعرج حاسم لضمان البقاء    الدوري البلجيكي : محمد الأمين عمورة في مرمى الانتقادات    بن ناصر يخسر مكانه الأساسي في ميلان وبيولي يكشف الأسباب    عين ولمان في سطيف: تفكيك شبكة ترويج المخدرات الصلبة "الكوكايين"    وزير النقل : 10 مليار دينار لتعزيز السلامة والأمن وتحسين الخدمات بالمطارات    بوغالي يؤكد من القاهرة على أهمية الاستثمار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي    جيدو /البطولة الافريقية فردي- اكابر : الجزائر تضيف ثلاث ميداليات الي رصيدها    أهمية مركزية لمسار عصرنة قطاع البنوك وتفعيل دور البورصة في الاقتصاد الوطني    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى عبر مختلف مناطق الوطن    محسن يتكفل بتموين مستشفى علي منجلي بخزان للأوكسيجين بقسنطينة    أفلو في الأغواط: حجز 19.5 قنطار من اللحوم البيضاء غير صالحة للاستهلاك    حوادث المرور: وفاة 16 شخصا وإصابة 527 آخرين بجروح خلال 48 ساعة الأخيرة    برج بوعريريج : فتح أكثر من 500 كلم المسالك الغابية عبر مختلف البلديات    جسدت التلاحم بين الجزائريين وحب الوطن: إحياء الذكرى 66 لمعركة سوق أهراس الكبرى    فايد: نسبة النمو الإقتصادي بالجزائر بلغت 4,1 بالمائة في 2023    ندوة وطنية في الأيام المقبلة لضبط العمليات المرتبطة بامتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا    الدورة الدولية للتنس بتلمسان : تتويج الجزائرية "ماريا باداش" و الاسباني "قونزالس قالينو فالنتين" بلقب البطولة    ألعاب القوى/ الدوري الماسي-2024 : الجزائري سليمان مولة يتوج بسباق 800 م في شوزو    الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات: مضمار الرياضات الحضرية يستقطب الشباب في باب الزوار    النشاطات الطلابية.. خبرة.. مهارة.. اتصال وتعاون    غزة: احتجاجات في جامعات أوروبية تنديدا بالعدوان الصهيوني    بطولة الرابطة الثانية: كوكبة المهدّدين بالسقوط على صفيح ساخن    الجزائر كندا.. 60 عاماً من العلاقات المميّزة    نحو إعادة مسح الأراضي عبر الوطن    بهدف تخفيف حدة الطلب على السكن: مشروع قانون جديد لتنظيم وترقية سوق الإيجار    42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    تجاوز عددها 140 مقبرة : جيش الاحتلال دفن مئات الشهداء في مقابر جماعية بغزة    توقيف 3 أشخاص بصدد إضرام النيران    الكشافة الإسلامية الجزائرية تنظم اللقاء الوطني الأول لصناع المحتوى الكشفي    تفاعل كبير مع ضيوف مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة : بن مهيدي يصنع الحدث و غزة حاضرة    ندوة ثقافية إيطالية بعنوان : "130 سنة من السينما الإيطالية بعيون النقاد"    مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة: الفيلم الفلسطيني القصير "سوكرانيا 59" يثير مشاعر الجمهور    شهد إقبالا واسعا من مختلف الفئات العمرية: فلسطين ضيفة شرف المهرجان الوطني للفلك الجماهيري بقسنطينة    رئيس لجنة "ذاكرة العالم" في منظمة اليونسكو أحمد بن زليخة: رقمنة التراث ضرورية لمواجهة هيمنة الغرب التكنولوجية    مدرب مولودية الجزائر يعتنق الإسلام    بلمهدي يلتقي ممثلي المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية والأوقاف    استعان بخمسة محامين للطعن في قرار الكاف: رئيس الفاف حلّ بلوزان وأودع شكوى لدى "التاس"    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن مرافقة الدولة لفئة كبار السن    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    على السوريين تجاوز خلافاتهم والشروع في مسار سياسي بنّاء    استغلال المرجان الأحمر بداية من السداسي الثاني    اللقاء الثلاثي المغاربي كان ناجحا    "توقفوا عن قتل الأطفال في غزة"    ضرورة وضع مخطط لإخلاء التحف أمام الكوارث الطبيعية    قصص إنسانية ملهمة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب والنزوع إلى التّوثيق التّاريخيّ
نشر في الشعب يوم 23 - 08 - 2022

الأدب في معناه العميق مسكونٌ بالثورة؛ فهو خَلْقٌ في إطار اللّغة، غير أنّه يُمثلُ ثورة على أطرها المُتّفق عليها وعلى قواعد بنائها باِعتبارها أداة تواصل. الأدب اِستعمالٌ خاص للغة، وبالتالي فهو يُمثل ثورة على المواضعات. ومن أهمّ صفات خصوصيّة لغته، كونها تهدف إلى التأثير في المُتلقّي، ولأنّها أداة تعبيريّة عن الأحاسيس.
هذه الوظيفة المُسندة للأدب تهيّئه لأن يكون أداة فعّالة للتحريض على الثورة وتحقيقها؛ فأيّة ثورة تكون في حاجة ماسّة لمخاطبة المشاعر وتشكيلها وفق الإيديولوجيّة الثوريّة. لهذا نجد أنّ كلّ ثورة حدثت في العالم منذ القديم رافقها أدبها الخاص المُعبّر عنها والداعي لها والمُجسّد لمبادئها. ولعلّ أقدم شكل أدبيّ أنتجته مختلف الثورات في العالم هو الأدب الملحمي. لقد رافق الأدب الملحمي ظهور الجماعات القوميّة وتحقيقها للذات الجمعيّة؛ فتمّ توظيفه من أجل تقوية الاِلتحام والاِعتداد بالذات الجمعية وبتاريخها وبِمَا تطمح لتحقيقه. كانت الملاحم على الدوام مُعبّرة عن تغيّرات تحصل في مسيرة المجتمعات وظهور لجماعات جديدة أو مُتجدّدة وصراعها مع الآخر من أجل الهيمنة وبسط النفوذ وتحقيق الكيان القوميّ.
علاقة الشِّعر الملحون في الأدب الجزائري بالثورة
إنّه الشِّعر الشفويّ الّذي تناقلته الذاكرة الجمعيّة، وتمّ تدوينه ونشره في العصر الحديث. سنذكر هنا بعض النماذج على سبيل التمثيل. نجد أنّ هذا الشِّعر قد واكب حركات مقاومة الاِحتلال الأجنبيّ منذ العهد التركيّ، فسجّل الوقائع ووصف بشاعة الحرب وما خلفته من آثار وجراح على جسد الجماعة الجزائرية، كما عدّد الاِنتصارات وما حقّقته حركة المقاومة. نعثر على ذلك في شِعر سيدي الأخضر بن خلوف، الّذي خلّد معركتين مهمتين خاضهما الجزائريّون بقيادة العثمانيّين في معركتين ضدّ المحتلّ الإسباني هما معركتا (شرشال ومزغران) والقصيدة المطوّلة للشاعر عبد القادر الوهراني التي سجل فيها معركة الجزائريين ضدّ جنود الاِحتلال الفرنسي غداة نزولها على شواطئ الجزائر العاصمة، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نعثر على النموذج البارز لشِّعر المقاومة المسلحة، في ديوان شاعر منطقة البيض؛ محمّد بلخير شاعر ثورة بوعمامة، كما نعثر على مقطوعات شِعرية منسوبة لمحمد بن قيطون صاحب قصيدة حيزيّة المعروفة، يصف فيها معارك مقامة ثورة الزيبان ضدّ عسكر الاِحتلال الفرنسيّ وما حدث حينذاك من تقتيل وسجن للثوّار وما سجّلته الذاكرة من بطولات للدفاع عن شرف سكّان منطقة الزيبان.
نشير هنا إلى قصيدة متوسّطة الطّول قالها في نفر من أهله شاركوا في مقاومة الاِستعمار، ولمّا فشلت الثّورة قام الجيش الفرنسي بالقبض عليهم، فأعدم عددا منهم وقضى البقيّة حياتهم في السّجون والمنافي. وكان ذلك بالنّسبة للشّاعر مدعاة للشّعور بالاِعتزاز والفخر والألم والحزن في نفس الوقت. يقول في مستهلّ القصيد مُتوجّهًا بالخطاب للحمام الزّاجل الّذي يدعوه لأن يحمل رسالته إلى أهله من البوازيد، ويُعبّر في هذه المقطوعة الاِستهلاليّة عن شوقه لأهله، وينسج علاقة تعاطف مع المرسول فيدعو له بالحماية، ويحثّه على الإسراع ومراعاة الحذر من الوقوع بين يدي العدو (الطّيور الجارحة)، وكأنّه بذلك يُهيئ نفسيّة المُتلقّي لمَا سيتحدّث عنه فيما بعد بخصوص من وقع بين يدي العدو الاِستعماري من مقاومين:
خير آبن الدّونان /**/ يا الازرق يحميك في ظنّي /**/ تدّيش ذا العنوان /**/ لولادت بوزيد بعدوني
لو كانك طيّار /**/ يا مظنوني واه خفّ اشطار /**/ بلاك من الاطيار/**/ لا تامنش طيور سفاني
بلاك واستحذر /**/ اتسرّش في اللّيل واتبكّر /**/ بلاك لتعثر /**/ سلّم عنهم قاع وتجيني
ينتقل بعد ذلك للحديث عن معاناته آلام فراق أهله وتشتّتهم إثر فشل حركة المقاومة التي جرت في منتصف السّبعينيّات من القرن التّاسع عشر، ويذكر المقاومين الذين سقطوا في ساحة المعركة، والذين لم يعودوا إلى ديارهم، وأولئك الذين تمّ أسرهم من طرف الجيش الاِستعماري. إنّه وصف مجمل للمقاومة البطوليّة متجلّية في حالات فرديّة يذكرها الشّاعر، وكأنّه شعر يقوم بمهمّته في كتابة تاريخ منطقته وأهله. لأنّ المؤسّسة الاِستعماريّة سوف تُسجّل هذه الواقعة التاريخية من منظورها، أمّا هو فما عليه سوى أن يستعمل الجماليّات الشّعريّة لتصوير هذه اللحظة من حياة الجماعة التي ينتمي إليها:
لحباب يالحباب/**/ نجعي نجعي وين قالوا غاب /**/ فرقوه ع لشعاب/**/ما اشينخبر اللّي على وذني
كي طاح امحمّد /**/ والسّرسور عليه متلمّد /**/ مجروح ويكمّد /**/ متأثّر باجراح دخلاني
ما جاش بن عيّاش /**/ راعي الاشهب يا ابني رياش /**/ زدمو وماولاّش/**/رجع السّرسور ظهراني
يا راعي الصّبّار /**/ شاش شاشعيدلي الاخبار /**/آناراه قلبي طار/**/على خوتي الاشراف بعدوني
اطيور بحريّه /**/ راحو ماولاّوش ليّ/**/ ما جاوشهنأي /**/ صيوده دوّاو عرباني
صدّوا قتوت اكبار /**/ راحوا ما بقاوا في الدّوّار /**/ دوّاوهم كفّار /**/ شمّت بيهم ذا النّصراني
كانوا مجمولين/**/واحزم احزم وفراشات مبسوطين/**/عادوا مسجونين/**/ في حبس اللاّشفتو عينيّ
نبكي نظلّ انّوح /**/ بيّ خوتي غرامهم مريوح /**/ ما صبت وين نروح /**/ ثارت فيّ قاع الامحان
هكذا يتحوّل الشّاعر مُتدرّجًا من مناجاة الحمام الزّاجل والتّعبير عن الأشواق للقاء الأهل والأحبّة، مُهيّئا المُستمع لتلقّي نبأ الصّراع الملحميّ الّذي حدث بين جماعته وأعدائها من المستعمرين، مُنتقلاً إلى الحديث عن هؤلاء الأخيرين وما لقوه من مصير، مُعيّنًا ظروف الكارثة الطّارئة، واصفًا لما حدث بشيء من التّفصيل، وهكذا نجد أنفسنا بعدئذ وجهًا لوجه أمام موقف رثاء يستند إلى تعداد خصال المتوفّين والمفقودين مقارنًا بين ماضيهم وحاضرهم، مُعتمداً في كلّ ذلك على القيم الشّعريّة الموروثة، صادراً في مزجه للفخر بالرّثاء عن القيم التي تؤمن بها الجماعة التي ينتمي إليها ويتضرّع بعدئذ للخالق لكي يأخذ الشهداء إلى جنّته ويُحقّق العدل فيمن ظلّ حيّا من القوم، وكأنّه بذلك يريد أن يُنبّه بأنّ الصّراع بين قومه وعدوّهم هو صراع حول السّلطة السياسيّة وليس حول شيءٍ آخر، نكتفي هنا بذكر بعض الجُمل الشِّعريّة الأولى في القصيدة:
نبكي على خوتي /**/ اللّي ما ولاّوش البيتي /**/ خلاّوني خوتي /**/ وامغيّر باجراح دخلاني
ناديت يا كفره /**/ والله أن يعياو في الصّحراء /**/ الابطال في شهره /**/ ركبوهم شبّان عجبوني
يا خالق البحور /**/ ردّ النّجع للّي غدا منشور /**/ عنّي لاباش يدور /**/اتشتّت عن كلّ الاوطان
من نفس المنطقة يُخاطبنا الشاعر بلقاسم بن زغادة (1886-1978) عن طريق قصيدة قصيرة حول الثورة. تبدو القصيدة ذات قيمة فنّية من حيث اِبتعادها عن الخطاب المُباشر واستعانتها بقيم القصيدة البدوية التقليدية وبلغة الشِّعر الشّعبيّ المتوارثة، وبطريقة النّظم المُستمدّة من التّقاليد الشّعريّة حيث يبدأ الشّاعر بالتّعبير عن شوقه للأحباب ومعاناته من فراقهم:
يا خوتي قلبي اخمج وكلاه الدّود ***** لا خاطر من عندهم قلت نساله
ثمّ يشكو قلّة حيلته، ويتأسّف لعجزه عن اللّحاق بالثّوار في "جبل بوكحيل" بسبب ضعفه ووهنه:
الله لا صحّه جديده شاو اهدود ***** وانسقسي عن بوكحيل ونغداله
غير أنّ مثل هذا العجز المادّي لا يقف حائلاً دون جموح الخيال، وتصوّر رحلة إلى جبل الثّوار، تُشبه إلى حدٍّ كبير مشهد رحلة الشّاعر الصّحراويّ نحو محبوبته، فيذكر اِمتطاءه لجواده وحمله للسّلاح ولزاد الفرس ولباسه، وارتحاله قاصداً الجبل:
أزرق نيلي ما يحكّ اعثاره عود ***** وانهزّ اسلاحي والعماره واجلاله
يلتقي بالثّوار فيصفهم، ويرسم مشهد حملهم للسّلاح:
جيش مخيّر في الجبل نلقاه قعود ***** واسلاح مخلّط كلّ نعت على حاله
ويُنبّه إلى أنّهم لا ينامون إلاّ القليل؛ يكتفون بِمَا هو ضروريّ لضمان الطّاقة التي تمكّنهم من القيام برسالتهم:
انطيح وعنهم في القمر والناس رقود ***** بقت نوم قليل من يجبر حاله
ويتحدّث عن معاركهم التي يخوضونها في ميدان القتال، مُعتنيًا بصفة خاصّة بوصف موقف القائد وهيأته، وطريقته في القتال:
الرّايس نعت السّبع داير سلسول ***** ويعاود في الطّايحين برافالو
يتّخذ بعدئذ صوت المقيّم للسّلوك التّحرّريّ والمحرّض على الثّورة وخوض القتال، والنّابذ للتّقاعس والجبن اِنطلاقًا من القيم الثقافية والدينية التي تُؤمن بها الجماعة:
اللّي مات يجاهد خير من عايش مذلول ***** كلّ ليلة فجعه جديده لعياله
لي ميّت راه في جنّه مضمون ***** وامّا الحيّ يحدّثونا بافعالو
ويخوض في الشّأن السّياسيّ فيتعرّض لهجاء العدوّ الاِستعماري مُمثّلاً في رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة آنذاك "الماريشال ديغول"، وموقفه من الشعب الجزائريّ لمّا نادى ب«سلام الشّجعان"، بعد أن فشل في اِستخدام القوّة والبطش، وكذلك بعد فشل مشاريعه لتحسين وضعية الجزائريين عن طريق تقديم بعض المساعدات للفئات المحرومة لكي تتخلّى عن دعم الثورة:
ماذا من خطبات قراها ديغول ***** والزّوخ لي كان خارج ولاّله
داير نفقه للعجايز والمهزول ***** ربّي صابه غير يخسّر في ماله
بعد الحرمه والجّهل ولّى مذلول ***** عاد يحلّل في الرّعيّة تهداله
ثمّ يستشرف الشّاعر المستقبل القريب للشعب الجزائريّ فيصوّر ما سيحصل عليه من اِستقلال وسيادة، واختيار لرئيس منبثق من نخبته السياسيّة الوطنيّة:
الضّغط الّي كان عنّا راه يزول ***** ومع شاو الصّيف يتنحّى خياله
ويجينا سلطان بعساكر وطبول ***** فرحات المذكور والاّ مثاله
تتباشر بيه العرب صحراء واتلول ***** كمّل يا ربّي نشوفو خياله
لا تخلو هذه القصيدة رغم غرضها الجدّي من مسحة الهزل والسخرية التي تطبع عادةً أشعار بلقاسم بن زغّادة، وقد لجأ إليها في تقييمه لموقف الماريشال ديغول لمّا قدّمه في مشهد كاريكاتوريّ، فيه كثير من المفارقة والعبث؛ وهو يأمر بتقديم المساعدات للمسنّين وضعاف الدّخل، بعد أن كان يُعامل الشعب الجزائريّ بصلف واعتداد وبطش.
من أقصى الغرب الجزائري نعثر على قصيدة لشاعر من منطقة بشار، من قبيلة ذوي منيع هو أحمد كرّومي (1918- 2002)؛ في المقطع الاِفتتاحي الّذي يستهلّ به الشّاعر قصيدته ((أولاد بلادنا شدّو الكيفان))، يقول:
من الرّابعة والخمسين في العدوّ طرطقنا العمارة ***** وطلعت الاولاد بلا سناح شدّو لها الكيفان
وعاونهم يا ربّ وزيدهم في الهمّه والشّان
يوم البرومي نوفمبر ذا تاريخ الغزّارة ***** وجيش التحرير أسّسنا باش يدقّ العديان
من خلال لغة هذا المقطع يتبيّن لنا بأنّ الشّاعر يتجاوز البعد المعرفي التّاريخيّ (أي نقل المعرفة التّاريخيّة) إلى التّعبير عن موقف من الواقعة المنقولة؛ وهو موقف حماسيّ عاطفيّ يتّجه فيه الشّاعر إلى اِستحضار المقام النّفسيّ الوجدانيّ للواقعة. في المقطع الثّاني يلجأ الشّاعر إلى نفس الموقف ويستعمل ضمير الجمع المُتكلّم ليعبّر عن موقف الجماعة الوطنيّة.. وهو موقف لا يقبله عادةً التاريخ بمفهومه النّثريّ، ويصبح هنا من متطلّبات العمل الشّعريّ الملحميّ، وهو ما نعثر عليه بصفة أكثر وضوحًا في وصف الشاعر للواقعة التي قادها الشهيد لطفي والمذكورة في نهاية القصيدة.
في قصيدة أخرى لمحمّد كرّوميّ تحمل عنوان ((الشّعب اليوم تنظّم)) مطلعها:
ياربّي ليك اشكينا واظهر راية الاسلام ***** راه هذا الوطن حزين
نجد معالجة للثورة تختلف عن المُعالجة السّابقة، إذ أنّ الشّاعر لا يسعى إلى نقل الوقائع بالتّفصيل، بل يتوجّه نحو اِستخلاص العبرة من تاريخ المقاومة، ثمّ الثّورة ليرسم مسار التّاريخ الصّداميّ للجزائريّين في مواجهة الاِستعمار، فيكتفي بذكر رموز المقاومة، وبتطوّر التّاريخ الوطنيّ في مختلف مراحله: المقاومة الجهادية المسلّحة في القرن التاسع عشر، والحركة السياسية الوطنية الحديثة فيما بين الحربين العالميتين، والثّورة المسلّحة بعد 1954:
الثّورة الامير بدّاها /**/ جاهد في الكفر خلاّها /**/ كم عساكر قضّاها /**/ وكان يساعف الايّام
الثّورة ان ابداها /**/ وعلى الجزائر راها /**/ يرعى ما اعطى القسّام
للمقراني خلاّها /**/ ألف وثمانمائة راها /**/ زيد السّتين معاها /**/ كاد يتبّع الارسام
كلّ ابطاله قضّاها /**/ راحو طول الدّوام
قعد ليها بوعمامه /**/ قايم ما خصّ اقيامه /**/ كلّ ابطاله زعامه /**/ صبرو كذا من عام
بالسّيوف العدّامه /**/ قطّعوا روس الاعجام
شعانبه قلاّعين الهانه /**/ عنان وامّ عمور معانا /**/ كلّ القبايل فتّانه /**/ تجي يوم الزّحام
فرانسا جابت الاعانه /**/ فزعو ليها قيام
/*****/
الشعب اليوم تنظّم /**/ بدا في السياسة يخدم /**/ عارف في الطّول ينجّم /**/ راه متبّع لرجام
الجيش الوطني متحزّم /**/ باه ظهر الاعلام
فرانسا راها مغدوره /**/ كبّت في قاع احدوره /**/ بابطال الغداء مشموره /**/ تهدّم حيط الظّلاّم
باقنابيل الكبيره /**/ طلقت فيه الحكام
في ربعه وخمسين بدينا /**/ في ذا الحرب اتّاوينا /**/ جاهدنا في اعدونا /**/ وطال الحرب القدّام
في السّتّين تقوّينا /**/ بان الضّوء للاسلام
/****/
وفي الحرب طوال مرارو/**/كلّ فبايلن اثارو /**/ كلّ واحد يجيب عبارو /**/ وفات السّابع في العام
الوطن حماها صغارو /**/ قبل الفجر العلام
كلمه زينه مختاره /**/ جابوها ذا الدّبّاره /**/ ذوك فراسين الغاره /**/ قبضوا الطّير السّهّام
اثنين وستّين ابشاره /**/ اتفاجا عنّا الظّلام
تمثّل هذه القصيدة رصداً لملحمة تشكّل الوطن الجزائريّ منذ الأمير عبد القادر حتّى ظهور الدّولة الوطنيّة بعد الاِستقلال. اِستعان الشّاعر بالتّلميح والإجمال واختزال المراحل التّاريخيّة، والتّركيز على أهمّ رموز هذا التّاريخ وعلى أهمّ محطّاته. وتبدو الرّوح الملحميّة واضحة في هذه القصيدة من حيث التّركيز على ذكر أبطال المقاومة، ثمّ الاِنتقال إلى التّعبير عن البطولات الجمعيّة، وهو نفس المسار الّذي عرفته تطوّرات الإيديولوجيا الوطنيّة الجزائريّة في منطلقاتها الفكرية والتنظيميّة.
نلاحظ في هذه النماذج الثلاثة نزوعًا إلى التّوثيق التّاريخيّ، وهو توثيق له أهمّيته بالنّسبة لمجتمع يعتمد أساسًا على ثقافة شفويّة، تعرّضت تقاليد الكتابة فيه إلى الاِضطراب والاِنقطاع بسبب ظروف الصّدام الدّاميّ والحروب وتحطيم المؤسّسات الثّقافيّة.. مِمَّا جعل الشّاعر الشّعبيّ يتكفّل بدور المؤرّخ؛ وهي خاصّيّة بقدر ما نعتبرها أمراً طبيعيًّا ومُبرّراً، بقدر ما تُثير بعض التّساؤلات، ومنها ما يتعلّق بالقيمة الأدبيّة والجماليّة لشِعر الثورة الجزائري، الّذي أخذ على عاتقه أن يصف ويصوّر أحداث التّاريخ في نفس الوقت. والتّأريخ مهمّة نرى بأنّها ذات طبيعة نثريّة، تتكفّل بها اللّغة الطّبيعيّة، لغة التواصل، التي تتّصف بالوضوح والمباشرة والشّفافيّة. غير أنّ المتأمّل في الشِّعر الشّعبيّ الثوريّ، وخاصّةً منه ما سجّل وقائع الصّمود والمقاومة في وجه الغزاة يلمس تلك الرّوح الملحميّة التي تُعيد للشِّعر صفاءه وتطبع الكلمة والعبارة بقيمة نفسيّة، ذات بعد جماليّ، وتتجاوز البُعد المعرفيّ التّاريخيّ لتربط الشِّعر بالتّقاليد الشِّعريّة الملحميّة الموروثة.
*عن مجلة "فواصل" بتصرّف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.