كانت لي معه لقاءات في أولى بداية عملي الصحفي بأسبوعية «أضواء» بساحة أودان، حيث تتقاسم مع يومية «الشعب» مقرا قبل إدماجها بالمؤسسة الوطنية للصحافة «الشعب» التي ضمت آنذاك 4 عناوين إعلامية، اليوميتين الشعب والمساء والأسبوعيتين أضواء والمنتخب الرياضية. وجدته إلى جانب صحافيين آخرين منهم محمد زهاني، محمد عباس، سليم قلالة، بوعشة محمد، بشير حمادي، سعد بوعقبة وغيرهم من فطاحل الإعلام، نعم الصديق والمرافق للإعلامي بتوجيهاته ونصائحه لترقية الأداء الوظيفي لمهنة وصفت دوما بالمتاعب وألصقت بها المعاناة والإكراهات. إنه الإعلامي الزميل قاسم دراجي الذي غادرنا دون رجعة مصارعا المرض إلى آخر نفس. غادرنا تاركا وراءه ذكريات ومناقب لا يمحوها الزمن. فقد كان قاسم الذي عرفته في بداية مشواري المهني، آية في البساطة والتواضع مساعدا للآخر دون أن ينتظر جزاء أو شكورا. يستجيب لأي طلب بعفوية ويخوض في نقاشات فكرية وإعلامية عارضا تحليلات وأراء استشرافية عن الإعلام الحلقة المفصلية في تطور الأمم حاملا انشغالات الناس منتقدا بروح المسؤولية والتبصر بعيدا عن المرثيات والمضاربة الكلامية. هذه الرؤى تضمنتها تعليقاته ومواضيع وتغطيات تصدرت أولى صفحات الشعب التي تولى فيها منصب رئاسة التحرير في أواسط الثمانينيات قبل تحوله إلى يومية السلام التي كان أحد مؤسسيها وراودها والعودة ثانية إلى أم الجرائد منتصف التسعينيات ليواصل المشوار رئيسا للقسم الوطني الذي التحقت به بعد تجربة رئاسة القسم الدولي بجريدة «الشعب». ظل قاسم وفيا لهذا النهج مشبعا بقيم المواطنة والوطنية رافضا إغماض العين على الاعوجاج والنقائص مرافعا إعلاميا لجزائر قوية ناشئة تتخذ من الاختلالات دروسا للإقلاع من الأزمات وثبة نحو الأمام بالاعتماد على قدراتها ومدخراتها ونخبها العقل المفكر والقلب النابض. ظل وفيا لهذا المسار وهو يتولى مهام مدير الثقافة في عدة ولايات كانت الأغواط أولى محطاته. أتذكر كيف كان يدير باقتدار جلسة مع الجمعيات والفنانين تحضيرا لزيارة رئيس الجمهورية في أولى عهداته إلى الاغواط وضغط كل واحد من ممثلي المجتمع المدني ليكون له الأفضلية في تمثيل الولاية في مراسم حفل الاستقبال. رغم الصراخ المرتفع إلى أعالي السماء والأجواء المشحونة بالتوتر والملاسنات اتسم قاسم بهدوء الأعصاب والتحكم في النفس مقنعا كل طرف بما اتخذه من قرار بعد مشاورات وإقناع دون ترك الأمور تفلت منه. أتذكر كيف كان يرد علي كلما سألته عن هذا السلوك قائلا: «إن المرء يكسب ثقته في مخاطبة الآخر بالتي هي أحسن دون الانسياق وراء العاطفة وإطلاق العنان لنفسه للتفوه بأي كلام يجرح الآخرين ويولد الحقد والضغينة والعنف لديهم». لكن مخاطبة الآخر بالتي هي أحسن تزيد الشخص قيمة واعتبارا وترفع شأنه.هذه السمة التي تحلى به قاسم هي الإجابة الصريحة على السؤال كيف كسب قاسم مودة الآخرين واحترامهم إلى أبعد الحدود.فكان نعم الصديق في الحياة والممات.