رئيس الجمهورية : قمة المؤسسة الدولية للتنمية فرصة مواتية لبحث سبل مواجهة التحديات    بوزيدي : المنتجات المقترحة من طرف البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    الشلف – الصيد البحري : مشاركة أزيد من 70 مرشحا في امتحان مكتسبات الخبرة المهنية    الدكتور عبد الحميد عفرة: الجزائر معرضة ل 18 نوعا من الأخطار الطبيعية تم تقنينها    مسؤولون أمميون ينتقدون فشل المجتمع الدولي في إنهاء الإبادة الجماعية بغزة    المغرب : 8 نقابات تتمسك بالتصعيد وتعلن شل المستشفيات العمومية في مايو المقبل    إجراء اختبارات أول بكالوريا في شعبة الفنون    رفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا    تسخير كل الإمكانيات لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    شنقريحة يحث على اليقظة..    هنية يُعبّر عن إكباره للجزائر حكومةً وشعباً    العالم بعد 200 يوم من العدوان على غزة    صورة قاتمة حول المغرب    5 شهداء وعشرات الجرحى في قصف صهيوني على غزة    العدوان على غزة: الرئيس عباس يدعو الولايات المتحدة لمنع الكيان الصهيوني من اجتياح مدينة رفح    مولودية الجزائر تقترب من التتويج    تيارت/ انطلاق إعادة تأهيل مركز الفروسية الأمير عبد القادر قريبا    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    تقدير فلسطيني للجزائر    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنّين    أمّهات يتخلّين عن فلذات أكبادهن بعد الطلاق!    سنتصدّى لكلّ من يسيء للمرجعية الدينية    برمجة ملتقيات علمية وندوات في عدّة ولايات    المدية.. معالم أثرية عريقة    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فرصة مثلى لجعل الجمهور وفيا للسينما    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    الجزائر تُصدّر أقلام الأنسولين إلى السعودية    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    استئناف حجز تذاكر الحجاج لمطار أدرار    بعد الإعلان عن خفْض الفوائد البنكية على قروض الاستثمار: قرارات الحكومة تريح المستثمرين    سونلغاز تفتح أزيد من 550 منصب شغل بولايات الجنوب    لموقفها الداعم لحق الفلسطينيين قولا وفعلا: هنية يعبر عن إجلاله وإكباره للجزائر    وزيرة التضامن كوثر كريكو: الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنين    بعد مسيرة تحكيمية دامت 20 سنة: بوكواسة يودع الملاعب بطريقة خاصة    3 تذاكر ضاعت في نهاية الأسبوع: الثنائي معمري يرفع عدد المتأهلين إلى دورة الأولمبياد    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    مبادرة ذكية لتعزيز اللحمة الوطنية والانسجام الاجتماعي    لأول مرة في الجزائر: «اتصالات الجزائر» ترفع سرعة تدفق الانترنت إلى 1 جيغا    القضاء على إرهابي بالشلف    تخوّف من ظهور مرض الصدأ الأصفر    تسجيل تلاميذ السنة الأولى بالمدارس القريبة من إقامتهم    إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار    "العايلة" ليس فيلما تاريخيا    عائد الاستثمار في السينما بأوروبا مثير للاهتمام    "الحراك" يفتح ملفات الفساد ويتتبع فاعليه    مواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية ولثورة نوفمبر    سارقا أغطية البالوعات في قبضة الشرطة    راتب بن ناصر أحد أسباب ميلان للتخلص منه    أرسنال يتقدم في مفاوضات ضمّ آيت نوري    مدرب ليون الفرنسي يدعم بقاء بن رحمة    العثور على الشاب المفقود بشاطئ الناظور في المغرب    قسنطينة: دخول "قريبا" فندق سيرتا العمومي حيز الخدمة بعد إعادة تهيئته    15 جريحا في حوادث الدرجات النارية    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاض يحكم على خليفتين ويسجن ابنه
نشر في الشروق اليومي يوم 09 - 05 - 2007


محمد‮ الهادي‮ الحسني
ما أجهل أكثر مسلمي هذا الزمان بدينهم الحنيف وحقائقه الناصعة، وما أجهلهم بتاريخهم المجيد، ووقائعه الرائعة، وما أشقاهم بهذا الجهل، الذي جعلهم يفعلون في أنفسهم ما لم يفعله بهم أعداؤهم.. لقد تألق في أمصار أمتنا الإسلامية وفي مختلف أعصارها عظماء كثير في شتى الميادين عزّ وجود نظراء لهم عند غيرهم..
إن هذه العظمة إن هي إلا ثمرة ذلك الدين القيم، الذي ينشئ أتباعه الحقيقيين على العزة، وينمي فيهم الأنفة، ويغرس في نفوسهم الإباء والكرامة، ومن كان في هذا الكلام يمتري فليرجع إلى قصة ذلك الطفل الذي لم يفر كما فر أنداده عندما رأوا الخليفة عمر بن الخطاب مقبلا نحوهم، فلما سأله الخليفة. لماذا لم تفر كما فعل أترابك؟ قال له: لم آتِ ما أخشاك بسببه، ولم تكن الطريق ضيقة فأفسح لك. يا حسرتاه على أمة كان أكثر أطفالها رجالا، فصار أكثر "رجالها" أطفالا.
من عظماء هذه الأمة الذين يفتخر الزمان بذكرهم، وتَشْرُف الإنسانية بهم، القاضي شُرَيْح بن الحارث بن قيس الكِنْدي، الذي عمّر أكثر من مئة عام. كان شُريح أحد المتبحرين في علوم اللسان العربي بشوارده ونوادره، الراسخين في العلوم الشرعية بأصولها وفروعها، مما جعل العلامة ابن سيرين يعتبره خامس خمسة في الكوفة بسطة في العلم، على ما في الكوفة يومئذ من جهابذة العلماء، وأساطين الفقهاء. ما كان امتياز شُرَيْح بالعلم فقط، بل امتاز أيضا بالحميد من الفعال، والكريم من الخصال، مما حبّب فيه الناس، وأكسبه ثقة ثلاثة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد ولاّه الخليفة عمر بن الخطاب قضاء الكوفة، وأقره فيه الخليفتان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، واستمر في منصبه حتى تولى الحجاج بن يوسف ولاية العراق، فاستَعفَى شُرَيْح من القضاء، بعدما قضى فيه نيفا وسبعين عاما، كان فيها نموذجا مثاليا للقاضي النزيه والحكم الشريف العفيف.
تذكر المصادر أن سبب توليته القضاء هو أن الخليفة عمر بن الخطاب أراد شراء فرس، فلما جربها قبل دفع ثمنها أصابها عطب، فردها إلى صاحبها، فرفض أخذها لما أصابها من عيب، فاقترح عمر وهو خليفة أن يحكتما إلى حكم، فقال صاحب الفرس: "بيني وبينك شُرَيْح العراقي" جاء الخصمان إلى شُرَيْح، وقصا عليه خلافهما، فحكم على الخليفة بدفع ثمن الفرس، أو ردها إلى صاحبها مسلّمة لاشية فيها، فعلّق الخليفة العظيم على حكم هذا الحكم العظيم قائلا: "وهل القضاء إلا هذا؟"، ثم عينه قاضيا على الكوفة، مشترطا عليه كما رُوي عن شُرَيْح نفسه "أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أقضي وأنا غضبان". وقد رد على من عاب عليه أخذ مبلغ من بيت المال مقابل توليه القضاء قائلا: "أجلس لهم أي للمسلمين وأحبس عليهم نفسي ولا أُرزق".
يعتبر بعض الدارسين المتخصصين في القضاء وتاريخه القاضي شُرَيْحا أحد المجتهدين في القضاء الإسلامي، وضربوا لذلك أمثلة منها أنه استَحلَف مدّعيا بعد إتيانه بالبيّنة، والمعلوم هو أن اليمين على من أنكر الدعوى لا على من رفعها. فقيل لشُرَيْح: "ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟". فأجاب: "رأيت الناس أحدَثوا فأحدثت". وقد كان شُرَيْح يتحرى ويدقق في أخلاق الشهود، ويشترط في الشاهد أن يكون "ممن يجلس مجالس قومه، ويشهد معهم الصلوات، ولا يطعن عليه في بطن ولا فرج". ولو كان شُرَيْح في زماننا هذا لرد شهادة تسع وتسعين في المائة من الشهود بسبب بطونهم وما تحتها.
كما كان يرفض أن يتفوّه الشاهد بأي كلام تُشتَم منه رائحة التأثير على حكمه، فكان يطلب من الشاهد أن يدلي بشهادته من دون أن يصف المتهم بأية صفة. وقد شهد شخص أمامه، فأشار في شهادته إلى المتهم وقال: "أشهد أنه ظالم"، فأمر شُرَيْح بإخراج الشاهد من مجلس القضاء، قائلا له: "قم، فلا شهادة لك، ومن أدراك أنه ظالم" وبالرغم مما عرف عن شُرَيْح من رقة المشاعر، ولطيف الأحاسيس، فقد كان لا يتردد في إيقاع الأحكام الشرعية الرادعة على كل من ثبتت عليه التهمة، بعد أن يمكّنه من الدفاع عن نفسه، وكان شعاره "إنما القضاء جَمْرٌ"، ولذلك لم تأخذه رأفة بابنه، ولم يتردد في إدخاله إلى السجن.
لقد كان شُرَيْح عظيما، إذ لم يكن يجد في نفسه حرجا من أين يصرح على رؤوس الإشهاد أنه بشر قد يخطئ في أحكامه، وكان شجاعا فيطلب تنبيهه إلى ما يمكن أن يقع فيه من خطأ، وقد قال لشخص لامه على حكم أصدره: "لئن رأيت أني لا أخطئ، لبئس ما رأيت" وما قال شُرَيْح هذا القول تصنّعا ورياء كما يفعل بعض الناس، الذين يُظهرون التواضع المزيف، ويضمرون الاستعلاء الفارغ، وإذا قالوا أو فعلوا ظنوا أنفسهم أنهم لا يقولون إلا حكما من الأقوال، ولا يأتون إلا سليما من الأفعال، فإن نُبّهوا إلى سوء تصرف استشهدوا الأنذال. وأما الموقف الذي نتيه به على العالم، فهو حكم القاضي شُرَيْح على الخليفة علي بن أبي طالب ­ كرم الله وجهه­ لصالح يهودي، وخلاصة القضية أن الخليفة علي بن أبي طالب أضاع درعه، ثم رآها عند يهودي، فطلب منه إعادة الدرع، فأنكر اليهودي، ورفض إعادة الدرع لصاحبها، فرفع الخليفة الأمر إلى القاضي شُرَيْح، الذي لم يشك مثقال ذرة في صدق الخليفة، ولكن اليهودي أصر على الإنكار، فاستشهد القاضي شُرَيْح عليا، فأشهد ابنه وخادمه. رفض القاضي شُرَيْح شهادة من شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة، لما بين الشاهد والمشهود له من علاقة بنوة وأبوّة، وذلك لكي لا يفسح المجال للخراصين وماضغي الأقوال، وحكم باحتفاظ اليهودي بالدرع، فبهت هذا اليهودي، لأنه لم يتخيّل أن يحكم القاضي لصالحه بالرغم من تيّقنه من بهتانه، فلم يستنكف أن يؤوب إلى الحق، ولم يصر على البهتان، فقال: "أشهد أن الدرع لك مخاطبا عليا وإن دينكم هو الحق، قاضي المسلمين يحكم على أمير المؤمنين، ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله".
رحم الله القاضي شُرَيْحا، ورضي عمن ولاّه القضاء، وخضع لأحكامه وإن لم تكن في صالحه كعمر وعلي، وإن المسلمين لم يتردوا هذا التردي الشنيع، ولم يسفلوا هذا التسفل الفظيع إلا لأنهم أعرضوا عن أحكام الإسلام وحكمه ولو زعموا أنهم من أتباعه، وادعوا أنهم من علمائه ودعاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.