فيما توج رديف «الكناري» بكأس الرابطة: وفاق سطيف وسوسطارة يدشنان الجولة 25 بالفوز    بغرض تسهيل تنقلهم نحو أرض الوطن دون تأشيرة مسبقة: نواب ممثلون للجالية الوطنية يثمنون قرار رئيس الجمهورية    مصدر،علي عون: بقينا نحتاج إلى صفائح المعدنية لصناعة السيارات    دولة فلسطين ترحب بمشروع القرار الذي تقدمت به المجموعة العربية: 143 دولة صوتت لصالحه وامتنعت 25 في حين رفضت القرار 9 دول    أعمال معادية للمسلمين بمدينة بورغ أون بريس بفرنسا    في تصريح لنقيب منظمة محامي الجزائر،محمد بغدادي: نؤكد على مواكبة هيئة الدفاع لتطورات العالم الرقمي    مجلس أعلى للصحافة هو الحل..!؟    حسب مصالح الأرصاد الجوية : أجواء مشمسة على معظم الوطن    وزارة المالية تطلق دعوة للترشح.. قريبا    جيشنا قوّي وسيتقوى أكثر لصون استقلال الجزائر    المدرسة العليا للإدارة العسكرية بوهران.. تكوين عصري وفعّال    فيزا شنغن : تجديد تأشيرة الإقامة القصيرة    البوليساريو تحصي مكاسبها في ذكرى التأسيس    نتطلع إلى المزيد من الازدهار في علاقاتنا مع الجزائر    توسيع القاعدة المنجمية ضمن استراتيجية وأولويات الرئيس    منتخبنا لأقل من 20 سنة يحرز9 ميداليات جديدة    اختتام ورشة العمل بين الفيفا والفاف    "العميد".. للاقتراب من اللّقب من بوّابة اتحاد خنشلة    المنتخب الوطني يواصل تحضيراته بإسبانيا    الجزائر- إيطاليا.. تعزيز الشراكة والتنسيق ضمن «ماتيي»    نحو بلوغ استغلال 60 % من المياه المُسترجعة    ورقلة.. مساعٍ لحماية المساحات الخضراء من التّوسّع العمراني    مولوجي تفتح الآفاق أمام إبداعات المرأة    "زئير الظلام".. يستقطب جمهورا واسعا بقسنطينة    إقبال كبير على الفيلم الفلسطيني "معطف حجم كبير"    استئناف حجز تذاكر الحج لمطار الجزائر    مستوطنون يحرقون مكتب "الأونروا" فيذالقدس المحتلّة    برج بوعريريج..نحو تهيئة متنزه بومرقد وجعله متنفّسا للعائلات    بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير وبجامعة باتنة1 : المنتدى الوطني الأول "الأخبار الكاذبة عبر منصات الإعلام الرقمي"    أونروا : وقف إطلاق النار "الأمل الوحيد لتجنب إراقة المزيد من الدماء ويجب إعادة فتح طرق المساعدات"    عين الدفلى : توقيف 7 أشخاص وضبط 56340 قرص مهلوس    غرداية : تفكيك نشاط شبكة إجرامية وحجز 1500 مؤثر عقلي    تتويج عالمي للزيت الجزائري    العرباوي يستقبل سفير إيطاليا    شكوك حول مشاركة غنابري مع ألمانيا في أورو 2024 بسبب الاصابة    بداني يُطمئن الصيّادين    رخروخ يستقبل وفداً    استحسن التسهيلات المقدمة من السلطات : وفد برلماني يقف على نقائص المؤسسات الصحية بقسنطينة في مهمة استعلامية    غرداية: الفلاحون مدعوون إلى توحيد الجهود لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    مشاركة 37 ولاية في اليوم الوطني للفوفينام فيات فوداو    طاقم طبي مختص تابع لمنظمة أطباء العالم في مهمة تضامنية في مخيمات اللاجئين الصحراويين    دورات تكوينية لفائدة وسائل الإعلام حول تغطية الانتخابات الرئاسية بالشراكة مع المحكمة الدستورية    الديوان الوطني للإحصائيات: فايد يؤكد على ضرورة تحسين جودة البيانات    مجلس الأمة يشارك في مؤتمر القيادات النسائية لدعم المرأة والطفل الفلسطيني يوم السبت المقبل بالدوحة    صورية مولوجي تفتتح الطبعة التاسعة للمهرجان الوطني لإبداعات المرأة بالجزائر العاصمة    خنشلة.. انطلاق الحفريات العلمية بالموقع الأثري قصر بغاي بداية من يوم 15 مايو    المعرض الوطني للصناعات الصيدلانية بسطيف: افتتاح الطبعة الثانية بمشاركة 61 عارضا    انطلاق لقافلة شبّانية من العاصمة..    الحملة الوطنية التحسيسية تتواصل    رئيس الجمهورية يستقبل وزير خارجية سلطنة عمان    البروفسور بلحاج: القوانين الأساسية ستتكفل بحقوق وواجبات مستخدمي قطاع الصحة    لا تشتر الدواء بعشوائية عليكَ بزيارة الطبيب أوّلا    "كود بوس" يحصد السنبلة الذهبية    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    أفضل ما تدعو به في الثلث الأخير من الليل    هول كرب الميزان    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد العربي ولد خليفة‮.. أسئلة من أجل نقد الذات ومساءلة الآخر
نشر في الشروق اليومي يوم 23 - 06 - 2007


محمد‮ أرزقي‮ فراد‬ ferradrezki@yahoo.‬fr
(لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟ لسنا أول من طرح هذا السؤال، ولن نكون بالتأكيد -والحال على ما هو عليه- آخر من يبحث عن الجواب، قد يضاف إلى قائمة طويلة تجمعت فيها خلال القرنين الماضيين مقاربات التوصيف والتشخيص والغضب والرثاء، واقتراح وصفات العلاج والشفاء، وشروط النهضة وإعادة التأسيس والبناء... كيف نفسر تعلق شرائح من مجتمعنا بفرنسا جنسية ولسانا بديلا؟ وكيف يدافع البعض من نخبنا وقسم من إعلامنا عن مصالح فرنسا في الجزائر، وليس عن مصالح بلدهم هناك؟ أين الخلل؟ هل في الرعاة أم في الرعية؟ أم فيهما معا؟)
هذه عينة عن الأسئلة الكثيرة والهامة التي طرحها المفكر الجزائري محمد العربي ولد خليفة في كتابه الجديد بعنوان (المنطقة العربية الإسلامية، مدخل إلى نقد الحاضر ومساءلة الآخر) الصادر عن دار الأمل بتيزي وزو، بتصدير من توقيع الكاتب الكبير والأديب الشاعر عزالدين ميهوبي، تناول فيه المؤلف -كما هو مبين في العنوان- هاجس التخلف الذي أرخى بسدوله وألقى بظلاله على عالمنا العربي منذ مدة ليست بالقصيرة. ومما لا شك فيه أن هذه المقاربة الجديدة تأتي في سياق قلق المثقفين والمفكرين العرب على حاضرنا ومستقبل أجيالنا، أمثال شكيب أرسلان وإدوارد السعيد وهشام الشرابي ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري وبرهان غليون ومحمد أركون وغيرهم الذين دأبوا على إنتاج الأسئلة والقيام بوظيفة النقد من أجل تحريك المجتمع نحو الرقي والحداثة، خاصة ونحن نتخطى عتبة قرن جديد متميز بإيديولوجية جديدة، مؤسسة على القطبية الأحادية التي تعني ببساطة الاستعمار الجديد، القادم إلينا هذه المرة من القارة الأمريكية بقيادة الولايات المتحدة، التي تعتبر أن التاريخ قد انتهى بسيطرتها على العالم، وعليه فهي تعتبر كل معارضة لسياستها الليبرالية التوسعية شرا وخطرا على السلم‮ الدولي،‮ لذلك‮ لم‮ تتوان‮ في‮ ركوب‮ الأمم‮ المتحدة‮ لفرض‮ سيطرتها‮. ومما‮ زاد‮ أوجاع‮ هؤلاء‮ المثقفين‮ تورما،‮ انسياق‮ بعض‮ الحكام‮ العرب‮ وراء‮ هذه‮ السياسة‮ الناهبة‮ لخيرات‮ الشعوب‮.‬ هذا وقد قسم المؤلف كتابه إلى قسمين اثنين، أولهما متكون من أربعة فصول استهلها بعنوان (من اعتقال العقل وغفلة الساسة إلى تعثر النهضة وتأجيل التحديث). ذكر فيه أن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية قد اتسم بانتعاش العلوم وانتشار المعارف في جو الحرية والتسامح والانفتاح على ثقافات الآخرين. ثم قام بنقد العوامل الثقافية والسياسية التي أدت إلى أفول نجم الدولة العربية الإسلامية، وإلى خمول أهلها وركود عقولهم التي لم تستفد من النهضة الأوروبية التي برزت وانتعشت على مرمى حجر منهم، الأمر الذي أدى إلى اختلال التوازن الحضاري بين‮ ضفتي‮ البحر‮ الأبيض‮ المتوسط.
ولعل‮ أخطر‮ نتائج‮ هذا‮ الاختلال‮ هي‮ ضياع‮ الأندلس‮ في‮ موفى‮ القرن‮ الخامس‮ عشر‮ الميلادي‮ ثم‮ ضياع‮ فلسطين‮ في‮ القرن‮ العشرين‮.‬ ولم يلبث الأمل أن أطل برأسه مع قيام الثورات التحررية في العالم العربي، التي توسمت فيها الشعوب العربية خيرا بأن تفتح لها الطريق نحو النهضة والتحرر من خلال التطور الاقتصادي والاجتماعي. ولئن نجحت هذه الثورات في تحقيق الشق السياسي باسترجاع السيادة المغتصبة، فإنها عجزت عجزا تاما عن بناء الدولة الحديثة أساسها التحديث والمؤسسات القوية، بسبب تلوث الروح وانطفاء العقل وتعطيل الديمقراطية وإقصاء الشعوب من المشاركة في التسيير رغم إدراك الجميع أنه لا حل خارج الديمقراطية، وأدى ذلك إلى تعميق الهوة بيننا وبين الدول المتقدمة‮. ومن‮ أبرز‮ تجليات‮ التخلف‮ الجاثم‮ على‮ عالمنا‮ العربي‮ الإسلامي،‮ أن‮ قسما‮ من‮ دوله‮ قد‮ انضوت‮ تحت‮ مظلة‮ الغرب (بشقيه الأوروبي والأمريكي) الطافح بالأنانية، والساعي إلى تقسيمها إلى مناطق نفوذ اقتصادية وثقافية، علما أن الكفة راجحة اقتصاديا لصالح الغرب الذي يستفيد أكثر مما يعطي، ويتم ذلك على مسمع ومرأى من أهل الحل والعقد عن قصد أحيانا أو بسبب تهاونهم. لقد استطاع الغرب ما بين النكستين (سقوط الأندلس وفلسطين) أن يفرض سيطرته بطرائق مختلفة على العالم العربي الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى شعور المثقفين الواعين والساسة العاملين -الذين صنعوا الحركة التحررية- بالخيبة والمرارة. ويرى المؤلف أن الحل الوحيد للخروج من نفق التخلف يكمن في الاستثمار في العنصر البشري، عن طريق ترقية المنظومة التربوية والتكوين لترسيخ المعرفة ولرسم معالم استراتيجية طويلة المدى قصد استثمار الأبحاث العلمية وروائع تراث الإنسانية بلغاته المختلفة، وكذا بناء الحوار‮ بين‮ الحضارات‮ على‮ أساس‮ الاحترام‮ المتبادل‮ بين‮ أطرافه‮ بمنأى‮ عن‮ ذهنية‮ السيطرة‮ الاستعمارية‮.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو مكون أيضا من أربعة فصول بعنوان (إحياء المرجعية الوطنية بإشراك الشباب وتجديد الخطاب: تعدد وتجانس الجزائر وإفريقيا رصيد ومشتركات) وقد خصصه للثورة الجزائرية باعتبارها مشروعا تجديديا حاملا لبذور النهضة في إطار التحرر التدريجي، يأخذ بيد الجزائر لتجاوز التخلف الموروث عن العهد الاستعماري، مع إشارة قوية إلى خطورة الرجوع إلى سياسة التبعية، وكذا التنبيه إلى سوء مغبة سياسة احتكار تراث الثورة سواء من طرف جماعة ما، أو من طرف أفراد. وقدم المؤلف في هذا الإطار أربع شخصيات كنماذج لرواد الثورة التحريرية ولعهد ما بعد الاستقلال هي: الأمير عبد القادر باعتباره مقاوما للاحتلال الفرنسي وباعثا للسيادة الوطنية وممثلا للتجربة الأولى للنظام الشوري (الديمقراطية)، والملفت في حياة هذا الرجل الفذ أن واجبات النضال وتسيير الدولة لم تحل دون اهتمامه بقضايا الفكر والثقافة، لذلك فهو في نظر المؤلف: (من القادة القلائل على مستوى المنطقة العربية والإسلامية الذين جمعوا بين السيف والقلم -هناك اليوم من القادة من لا يستطيعون قراءة ورقة مكتوبة بالعربية أو أية لغة أخرى- واستطاعوا التوفيق بين أعباء القيادة في مرحلة عصيبة ومؤسسات البلاد تتعرض للتدمير الشامل، وبين الاهتمام بالثقافة وتسجيل تأملات فكرية وجمالية على درجة عالية من الأهمية التاريخية والمعرفية -ص256-).
أما الشخصية الثانية فهي تتمثل في مصطفى بن بولعيد المشهود له بالعصامية والنضج المبكر وحصافة الرأي وبجهوده الجبارة من أجل إنقاذ الحركة الوطنية من المأزق (فقد حاول رأب الصدع، والارتفاع بأقرانه إلى مستوى التحدي الخطير المطروح على البلاد كلها، والتنبيه إلى مغبة الانقسام والبلبلة والصراعات الهامشية، وتسبيق المصالح الأنانية على حساب القضية الوطنية، في هذه الحالة لن يكون الرابح في كل الحالات سوى عدو الجميع، وهو الطغمة الكولونيالية، وكلابها المسعورة من العملاء -ص 265-)، ومن مواهبه الأخرى قدرته على جمع الصفوف وبناء مصداقية‮ القيادة،‮ وقد‮ سار‮ -‬برأي‮ المؤلف-‬‮ (‬على‮ نهج‮ عمالقة‮ التاريخ‮ الذين رسم‮ فيلسوف‮ التاريخ‮ "‬كار‮ لايل‮" ملامحهم‮ في‮ دراسته‮ عن‮ الأبطال‮ -‬ص263‮-).‬ والشخصية الثالثة هي مولود قاسم نايت بلقاسم الذي نهل -برأي المؤلف- من معين المدرستين: حزب الشعب الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبرزت شخصيته باعتباره داعية للأسس الفكرية للدولة الجزائرية الحديثة المتجلية في محورين هامين هما: الأصالة (أو الآنية‮) والمعاصرة،‮ وقد‮ عمل‮ من‮ أجل‮ تحديث‮ مكونات‮ الهوية‮ التي‮ سماها‮ المؤلف‮ ب جوامع الأمة عن طريق بعث التعليم الأصلي الذي قال عنه المؤلف: (حُلم مولود الكبير هو إحياء التعليم الأصلي ذي التقاليد العريقة في جزائر الرباط والزوايا معقل المقاومة والحصن المنيع للقرآن والعربية لأكثر من مائة عام من الاحتلال وإلى اليوم، وتحديث ذلك التعليم، وكأنه توقع في لحظة إشراق وتأمل ما بدأ يلوح في سماء الجزائر من اختلالات وصراعات أشبه بالنار تحت الرماد، فمن يستهين بالمعطى الروحي في الجزائر القديمة والمعاصرة، يكون عن وعي أو غير وعي، قد غامر بها في مضيق العواصف -ص272-). كما استطاع أن يرفع من مقام الجزائر على‮ الصعيد‮ الدولي‮ بفضل‮ مشروع‮ ملتقيات‮ الفكر‮ الإسلامي التي‮ كانت‮ بمثابة‮ مركز‮ للإشعاع الروحي‮ والعلمي‮ على‮ مستوى‮ العالم‮ الإسلامي‮.
لقد أخلص مولود قاسم نايت بلقاسم للغة العربية التي ملك ناصيتها، فسعى إلى ترقيتها دون انغلاق فكري أو تعصب مذهبي، لأن تعدد الألسن آية من آيات الله، لذلك فإن عربيته ليس لها أنياب، بدليل أنه احتضن أيضا البعد الأمازيغي في شخصيتنا الوطنية، خاصة من خلال تسمية ابنه‮ البكر‮ باسم‮ يوغرطة‮.‬ لقد أدرك مولود قاسم نايت بلقاسم بعقله الوقاد أن احتضان البعد الأمازيغي والمصالحة مع تاريخنا العريق الضارب بجذوره في أعماق الماضي السحيق سيقضي على الفكر الكولونيالي المدمر الذي حاولت به فرنسا تخريبنا وتمزيقنا بسمومه عن طريق زرع الفرقة بين الجزائريين، خاصة بتوظيف التراث الأمازيغي، بل وأكثر من ذلك عن طريق تقسيم منطقة الزواوة إلى قسمين اثنين: القبائل الصغرى والقبائل الكبرى. والجدير بالذكر أن د/ محمد العربي ولد خليفة قد سبق له أن ترجم إلى اللغة العربية فصلا من كتاب (المسلمون الجزائريون وفرنسا) للمؤرخ الفرنسي شارل‮ روبير‮ أجيرون‮ خاص‮ ب‮ (‬السياسة‮ الفرنسية‮ القبائلية‮) تحت‮ عنوان‮: (‬المجتمع‮ الجزائري‮ في‮ مخبر‮ الإيديولوجية‮ الكولونيالية‮).‬ ومن دواعي القلق أن هذه الكتابات الكولونيالية المتميزة بكثرة سمومها وبقلة معارفها، مازالت تشكل مادة تاريخية دسمة تسوق للقارئ وتقدم للطالب دون تمحيص وتحليل في كثير من مكتباتنا ومؤسساتنا التعليمية بمختلف أطوارها.
إن ما يجب أن يعرفه الجميع أن العمق الحقيقي لمنطقة القبائل -كما أكده المؤلف- هو: (شبكة الزوايا المترامية الأطراف والمعمرات أو كتاتيب تعليم القرآن والعربية والتي تربى فيها أبو يوغرطة واستظل بأشجار تينها وزيتونها -ص275-)، كما انفتح مولود قاسم نايت بلقاسم على اللغات‮ العالمية‮ الأخرى‮ للاستفادة‮ من‮ علوم‮ ومعارف‮ الآخرين‮.‬ وبث هذه الأفكار بصفة خاصة في ثنايا مجلة (الأصالة) الغراء المتميزة بانفتاحها على الأفكار المتباينة، هذا وقد أعلن مؤلف الكتاب د/ محمد العربي ولد خليفة عن استعداده -بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية- للتعاون مع المجلس الإسلامي الأعلى لجمع أعدادها وإعادة نشرها‮ خدمة‮ للأجيال‮. ومما‮ تجدر‮ الإشارة‮ إليه‮ أن‮ المرحوم‮ مولود‮ قاسم‮ نايت‮ بلقاسم‮ قد‮ أثرى‮ القاموس‮ العربي‮ بعدة‮ مصطلحات‮ فكرية،‮ ذكر‮ منها‮ المؤلف‮ ثلاثة‮ وهي‮ (‬الانبطاح‮) و‮(‬المركوبية‮) و‮(‬الاستدمار‮). هذا وقد خلص المؤلف إلى تقديم توصية تدعو إلى ضرورة دراسة مؤلفات مولود قاسم نايت بلقاسم في كليات العلوم الاجتماعية والشريعة وأصول الدين، ومن شأن ذلك أن يسد ثغرة تخلف علم الاجتماع الديني الذي عاينه المؤلف. أما الشخصية الفكرية الثانية المذكورة في عهد ما بعد الاستقلال والبارزة بدورها الرائد في رسم معالم الطريق نحو التفكير والإبداع فهي تتمثل في شخص الدكتور المرحوم (أبو العيد دودو)، فقد بوأه المؤلف صدارة ركب النابغين من أدباء الجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين، باعتباره مثقفا مخلصا لوطنه ولغته التي ساهم إلى حد كبير في إثرائها بما ترجمه من معارف وروائع المكتبة الألمانية، إذ لم يشغله رغد العيش الذي وفرته له لغة هيجل -برأي المؤلف- بل اختار الانتماء لوطنه وتضميد جراح مجتمعه الهوياتية الناجمة عن سياسة المسخ الاستدمارية،‮ والحق‮ أنه‮ قامة‮ فكرية‮ كبيرة‮ باعتباره‮ (‬مدرسة‮ في‮ فن‮ القصة والرواية،‮ وأحد‮ أعلام‮ الترجمة،‮ مع‮ حنفي‮ بن‮ عيسى‮ وإسماعيل‮ العربي‮ -‬ص277‮-).‬
ومما‮ لا‮ يختلف‮ فيه‮ عاقلان‮ أن‮ الجزائر‮ السائرة‮ في‮ طريق‮ النمو‮ والرقي‮ قادرة‮ على‮ إنجاب‮ النخب‮ المتنورة‮ التي‮ قد‮ تتجاوز‮ السلف‮ بما‮ تعطيه‮ من‮ دفع‮ للمجتمع‮ نحو‮ التحديث‮. هذا وقد حظيت الإشكالية الهوياتية وعلاقتها باللغة التي تعاني منها النخب في الفضاء المغاربي عموما والجزائري بصفة خاصة، باهتمام المؤلف الذي ركز على ضرورة تجاوز التنافر القائم بين المتحدثين باللغتين العربية والفرنسية، وذلك بتبني فكر الحركة الوطنية كمرجعية. ومن‮ جهة‮ أخرى‮ فإن‮ المؤلف‮ لم‮ يهمل‮ البعد‮ الإفريقي‮ للجزائر‮ على‮ الصعيدين‮ الثقافي‮ والجيو‮ سياسي،‮ وما‮ قدمته‮ للقارة‮ الإفريقية‮ من‮ إسهامات‮ خاصة‮ في‮ النصف‮ الثاني‮ من‮ القرن‮ العشرين‮.‬ هذا ومن الأسئلة ذات الوجع الغائر في نفس المفكر د/ محمد العربي ولد خليفة التي طرحها على الذات، ذلك السؤال الذي تمحور حول الحصيلة التي يمكن تقديمها عن مشروع النهضة المعطل بعد مرور قرن ونصف القرن عن ذلك الخطاب الحاضن له والطافح بأفكار عودة الوعي والتنمية والوحدة وتحديث الدولة والمجتمع؟ وما هي منجزات حركة التحرير الوطنية بعد مرور نصف قرن عن النضال والتضحيات؟ وكيف نقيم مسار بلدان المنطقة التي هبت شعوبها ونخبها لحمل مشعل النضال ضد الاستعمار وصنوه التخلف؟
ومن نافلة القول التذكير أنه ليس من الحكمة أن ينساق المرء وراء الأرقام والنسب المخادعة التي تتجاهل الهوة الشاسعة بين المنطقة العربية والعالم المتطور، والتي دأبت بعض النخب الفكرية والسياسية على تقديمها لتبرير الكارثة والإخفاق وتراجع قيم الحركة التحررية المتجلية‮ بالخصوص‮ في‮ مؤتمر‮ باندونغ‮ والثورة‮ الجزائرية،‮ ولعل‮ من‮ العواقب‮ الوخيمة‮ لتراجع‮ هذه‮ القيم‮ أن‮ ارتمت‮ أغلبية‮ بلدان‮ الكتلة‮ الاشتراكية‮ من‮ العالم‮ الثالث‮ في‮ أحضان‮ الليبرالية‮. وبغض‮ النظر‮ عن‮ هذه‮ الأرقام‮ فإن‮ المهم‮ -‬برأي‮ المؤلف-‬‮ هو‮ تقييمنا‮ نحن‮ لأوضاعنا‮ بعد‮ مرور‮ نصف‮ قرن‮ على‮ رحيل‮ الاستعمار،‮ وكذا‮ تقييم‮ الغرب‮ لنا،‮ هذا‮ الغرب‮ الذي‮ لم‮ ننجح‮ في‮ عقلنة‮ العلاقات‮ معه‮. ولئن كانت حصة الأسد من مسؤولية تخلفنا يتحملها الاستعمار، فإن ذلك لا يعفي منها -برأي الكاتب- نخبنا الثقافية والسياسية والمجتمع المدني التي دأبت على التملص من مسؤوليتها في شأن الإخفاق وإهدار الفرص، فالتغيير ينطلق من الذات، وهذا مصداقا لقوله تعالى (إن الله لا‮ يغير‮ ما‮ بقوم‮ حتى‮ يغيروا‮ ما‮ بأنفسهم‮)‬.‬ ومن الأمثلة الساطعة التي قدمها المؤلف على اغتيال العقل، إنتاج العالم العربي الإسلامي قبل ظهور المطبعة حوالي أربعة ملايين مخطوط، مقابل ستين ألف مخطوط يوناني قديم وأربعين ألف مخطوط لاتيني فقط، ولم يدرس من تراثنا هذا إلا النزر اليسير بسبب الإهمال وغياب الكفاءة،‮ لذلك‮ شبه‮ المؤلف‮ "‬الثلم‮" الضارب‮ في‮ تاريخنا‮ بثقب‮ طبقة‮ الأوزون‮. ومما زاد الطين بلة أن هذا الكم الهائل من التراث يتعرض للنهب المنظم لبيعه في الأسواق العالمية، وتعتبر مدينة (تامبوكتو) الزاخرة بالحضارة العربية الإسلامية مثالا حيا للخطر المحدق بتراثنا الإسلامي. وفي الوقت الذي يعاني فيه عالمنا العربي من التخمة المالية، فإن ما‮ ننشره‮ من‮ كتب‮ ومطبوعات‮ يكاد‮ لا‮ يذكر،‮ إذ‮ لا‮ يتعدى‮ 100‮/‬1‮ من‮ مجموع‮ ما‮ ينشر‮ في‮ العالم‮.‬
أما (الترجمة) التي تعد ثالثة الأثافي في تحديث المجتمع واستيعاب العلوم والمعارف المنتجة باللغات الأخرى والانفتاح على العالم، فحدث ولا حرج، إذ لا يتعدى معدل الكتب المترجمة ألف كتاب في القرن. لذلك فمن الطبيعي ألا تصنف جامعاتنا ضمن قائمة المؤسسات العلمية المهتمة‮ بالتربية‮ والبحث‮ العلمي،‮ خاصة‮ من‮ طرف‮ مجلة‮ (‬تايم‮ Times‮)‬،‮ فمن‮ مجموع‮ (‬500‮) جامعة‮ مصنفة‮ عالميا‮ سنة‮ 2006م‮ فإنه‮ لم‮ يرد‮ إلا‮ اسم‮ جامعة‮ القاهرة‮ في‮ مرتبة‮ (‬401‮).‬ وبموازاة عزوف الأنظمة العربية عن الاستثمار في مجالات البحث العلمي، فإن بلدان الخليج العربي قد أنفقت على حرب الخليج خلال فترة (1990- 2004 ) حوالي (670) مليار دولار من أجل إخراج الجيش العراقي من الكويت، و(1000) مليار دولار في سياق تداعيات احتلال أمريكا وبريطانيا‮ للعراق‮. وذكر‮ المؤلف‮ أيضا‮ أنه‮ رغم‮ الإنفاق‮ على‮ التسلح‮ بسخاء‮ فإن‮ الأنظمة‮ العربية‮ لم‮ تحقق‮ أي‮ انتصار‮ على‮ إسرائيل‮ منذ‮ 1948م‮.‬ ورغم تمادي إسرائيل في إذلال العرب فإنهم عجزوا عن تحويل ما يملكونه من أوراق قوية إلى وسيلة للضغط. وهكذا فشلت المنطقة العربية -دولا وأمة- في كسب أي مكسب استراتيجي. وفي الوقت الذي التزم فيه الجميع السكوت عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، فهناك بعض الأصوات التي عبرت عن قلقها إزاء سعي إيران إلى تطوير طاقتها النووية. كما لاحظ المؤلف أن خضوع العرب للسيطرة الأمريكية يزداد اطرادا كلما تمادت أمريكا في دعمها لإسرائيل، ومن جهة أخرى صارت منطقة الخليج -الغنية بمصادر الطاقة- تحت رحمة القوة العسكرية الأمريكية التي تراقبها برا‮ وبحرا‮ وجوا،‮ ليخلص‮ المؤلف‮ إلى‮ سؤال‮ هام‮ مفاده‮: هل‮ ستقع‮ بلدان‮ الخليج‮ في‮ الفخ‮ مثلما‮ حدث‮ لها‮ ما‮ بين‮ (‬1980‮-‬1988‮) خلال‮ الحرب‮ التي‮ دمرت‮ إيران؟
وذكر المؤلف تحت عنوان (الإشكالية والحل) أنه من السذاجة تصديق الأكذوبة الغربية التي تفسر تخلف المنطقة العربية بالعامل الديني والإرث التاريخي. فهناك من المثقفين والسياسيين الغربيين -الذين رفضوا بيع ضمائرهم للوبيات الصهيونية القوية- من يدرك تمام الإدراك أن هذا الموقف لا أساس له من الصحة، بدليل أن الإدارة الأمريكية تفتح جلسات أعمالها بأداء الطقوس المسيحية. ومن مظاهر الخضوع التي لاحظها أيضا المؤلف في المنطقة العربية، تبني أهلها للمصطلحات الفكرية والسياسية الغربية المسيئة إلى العرب، منها: الشرق الأوسط الكبير، الشرق الأوسط الجديد، المسلمون، الإسلاميون، الاسلاموية. في حين لا ينسب المثقفون في القارات الاخرى إلى دياناتهم أو مذاهبهم (مسيحي كاثوليكي، مسيحي بروتستانتي، مسيحي أمريكي، مسيحي أوروبي، مثقف بوذي، مثقف براهماني... الخ). وتساءل المؤلف متى ستبزغ النهضة الحقيقية؟ هل ستتزامن مع توقيت جرينتش؟ هل ستنطلق ظاهرة النهضة من المركز نحو الأطراف؟ وكيف سيحدد موقع هذا المركز؟ أليس الإسلام الجامع للروح والعقل والداعي إلى التمعن في اختلاف الكون ومن عليه، مرشحا لبعث النهضة؟ إن ما يستخلص من مقاربة المفكر محمد العربي ولد خليفة أن الخلل يكمن في ابتعاد أهل المنطقة العربية الإسلامية عن الإسلام الصحيح الذي جاء لتكريم الانسان بالحرية والعقل والعدل، وكذا في عدم الاستفادة من تجارب الآخرين جراء عدم عقلنة العلاقات مع الغرب، الأمر الذي أدى إلى فقدان الانسان العربي لحريته بفعل اعتقال العقل، نتيجة تعطيل الاجتهاد وتغييب حوار الأفكار، لذلك لم يعد ممكنا نقد الغفلة السياسية التي أبعدت الأمة عن قيم العمل المنتج والعدل والتضامن والأخوة في الإنسانية بغض النظر عن الجغرافية واللون والعرق والعقيدة، وتقدير الكفاءة البشرية. إن قيم الحرية والعدل والتقدم -برأي المؤلف- لا تستورد من الخارج ولو في إطار قرارات هيئة الأمم المتحدة، لأن التغيير ظاهرة اجتماعية متأنية تنضج في المجتمع بروافده المختلفة وفق صيرورة طبيعية، ولا يولد بقرار. وفيما يخص الجزائريين فإن المؤلف‮ قد‮ توسم‮ فيهم‮ خيرا‮ لما‮ يتميزون‮ به‮ من‮ حركية‮ ووطنية‮ أينما‮ وجدوا‮.
ولعل خير ما أنهي به هذه (القراءة) جملة مركزة للمؤلف وردت في مدخل الكتاب في سياق حديثه عن الخروج من المأزق التاريخي المطبق على الأمة مشرقا ومغربا جاء فيها قوله: (... وذلك بالمصالحة بين العقل والروح، وتسريع التنمية وتغذية الثقافة الديمقراطية وتوطين الحداثة، وهي‮ الشروط‮ التي‮ لا‮ غناء‮ عنها‮ للمشاركة‮ في‮ حركة‮ التاريخ‮ -‬ص30‮-).‬ هذا والحق أن هذه القراءة لا تعدو أن تكون غيضا من فيض مما ورد في الكتاب، لذلك فهي لا تغني عن قراءته بالتفصيل. واعتبارا لأهمية الموضوع المعالج فإنني أقترح على جريدتنا الغراء نشره في ركن (كتاب الشروق).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.